مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

أوبرا تمد جسور البصيرة العربية إلى العالم

زرقاء اليمامة


أ‌. د. خالد أمين

توافرت لأوبرا “زرقاء اليمامة” مواهب كبيرة في كل عناصرها. فقد أبدع نصها الكاتب والمسرحي صالح زمانان، وكتب موسيقاها المؤلف الموسيقي الأسترالي لي برادشو، وأخرجها السويسري دانييلي فينزي باسكا، وتضم مجموعة من المغنين البارزين في العالم تتقدمهم مغنية الميزو سوبرانو الشهيرة سارة كونولي، وكليف بايلي، وأوميليا وورزون، وباريد كاتالو، مع تسعة من الأسماء السعودية البارزة بينهم خيران الزهراني وسوسن البهيتي وريماز العقبي.

مؤلف الأوبرا، صالح زمانان، صوت بارز من الجيل المعاصر. يمزج في أعماله بين الشعر والمسرح بطريقة تجمع بين طاقة الشعر وعناصر الدراما المسرحية؛ ليخلق بهذا المزيج صوتًا فريدًا ومؤثرًا في الأدب السعودي المعاصر. كما تنقلنا نصوصه وأشعاره إلى عوالم خيالية غنية؛ فهو يرسم لوحات فنية بالكلمات، ويستحضر بها همسات الخلود وصيحات الأقاصي، فلديه مقدرة فذّة في الوصول إلى تراتيل الرعاة القديمة، وفي تجسيد أصوات الصحراء العربية وأجوائها المُلغّزة، وتتعمق أعماله في موضوعات الأساطير والخصوبة والروح الإنسانية الخالدة. ويمنحه هذا المنظور الجديد القدرة على استكشاف الموضوعات والمشاعر بطرق جديدة ومحفّزة.

نص “زرقاء اليمامة” مستوحى من الحكايات التاريخية، يمزج بين الواقع والخيال، وبين التاريخ والفنتازيا. وهو مستلهم من حكاية “زرقاء اليمامة”، المرأة ذات العينين الزرقاوين من قبيلة “جديس”، والتي كانت تتمتع بقدرة على رؤية الأشياء من على بعد مسيرة ثلاثة أيام. فالكاتب لجأ إلى التراث العريق مرتكزًا على الفنتازيا واستخدم حريته كمبدع؛ فأضاف شخصيات غير موجودة في المرويات التاريخية لرفع مستوى درامية الحدث، مثل شخصية “نوفل” (فارس قبيلة جديس وحبيب عفيرة). كما غرس مفاهيم وذهنيات خاصة للجوقة بوصفها “صوت العرب البائدة” مع حمولاتها المعرفية وأحزانها، وأضاف إلى مشهد العرس ومشهد الزرقاء الأخير لونين فولكلوريين من منطقة اليمامة (نجد المعاصرة): “الهجيني” و “سامري العارض”.

الأمير بدر بن عبد الله بن محمد بن فرحان آل سعود.
صالح زمانان.

استلهم صالح زمانان حكاية “زرقاء اليمامة” ليبدع نصًا معاصرًا يحمل ثقل الذكريات القديمة، وقدّم شخصية “زرقاء” بوصفها مجسدة للحكمة والبصيرة المتجذرة في تقاليد الصحراء العربية.

زرقاء البصيرة قبل البصر

يقدم العمل شخصية “زرقاء” بوصفها مجسدة للحكمة والفهم العميق، والبصيرة المتجذرة في تقاليد الصحراء العربية. بالإضافة إلى ذلك، تمثل “زرقاء”، بحسب العمل، حكمة منطقة نجد تحديدًا، وهي منطقة ذات أهمية تاريخية معروفة بتقاليدها الفكرية والعلمية. وميزة شخصية “زرقاء” الأساسية لم تكن قوة البصر، بل البصيرة.

ففي إحدى القصص، حذرت زرقاء قومها من أشجار تسير نحوهم. كان الأعداء قد علموا بقوة بصرها، لذلك قطعوا الأشجار واستتروا بها حتى لا تكشفهم. وعندما أخبرت زرقاء قومها بما رأته، لم يصدقوها وسخروا منها. ولكن عندما أطبق الأعداء عليهم وباغتوهم، أدركوا صدق زرقاء، ولكن بعد فوات الأوان. هكذا أصبحت “زرقاء” استعارة ممتدة لقوة البصيرة واكتسبت شهرة منقطعة النظير.

