كثيرة هي النصوص التي تناولت فدوى طوقان (1917م – 2003م)، الشاعرة والأديبة الفلسطينيّة المولودة في مدينة نابلس. طوقان المُلقَّبة بـ “شاعرة فلسطين” بسبب ريادتها الشعرية، حظيت بكم كبير من الدراسات النقدية التي تناولت سيرتها وشِعرها ونثرها، وانخراطها في الشأن العام وفي العمل الاجتماعي والسياسي، ولا سيَّما فيما يخص القضية الفلسطينية، وعلاقتها بكِبار المُبدعين العرب، وبخاصة الشعراء منهم، مثل: محمود درويش وسميح القاسم والكاتبة والأديبة سميرة عزّام والشاعرتَيْن سلمى الخضراء الجيّوسي ونازك الملائكة. كما كانت طوقان موضوع عدد كبير من الأدبيّات التي تراوحت بين أطروحات جامعية ودراسات أكاديمية ومقالات صحفية سريعة وأخرى بحثية طويلة وكُتب، إضافة إلى الحوارات التي جرتْ معها، والتي وثَّق الدكتور يوسف بكّار غالبيتها في كتابه “حوارات فدوى طوقان” (2019م)، بعدما أضاف إليه حوارات لم تضمها صفحات الكِتاب في طبعته الأولى.
لا يتسع المجال في هذه المقالة لإيفاء فدوى طوقان حقها، نظرًا لتعدد مواهبها وكثرة ما كُتِبَ عنها. لكن تبقى سيرة حياتها التي سطَّرتها بنفسها عن نفسها “رحلة جبليّة.. رحلة صعبة”، والتي باتت مكشوفةً على الملأ، من أبرز الأدبيّات التي تُعرف بها. فقد كشفَت فيها كيف تضافرت ظروفها الحياتية والاجتماعية والسياسية كلها لتجعَل منها “فدوى طوقان”، رمز النضال ضد عادات وتقاليد آلمَتْها، حتى أضحت الكتابة لديها، سواء أكانت شعرًا أم نثرًا، بمنزلة إصرار على نقْد هذه العادات والتقاليد وإصلاحها وتطويرها، وحاجة متأصِّلة فيها.
وكما تكشف لنا سيرتها الذاتية “رحلة جبليّة.. رحلة صعبة”، فإن حياتها لم ينفصل فيها “الداخل” أو “الذات الفردية” أو “الخاص” عن “الخارج” أو “الذات الجماعية” أو “العام”. والصدى الإيجابي لسيرتها لدى القرّاء العرب عمومًا، لا يكمن فيما رَوَتْ من أحداث ووقائع فحسب، بل في تأويلها الذاتي لتلك الأحداث والوقائع، وخصوصًا أن السيرة الذاتية كما حدّدها عبدالعزيز شرف في كتابه “أدب السيرة الذاتية”، تخضع لمنطق العمل الفني، الذي لا يُصبح ترجمة حياة، وإنما تأويل حياة، وحيث تغدو مسألة الصدق الفني تعبيرًا عن “أصالة الكاتب في تعبيره، ورجوعه فيه إلى ذاتِ نفسه لا إلى العبارات التقليدية المحفوظة”.
الصدق.. رغم عدم كشف كل الأوراق
لعل عملية التأويل التي رافقت كتابة طوقان لسيرتها، فضلًا عن الصدق الفني الذي قَوْلَبَ عملها وشكَّله، كانا العنصرين الأساسين المُتداخليْن اللذين منحا سيرتها تلك الريادة في كتابة السيرة الذاتية النسائية بشكلها الحديث والمُعاصر، وجعل من وعدِها القرّاء بأنها لا تكشف عن أوراق حياتها كلها، على الرّغم من تعهُّدها بالصدق، قيمة مُضافة على صدقيّتها تلك. هذا الميثاق الذي وقَّعته مع القارئ كان ضروريًا؛ لأن ما تبوح به ينتمي إلى الحقيقي وليس إلى المتخيّل. ومن هنا، وردت مقولتها المأثورة: “لم أفتح خزانة حياتي كلها، فليس من الضروري أن ننبش كل الخصوصيات. هناك أشياء عزيزة ونفيسة، نؤثر أن نُبقيها كامنةً في زاوية من أرواحنا بعيدة عن العيون المتطفِّلة، فلا بدَّ من إبقاء الغلالة منسدلة على بعض جوانب هذه الروح صَونًا لها من الابتذال”. ولكأنَّ فدوى طوقان، بسيرتها الذاتية الأدبية هذه، أدركت مبكّرًا أهمية تغليب الصدق الفني على الصدق بمعناه الشائع؛ أي بوصفه نقلًا لكل العناصر الحياتية المُعاشة على حالها، وتفضيلها النَّوع الأول على الثاني.