نبوءة زرقاء تجاوزت حدود الأزمنة والأمكنة؛ إذ نجد صداها في مسرحية ماكبث، إحدى روائع شكسبير (رغم صمت النقد الغربي عن الأصول العربية)، من خلال النبوءة التي حكمت مصير ماكبث. ففي ثنايا المسرحية الشهيرة، تبرز نبوءة “غابة بيرنام” كرمز مصيريّ يُنبئ بسقوط الطاغية، ويُعلن انتصار الحقّ على الباطل. وكأنّها لوحةٌ فنيّةٌ مستوحاة من قصة زرقاء اليمامة التي تناقلتها الألسن من جزيرة العرب قبل الإسلام إلى مختلف البقاع. في المشهد الأول من الفصل الرابع من مسرحية ماكبث، تطلق الساحرات الثلاث نبوءتهن المشؤومة إلى ماكبث، الطامع في السلطة. كلماتٌ تشبه ناقوس الخطر، تعلن عن نهاية محتّمة لا مفرّ منها: “تحرك غابة بيرنام إلى تلة دنسيين”؛ إذ تقدم الساحرات نبوءةً تبدو مستحيلةً وخيالية. غابة تتحرك، وأشجار تهاجر من مكانها، فكأنها رمز للقوة الخارقة التي ستواجه ماكبث وتطيح به.

وها هي أسطورة “زرقاء” تنبعث اليوم من جديد لتتجاوز الحدود الممكنة انطلاقًا من أرض اليمامة، وتتفتح على رحابة الشكل الأوبرالي بوصفه إرثًا إنسانيًا. إننا إزاء عرض أوبرالي ضخم تحيط به الكثير من التحديات من قبيل الحرص على أهمية الحفاظ على روح المملكة في العمل شكلًا ومضمونًا، تفاديًا لكل ما من شأنه أن يسقط أوبرا “زرقاء اليمامة” في متاهات النزعة الاستشراقية.

الغناء الأوبرالي والمقامات العربية يمثلان تعبيرين فنيين متباينين يقدمان نقاط قوة فريدة، ويمكن أن يؤدي الفهم العميق لأحدهما إلى تقدير أعمق للآخر.

بين الغناء العربي والأوبرالية الغربية

يتمثل التحدي الأكبر في تعقيد الأسلوب الأوبرالي وارتكازه على الموسيقى بوصفها عنصرًا أساسيًا في الأوبرا؛ إذ تُحرّك الموسيقى الحبكة الدرامية، وتُعبّر عن المشاعر والأحاسيس، وتُعمّق فهمنا للشخصيات، فهي الفاعل الأساس في العرض. والجمل الموسيقية أدائية بامتياز، تقول كل شيء باقتضاب شديد. كما يتميز مغني الأوبرا بقدرة هائلة على الوصول إلى نغمات عالية ومنخفضة، مع تغييرات سريعة في النغمة.

وبينما يتطلب كلٌّ من الغناء الأوبرالي والمقامات العربية إتقانًا للتحكم الصوتي، إلا أنهما يمثلان تعبيرين فنيين متباينين. ففيما يركّز الغناء الأوبرالي على نطاق صوتي واسع ونطق دقيق، مع الاهتمام بجودة الصوت التي تتحقق من خلال تقنية “بيل كانتو” (الأسلوب الذي يعتمد على القدرة التقنية في التحكم بالصوت). ومن ناحية أخرى، تركّز المقامات العربية على العمق العاطفي والارتجال داخل أنماط لحنية محددة. وعلى الرغم من هذا التباين إلا أنّ هناك إمكانية التلاقح والمزج بين التعبيرين الفنيين بشكل إيجابي. فيمكن للمغنين العرب ذوي النطاقات الصوتية القوية الاستفادة من التدريب الأوبرالي لتحسين تحكمهم الصوتي. وفي المقابل، يمكن لمغني الأوبرا استكشاف القوة التعبيرية والزخرفة الدقيقة الموجودة في المقامات العربية لإثراء أداءاتهم. في النهاية، يقدم كلا التقليدين نقاط قوة فريدة، ويمكن أن يؤدي الفهم العميق لأحدهما إلى تقدير أعمق للآخر.

لم يكتفِ الكاتب بإنجاز نص “زرقاء اليمامة”، بل عمل عن كثب مع لي برادشو (المؤلف الموسيقي للأوبرا ومعد الليبريتو) طوال رحلة الانتقال من النص الأوبرالي الأصلي إلى الليبريتو المختصر، ومن العربية إلى الإنجليزية. ونظرًا لقيود الجنس الأوبرالي، اضطر برادشو إلى تقليص بعض المشاهد، فكان الكاتب دائم الحضور في إعادة كتابة المشاهد والأبيات الشعرية لما تقتضيه الضرورة الأوبرالية.

ومن أجل خلق الإنتاج الأوبرالي “زرقاء اليمامة” بشكل فعّال للجمهور السعودي والعالمي، كان التعاون بين مؤلف النص الأصلي ومؤلف الموسيقى الأوبرالية والمخرج دانييلي فينزي باسكا والمصممين والمنتجين ضروريًا. رُوجِع النص مرات عديدة ليتوافق مع الأسلوب الأوبرالي، وكانت بعض المحذوفات ضرورية خدمة للأغراض الأوبرالية؛ وذلك للتحقّق من جوانب أدائية محددة كالمعزوفات المنفردة أو السولوات والسرديات. ومع ذلك، كان لهذه التغييرات في بعض الأحيان تأثير كبير على جوهر القصة.

كان التحدي بالنسبة إلى الموسيقار برادشو يكمن في تلبية كل متطلبات فن الأوبرا، ومراعاة التقاليد الجليلة للموسيقى العربية في الوقت نفسه.

الموسيقار والمغنية والمخرج

بالرغم من أن برادشو كان موسيقيًا مدربًا ويدرك ما يسمعه في معظم الموسيقى التي يختبرها، إلا أنه شعر أن اتباع نهج عقلي في معالجة هذه القصة سيكون مُعيقًا للحدس؛ ذلك أنه موسيقي غريزي. وما فعله هو أن أغرق نفسه أشهرًا في موسيقى المنطقة السعودية احترامًا للثقافات الموسيقية العربية.

تعدد المقامات الموسيقية العربية ينسج خيوطًا لا تُخطئها العين؛ إذ تجمع موسيقى العرب خيوطًا من ألحان وتناغم وإيقاع، تشكِّل جوهر الموسيقى نفسه، وتمنح المستمع إحساسًا مباشرًا بروح الثقافة الموسيقية العربية ورنينها. وهذا النسيج الوصل أثار أشد صدى في نفس الموسيقار برادشو. وكان التحدي بالنسبة إليه يكمن في دمج تلك الروح في عمل أوبرالي ضخم باستخدام الآلات الغربية والأصوات الأوبرالية، مع ضمان مراعاة التقاليد الجليلة للموسيقى العربية ومتطلبات فن الأوبرا في الوقت نفسه.

تُجسد إحدى رسائل لي برادشو تحت عنوان “صوت الهمس.. صوت الرعد” (2022م)، رحلته مع الموسيقى عبر تجارب ملهمة ونضالات إبداعية مماثلة. فقد ألهمته السيمفونية الخامسة لبتهوفن في سن التاسعة، في حين أظهرت له أغنية “أنت الصوت” لجون فارنهام التأثير العاطفي للموسيقى الشعبية. وبهذا واجه صعوبة في الاختيار بين الموسيقى الكلاسيكية والشعبية، ودمج جمالها وتعقيدها في مساره الإبداعي.

أخيرًا، عبّر برادشو عن سعيه لخلق موسيقى جديدة ومفيدة في ألبومه “الروابط التي تربط”، مؤكدًا التزامه بمواصلة رحلته الموسيقية. وها هو اليوم أيضًا ينتصر للمقاربة نفسها في سعيه للبحث عن المشتركات بين الأوبرا والموسيقى العربية.