“تضافرت ظروفها الحياتية والاجتماعية والوطنية كلها لتجعل منها رمزًا للنضال على المستويين الخاص والعام، وضد تقاليد بات تغييرها ضروريًا”.
هذا الصدق الفني هو ما ولَّد تلك الرابطة التي أقامتها الشاعرة طوقان بينها وبين قرّائها، ولاسيَّما النساء، وشكَّل عنصرًا تركيبيًّا مُهمًا في سيرتها الذاتيّة، في محاولتها البحث في دواخل نفسها، والتعبير عن تجارب حياتها، وبثّ كل ما تختزنه من قِيَم صلبة على أنواعها: من القيَم الأخلاقية، إلى الوطنية، والتحرّرية… إلخ. ولعل هذا الصدق الفني الذي تجلّى في التجربة الحياتية لطوقان كما رأتها هي بنفسها، وكما قامت هي بتأويلها وبفلسفتها، وليس بحسب توقُّع القارئ أو فهمه لمبدأ “الصدق”، هو الذي ولَّد أيضًا وظيفةً تواصلية بين حياتها وحياة النساء في مُجتمعاتنا الأبوية والذكورية، وكرَّس تلك الرابطة مع السيرة وصاحبتها.
هي الرقم السابع بين عشرة أولاد. بقي تاريخ ميلادها مجهولًا حتى عام 1950م، التاريخ الذي اضطرّت فيه إلى استخراج أول جواز سفر لها. فكان تاريخ استشهاد ابن عمّ الأم هو المصدر الموثوق الذي تمكّنت طوقان من خلاله التيقُّن من تاريخ ميلادها. إذ طلبت، آنذاك، من أمِّها أن تدلّها على قبر ابن عمّها قائلة: “… لم يبقَ أمامي إلا أن أستخرج شهادة ميلادي من شاهدة قبر ابن عمّكِ”. وحيث إن عدم الاعتراف بها واكبه حرمان مادي ومعنوي من قِبل الوالدَيْن: “كنتُ أتلهّف للحصول على حبّ أبوَي واهتمام خاص وتحقيق رغبات لم يُحقِّقاها لي في يوم ما”. وحيث المعاملة القاسية والفظّة من أمِّها رافقها تعنيف معنوي أسهم فيه شحوب الطفلة فدوى ونحولها، اللّذان شكَّلا مصدرًا للتندُّر والفكاهة، وإطلاق النعوت الجارحة عليها: “تعالي يا صفراء، روحي يا خضراء”.
أثر نشأتها في نابلس
ولطالما انتظرت الطفلة من والدتها أن تروي لها شيئًا عن طفولتها، مثلما كانت تفعل مع أبنائها الآخرين. لكن الانتظار كان من دون جدوى، فتشعر الطفلة بنوع من الانكماش الداخلي: “أنكمش في داخلي، وأحسّ بلا شيئيّتي: إنني لا شيء، وليس لي مكان في ذاكرتها…”. في حين أن علاقتها بوالدها لم تكن أفضل حالًا. كان إذا أراد أن يبلغها أمرًا يستخدم صيغة الغائب حتى لو كانت حاضرةً أمامه: “كان يقول لأمي: قولي للبنت تفعل كذا وكذا…”.
البيت الأثري الكبير، كسائر بيوت نابلس القديمة، صار موازيًا من منظورها الخاص لقصور الحريم. لأن هذه البيوت هُندست كي “تتلاءم وضرورات النظام الإقطاعي”. ففي هذا البيت تقول طوقان: “وبين جدرانه العالية التي تحجب كل العالم الخارجي عن جماعة “الحريم” الموءودة فيه، انسحقت طفولتي وصباي وجزء غير قليل من شبابي”.
هذا البيت، السجن، حيث السلطة المُطلقة للرجل والطاعة الكاملة للمرأة، ولَّد لديها شعورًا بالعبودية والقسر، ولا سيَّما أن المرأة فيه هي ملكية رجال العائلة الممتدة كلها. حتى إن ابن عمّها مزَّق ذات يوم فستانًا كانت ترتديه، ليس بسبب افتقاره إلى الحشمة مثلًا، وإنما بسبب إضفائه مظهرًا جميلًا عليها. لذا، جاهرت طوقان صراحةً بسلطة العائلة وبذكورية المجتمع، ووصفت بكل صدق عاطفتها تجاه أبيها المتشدد: “لم أكن أحمل لأبي عاطفة قوية، بل ظلَّ شعوري تجاهه أقرب ما يكون إلى الحيادية، لم أبغضه، ولكنني لم أحبّه”. وعندما وصفت السفر على أنه أصبح من أحلامها الثابتة، برَّرت ميلها إليه بأنه حُلُمَ أكثر الذين عانوا “عيشة الحيوانات” وراء قضبان الأقفاص الحديدية. وأكّدت ذلك قائلة: “ولقد كنتُ أعيش تلك العيشة فعلًا…”.
“أدركت مبكّرًا أهمية تغليب الصدق الفني على الصدق بمعناه الشائع؛ أي بوصفه نقلًا لكل العناصر الحياتية على حالها، وهذا ما متَّن علاقتها بالقرّاء”.
يا عينَيْن قفا نبكِ
لم تكتفِ فدوى طوقان بالتعبير لمجرّد التعبير، ولم تهدف من خلال سيرتها إلى تحويل القارئ إلى متلصّص، بل كان لها هدف محدَّد هو سرد العوائق والصعوبات الحياتية التي واجهتها، وكفاحها في جعل سيرتها الحياتية عبرة للآخرين. وبالطبع من دون أن يكون المقصود من العبرة الوعظ والإرشاد والخطابة الرنّانة، بل إضفاء قيمة على الحياة بجعلها ذات معنى. وهذا ما يشكِّل أحد أبرز عناوين مفهوم القيَم “الصلبة” التي يفتقدها زمننا الحالي شيئًا فشيئًا، زمن التقدم التقني الذي يُختزَل ببُعده التقني، وتُهمل جوانبه الجمالية والفكرية والروحية والأخلاقية على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي ميشيل هنري؛ حيث “ينتشر العالَم التقني انتشار السرطان، فيتولَّد ذاتيًا ويسير على هواه، في غياب أي ضابط وغير عابئ بكل ما ليس هو، غير عابئ بالحياة”.
تقول طوقان في سيرتها: “لعل في هذه القصة إضافة خيط من الشعاع ينعكس أمام السائرين في الدروب الصعبة. وأحبّ أن أضيف هذه الحقيقة وهي أن الكفاح من أجل تحقيق الذات يكفي لملء قلوبنا وإعطاء حياتنا معنى وقيمة”. وهو ما يتوافق مع مبادئها المرتبطة بالرضا عن الذات، من النواحي الخلقية والإنسانية والفكرية والأدبية كافة. هي التي حاولت إثبات وجودها بخدمة فلسطين والمجتمع العربي بأسره. وهي التي كتبت قصيدة “لن أبكي” المُهداة إلى شعراء المقاومة في الأرض المحتلة منذ عشرين عامًا.. تقول في مطلعها:
على أبواب يافا يا أحبّائي وفي فوضى حطام الدورْ بين الردمِ والشوكِ وقفتُ وقلتُ للعينين: يا عينَيْن قفا نبكِ على أطلالِ من رحلوا وفاتوها تنادي من بناها الدارْ وتنعى من بناها الدارْ وأنَّ القلبُ منسحقًا وقال القلب: ما فعلتْ؟
وتكشف استفاضة فدوى طوقان في وصف تطورها الشعري وتطوُّر نتاجها منذ نشر أول قصيدة لها في صحيفة “مرآة الشرق” في عام 1932م، حتى تاريخ تحوّلها إلى شاعرة مرموقة، عن ذاك البُعد التأويلي لسيرتها. فقد عمدت إلى التحليل الذاتي أحيانًا خلال سردها هذه التحولات، ومن ذلك مثلًا قولها: “ظلت محاولاتي الشعرية تدور أكثر ما تدور حول مشاعري وآلامي الخاصة”، أو تقييمها أيضًا كتاباتها في الشعر الوطني، وذلك في موازاة انفتاح هذا التقييم على ظروفها الحياتية الحميمة والبائسة. ففي المناخ السياسي الفلسطيني المُقاوم للبريطانيين، لم يكن بمقدورها كتابة الشعر الوطني الذي طالما تمنّى أبوها أن تكتبه لتحلّ مكان أخيها الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان الذي خطفه الموتُ مُبكّرًا، والذي كان مصدر الحنان بالنسبة إليها، والذي نظمت الشعر وواصلت الدراسة والمطالعة بدايةً تحت رعايته: “كنتُ أحاول الاستجابة إلى رغبات أبي لكي أرضيه وأكسب محبّته، ولكن أعماقي كانت تحتج وترفض وتتمرّد. إذا لم أكن متحرّرة اجتماعيًا فكيف أستطيع أن أُكافح بقلمي من أجل التحرّر السياسي أو العقائدي أو الوطني؟ وظلّ يعوزني الاختمار السياسي كما كنت أفتقر إلى البُعد الاجتماعي؛ لم يكن لدي سوى ذاك البُعد الأدبي، وكان بُعدًا ناقصًا”.
“لم تهدف من خلال سيرتها إلى تحويل القارئ إلى متلصّص، بل كان لها هدف محدَّد هو سرد العوائق والصعوبات الحياتية التي واجهتها”.
موت والدها فكّ عقدة لسانها
مع موت والدها الذي تزامن مع “ضجة السقوط” في عام 1948م، انفكت عقدة لسانها، كما ورد على لسانها قبل أن تضيف قائلة: “ورحتُ أكتب الشعر الوطني الذي طالما تمنّى أبي لو يراني أتفرغ له؛ فأملأ مكان إبراهيم. لقد كتبتُ ذلك الشعر بصورة تلقائية ومن دون أي إلزام من الخارج”.
طوقان القوية، طوقان الصلبة والشاعرة المشهورة عبَّرت من خلال هذا البُعد التأويلي أيضًا عن كيفية انتصاب الحواجز في أعماق الذات، ولا سيَّما داخل الذات الأنثوية، نتيجة الموروثات الاجتماعية والثقافية المُعادية للأنثى كجنس، وجسَّدت فيه، ومن خلاله، تجربتها في تجاوز هذه الموروثات لتجعل حياتها ذات معنى، على الرغم مما ولَّد لديها ذلك من جراح ومن شعور بالشفقة على الذات ومن ميل إلى الحزن لم يُفارقها قطُّ طوال حياتها. لكنها في ذلك كله كشفت كم كانت تحوّلاتها التي قامت هي نفسها بتأويلها، غير اعتباطية؛ لاستنادها إلى قيَم معرفية وحياتية صلبة يفتقدها زمننا الحالي، في عالَم وصفه الفيلسوف وعالِم الاجتماع الفرنسي جان بودريار كعالَم “تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يُصبح المعنى فيه أقل فأقل”.
الشاعرة طوقان، التي عاصرت ضياع فلسطين واندفاعات المد القومي والاشتراكي والديمقراطي وما حملته من وعود، وعلى رأسها تحرير فلسطين، رأيناها وهي تشهد انهيار القيَم والمرتكزات الصلبة في أواخر تسعينيات القرن الماضي، والتي كانت تُضفي معنى على الحياة، وترثي لحالة الشعراء في ظلّ ظروف كهذه.
صباح الخير ….. رفيف.
سلم فكرك و أسلوبك الرصين؛ المتنزه عن الحشو والرامي إلى الإفهام و الإعلام؛
أوجزت عن الراحلة على نحو يمنح من لم يسبق له معرفتها خطوطا عامة؛ تثري معرفته و تدفعه للاستزادة.
ممتنة لله على توفيقي لقراءة المقالز
دمتِ بخير.