وبنفس روح الإنصات إلى نبض “زرقاء”، تجسّد مغنية ميزو-سوبرانو الإنجليزية المشهورة سارة كونولي، التي تُعرف بقوة صوتها وحضورها المسرحي الجذاب وتفسيراتها الموسيقية الثاقبة، شخصية “زرقاء اليمامة”. وقد تجلى هذا الإنصات والتفاني في سعيها الحثيث لتعلم نطق الحروف العربية والتمرينات على المقامات العربية أيضًا.

ويُنظر إلى سارة كونولي على نطاق واسع بوصفها إحدى أبرز مغنيات الميزو-سوبرانو في جيلها، وقد زيّنت دُور الأوبرا وقاعات الحفلات الموسيقية المرموقة في جميع أنحاء العالم، من كوفنت جاردن في لندن إلى متحف أوبرا متروبوليتان وكارنيجي هول في نيويورك. واُعترف بموهبتها من خلال جوائز مرموقة مثل جائزة المغني للمجتمع الملكي الفيلهارموني (2012م)، وشرف منحها لقب قائدة رتبة الإمبراطورية البريطانية (2017م). وقد تألقت في مجموعة واسعة من الأدوار الأوبرالية، من دور برانجاني في “تريستان وإيزولد” لفاغنر، إلى دور جيرترود في “هاملت” لبريتن.

أمَّا لمسة المخرج السويسري الإيطالي، دانييلي فينزي باسكا، فقد أضافت المزيد من الدهشة إلى أوبرا “زرقاء اليمامة”. ويُعد دانييلي فنانًا شاملًا، حيث برز في مجالات المسرح والسيرك والأوبرا والسينما. كما تميزت أعماله برؤيته الفريدة التي تمزج بين الكوميديا ​​والرقص واللعب، والتي أطلق عليها “مسرح المداعبة”، مما أثرى عالم الفنون بشكل كبير.

التوجه إلى جمهورين

“زرقاء اليمامة” هي نص معاصر يحمل ثقل الذكريات القديمة. إنها تمثل رحلة نحو المستقبل انطلاقًا من عمل الذاكرة، وتؤكد منظورًا سرديًا يعاند الصورة الاستشراقية النمطية، ويصحّحها بطريقة جماليّة عميقة ومذهلة. فهذا العمل الفني يستهدف بشكل أساس الجمهور السعودي، يليه جمهور دولي أوسع نطاقًا. فالعرض يسعى إلى خلق تجربة هادفة وجذابة: أولًا للمتفرجين المحليين الذين لديهم دراية وثيقة بثقافة المملكة وتقاليدها وتاريخها، وخاصة منطقة نجد. وثانيًا للمشاهدين الدوليين الذين لديهم مستويات مختلفة من المعرفة والاطلاع على الثقافة العربية، وهم موعودون بأوبرا ملهمة وجديدة عما يتذكرون. وقد سعت “زرقاء”، من خلال تلبية احتياجات هذين الجمهورين، إلى سد الفجوات الثقافية وتعزيز التواصل والتفاهم الإنساني وتثمين التراث السعودي الفريد.

هذه الأوبرا هي عمل يتخطى الحواجز الثقافية ويتحدث إلى إنسانيتنا المشتركة؛ لنقف على قوة الفن في بناء الجسور.

أُنجز العمل الأوبرالي “زرقاء اليمامة”، بإشراف من هيئة المسرح والفنون الأدائية، ونجح في إبراز مجموعة من المبدعين والموهوبين الذين أسهموا في تقديم تجربة أوبرالية معاصرة، بملامح متميزة ومتفردة، تتحدث إلينا جميعًا، متتبعة خطى النص الذي انطلق من تأويل ثقافي داخلي يعرّف التراث والرمز واللغة والأسطورة، ويفسّر رموزها وتداعياتها بحدس يعرف طريقه جيدًا وهو يروي للعالم قصة من قلب شبه الجزيرة العربية.

هذا بلا شك إنجاز يُحسب لوزارة الثقافة السعودية ممثلة في هيئة المسرح والفنون الأدائية، حيث يمكن لمس التفاني الدؤوب في غرس الحياة في أوبرا “زرقاء اليمامة”، العمل الذي يتخطى الحواجز الثقافية ويتحدث إلى إنسانيتنا المشتركة؛ لنقف على قوة الفن في بناء الجسور.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “أوبرا زرقاء اليمامة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *