تخيّل لو كان طبيب العائلة مستيقظًا ومتواجدًا بجانبك في وقت متأخر من الليل ليشرح لك التشخيص الطبي لحالتك الصحية، ويصف لك العلاج الملائم في عدة ثوانٍ، أو لو كان لديك محامٍ يحرر لك العقود ويبحث عن الثغرات فيها فيحكمها ويصححها، أو لو كان لديك من يساعدك في إعداد خطة لمشروعك المعقد ويرشدك أثناء العمل عليه وإتمامه. أو تخيل صديقًا يدرس اختيارات حياتك، كتخصص الدراسة الجامعية، وينصحك لاتخاذ القرارات المصيرية. بل تخيل لو كان كل هؤلاء شخصًا واحدًا يعيش بين يديك! هذا ما يبشرنا به مطورو “روبوتات الدردشة” بالذكاء الاصطناعي، فما هي قصة السباق المحموم بين المطورين في هذا المضمار؟ وماذا عن الجانبين المشرق والمظلم من التقنية؟
ديمة العويض
في وقتنا الحاضر، تتقدم عملية تطوير روبوتات الدردشة بالذكاء الاصطناعي بخطوات متسارعة بعد إطلاق تقنيات المساعد الصوتي الشخصي الذكي ودمجها في الهواتف ومكبرات الصوت المنزلية الذكية، حيث أتاحت للفرد إعطاء هذه الأجهزة أوامر تستجيب لها، إما بالإجابة عن الأسئلة من خلال الرسائل الفورية أو بالأصوات الرقمية، أو عبر تطبيق بعض المهام كما في أجهزة المراقبة الآلية المنزلية، وإدارة التقويمات، والبريد الإلكتروني، وغيرها من المهام الاعتيادية.
ومع التطوير المتسارع لروبوتات الدردشة بتطبيقاتها المختلفة، تتحسن التقنية يومًا بعد يوم بشكل يثير دهشة العالم، لكن يمكن القول إنها أخذت زخمًا أكبر في أواخر عام 2022م بعد إطلاق روبوت الدردشة “شات جي بي تي” (ChatGPT) بواسطة شركة “أوبن إيه آي” (OpenAI)، وهي شركة متخصصة في أبحاث الذكاء الاصطناعي؛ إذ دُرّب روبوت الدردشة هذا على مجموعة بيانات ضخمة من النصوص لتوليد استجابات شبيهة بالإنسان، فجذب الكثير من الاهتمام والمستخدمين بسبب قدراته المتقدمة في المحادثة وإمكانية الوصول المجاني إليه.
الشركات تتسابق.. والطريق طويل
أصبح “شات جي بي تي” رائجًا لأنه التطبيق الأسرع نموًا حتى الآن، وذلك وفقًا لتحليل أجراه البنك السويسري “يو بي إس”. ففي يناير 2023م، أي بعد شهرين فقط من إطلاق هذه التقنية، أصبح لديها 100 مليون مستخدم نشط. وللمقارنة، استغرقت منصة “تيك توك” تسعة أشهر للوصول إلى الرقم نفسه. حظيت تقنية “شات جي بي تي” أيضًا بالإشادة والانتقاد من قبل شخصيات بارزة في عالم التقنية مثل إيلون ماسك وسام ألتمان ومارك زوكربرغ، وأثارت الكثير من الجدل والفضول في أوساط الناس عمومًا، حيث اندهش كثيرون من قدرتها على إنشاء نص واقعي وجذاب، بينما اهتم آخرون بتأثيراتها وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية.
وما إن أعلنت شركة “أوبن إيه آي” عن روبوت الدردشة الخاص بها، حتى سارعت بعض الشركات إلى مشاركة التقنيات التي طورتها مسبقًا ولم تُصرح عنها من قبل، فيما أعلنت شركات ومؤسسات أخرى دخولها في هذا السباق؛ والقائمة هنا طويلة وتنمو مع الوقت، فهناك شركة التجارة الإلكترونية “علي بابا”، وشركة “أمازون” التي صرحت إنها تعمل على روبوتات الدردشة بالذكاء الاصطناعي مثل “أمازون لكس”، وكذلك شركة أبحاث الذكاء الاصطناعي “أنثروبيك”، التي أسسها موظفون سابقون في “أوبن إيه آي” لتنافسها من خلال روبوت دردشة خاص بها يسمى “كلاودي”. أما بالنسبة إلى عمالقة التكنولوجيا، كغوغل وآي بي إم وميتا (فيسبوك سابقًا) ومايكروسوفت، فجميعها تمتلك منصات الدردشة الخاصة بها أيضًا.
وقد بدأت الشركات تتنافس بطرق مختلفة لتطوير إمكانات متميزة في روبوتات الدردشة الخاصة بها، مثل خاصية معالجة اللغة الطبيعية، أو مزايا التخصيص والتكامل مع أنظمة أخرى. وبناءً على ما ذكرته شركة مايكروسوفت بعد دمجها روبوت الدردشة مع محرك البحث “بينغ”، يمكن لتقنيتها إنشاء قصائد باستخدام خاصية معالجة اللغة الطبيعية وخوارزميات التعلم الآلي، حيث يمكن لهذه الخوارزميات تحليل كميات كبيرة من البيانات النصية لمعرفة أنماط اللغة. وبعد ذلك، يمكن لروبوت الدردشة هذا استخدام تلك المعرفة لإنشاء نص جديد يحاكي هذه الأنماط والتراكيب. وعلى نحو مشابه، يمكن تدريب روبوت الدردشة على مجموعة بيانات من القصص، ليستطيع التعرف على السمات والأنماط والتراكيب الشائعة لرواية القصص، ثم يمكن إعطاؤه أمرًا يستخدم فيه المعرفة السابقة لإنشاء قصة جديدة تتناسب مع الأنماط المكتسبة، فيستطيع بذلك إنشاء قصص متماسكة وجذابة.
أما شركة غوغل فتذكر عن روبوتها “بارد” أنه يمكنه المساعدة في المهام الإبداعية، وشرح الموضوعات المعقدة، ومساعدة المستخدمين بشكل عام في عملهم. يمكن أيضًا استخدام روبوتات الدردشة المدعومة بالذكاء الاصطناعي في الرسم، كما هو الحال مع روبوت “ميت فريدا” (Meet Frida)، الذي يحول النصوص القصيرة إلى فن رقمي. ويُعد روبوت “ديب دريم” (Deep Dream) من شركة “إيه آي إف نت” (AIFNET) أحد أشهر مولدات فنون الذكاء الاصطناعي في السوق، وهو أداة عبر الإنترنت تمكنك من إنشاء صور واقعية.
العودة إلى لعبة المحاكاة
ولفهم هذه التقنية والضجة التي تحدثها بشكل أكبر، حريٌ بنا أولًا معرفة ماهيتها والسياق التاريخي لتطويرها. يمكن تعريف روبوت الدردشة بالذكاء الاصطناعي (AI Chatbot) بأنه برنامج مُدمج في موقع إلكتروني أو تطبيق يحاكي المحادثات البشرية، فيستجيب عند التحدث معه من خلال النص أو الصوت. ويمكن له أن يفهم لغة أو أكثر من اللغات البشرية باستخدام تقنية معالجة اللغة الطبيعية، إذ يُبرمَج لتلبية احتياجات المستخدمين دون تدخل أي مُشغِّل بشري. وبهذا يُعتبر روبوت الدردشة مثالًا نموذجيًا لنظام الذكاء الاصطناعي، وأحد الأمثلة الأولية والأكثر انتشارًا للتفاعل الذكي بين الإنسان والحاسوب.
ولم يكن تطوير هذه التقنية وليد لحظة، إذ تعود البداية الفعلية لها إلى أكتوبر من عام 1950م، حينما اقترح عالم الرياضيات والكمبيوتر الإنجليزي آلان تورينغ نهجًا لتقييم ذكاء الحاسوب اشتهر فيما بعد باسم “لعبة المحاكاة” (The Imitation Game). ينطلق تورينغ من إعادة التفكير بالسؤال “هل الآلة تفكر؟” ومعانيه، فتقوم منهجيته على تجربة أو لعبة تُعرف باسم “تجربة تورينغ” (The Turing Test). تتضمن التجربة ثلاثة أطراف: رجلًا (أ)، وامرأة (ب)، ومحققًا (ج). يحاول المحقق وهو في غرفة مستقلة معرفة نوع (أ)، إذا كان رجلًا أو امرأة، عبر طرح أسئلة باستخدام وسيلة تواصل غير مباشرة، وغالبًا ما تكون الكتابة بالطباعة فيما نعرفه اليوم بالرسائل الفورية، لمنع المحقق من التوصل إلى الإجابة من خلال الصوت. يجيب كل من (أ) و(ب) على أسئلة المحقق، لكن (ب) يحاول إرباكه عبر الإجابة بشكل خاطئ ليُعقد مهمته. ويستفيض تورينغ ليستبدل السؤال عن إمكانية تفكير الآلة بسؤال أكثر تعقيدًا: “ماذا لو كان أحد الأطراف، وليكن (أ)، آلة؟”، فيستفهم ما إذا كانت نسبة الاختيار الخاطئ للمحقق متساوية في حال تواجد الآلة طرفًا في اللعبة، مقارنة بما لو كان الاختيار بين امرأة ورجل فعلًا. وأخيرًا يوضح تورينغ اعتقاده بأنه لن يمر وقت طويل قبل اكتشاف آلة “تعمل جيدًا” في هذه اللعبة.
بذلك، يمكننا اعتبار منهج تورينغ بوابة الدخول إلى عالم الذكاء الاصطناعي، إذ طور بعد ذلك الألماني الأمريكي جوزيف فايزنباوم روبوت الدردشة “إليزا” عام 1966م، أي قبل تطوير أجهزة الحاسوب، إذ كانت تفحص الكلمات المُدخلة وتقدّم المخرجات بناءً على عدة قوانين محددة. وتُستخدم منهجية إليزا هذه إلى يومنا الحاضر. أما استخدام الذكاء الاصطناعي لأول مرة في مجال روبوتات الدردشة فجاء مع تطوير روبوت الدردشة “جبرواكي” في عام 1988م، الذي اعتمد لغة البرمجة “كليفر سكريبت”، وهي لغة تستند إلى جداول البيانات، وتستخدم مطابقة نمط السياق للرد بناءً على المناقشات السابقة.
هل ستجعل حياتنا أسهل؟
بعد معرفة تاريخ نشأة روبوتات الدردشة وارتباطها بالذكاء الاصطناعي، نعود إلى السؤال مثار الجدل وسط المنافسة الشديدة بين الشركات على تطويرها؛ ماذا تحمل لنا هذه التقنيات في جعبتها؟
هناك العديد من الفوائد الواعدة لاستخدام روبوتات الدردشة بالذكاء الاصطناعي في عالم الأعمال لكل من الشركات والعملاء. ترتبط هذه الفوائد بالميزات التي تحملها هذه التقنية، كتوافرها على مدار 24 ساعة طوال أيام الأسبوع، وتفاعلها مع المستخدمين في الوقت الفعلي وبشكل فوري، وقدرتها الرائعة على جمع البيانات من الجمهور والعملاء. أما على صعيد التطبيق، فيمكن لروبوتات الدردشة أن تساعد في تخفيف أعباء العمل والمهام اليومية عن طريق كتابة رسائل البريد الإلكتروني والمقالات وحتى إجراء العمليات الحسابية، كما يمكن استخدامها لأداء وظائف إبداعية مختلفة ككتابة القصص والقصائد كما ذكرنا مسبقًا.
ولروبوتات الدردشة فوائد اقتصادية مطلوبة لقدرتها على خفض التكاليف. ففي حين أن تنفيذ روبوت دردشة فعال قد يكون مكلفًا، إلا أنه يمكن أن يكون استثمارًا واعدًا للشركات نظرًا لتكاليفه المنخفضة مقارنة بنماذج خدمة العملاء التقليدية. كما أن بإمكان روبوتات الدردشة تحسين رضا العملاء، إذ يعطي العديد من المستهلكين تقييمًا جيدًا لخدماتها؛ ووفقًا لتقرير “زنديسك” لتوجهات خدمة العملاء للعام 2022م، يعتقد %66 من العملاء أن روبوتات الدردشة الذكية تجعل حياتهم أسهل من خلال توفير الوقت والجهد.
ولهذا يمكن أن يكون لروبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تأثير كبير على الاقتصاد، فوفقًا لتقرير صادر عن مؤسسة أبحاث معهد “ماكينزي” العالمية، يمكن للقادة الذين يؤمنون بفكرة تبني الذكاء الاصطناعي (معظمهم في البلدان المتقدمة) أن يزيدوا تقدم بلدانهم على البلدان النامية، فيمكن للبلدان الرائدة في مجال الذكاء الاصطناعي أن تتحصل على فائدة اقتصادية صافية تتراوح بين %20 و%25، مقارنة باليوم، بينما قد تحصل البلدان النامية على حوالي %5 إلى %15 فقط.
فوائد خالصة؟ أم علينا أن نخاف منها؟
مثل أي تقنية، تأتي روبوتات دردشة الذكاء الاصطناعي مع مجموعة من المخاطر. وتذكر الشركة الرائدة في مجال الحماية التقنية “كاسبرسكي” عدة تهديدات محتملة لهذه التقنية، من بينها احتمالية انتشار البرمجيات الضارة عبر أنظمة الشركة مما يؤدي إلى تسريب البيانات أو التهديد بنشرها، وكذلك احتمالية سرقة البيانات إذا لم يقم روبوت الدردشة بحماية بيانات العميل بشكل صحيح باستخدام طرق مثل التشفير، والتهديد الخطير بانتحال الهوية، إذ يمكن أن تُستغل في دفع العملاء إلى الكشف عن بياناتهم الخاصة للمتسلل اعتقادًا منهم أنهم يتفاعلون مع جهة موثوقة. يُضاف إلى ذلك وجود معدل خطأ مرتفع؛ فروبوتات الدردشة تفتقد إلى الحس البشري، فهي مجرد أنظمة برمجية ولا يمكنها حتى يومنا هذا التقاط كافة الاختلافات في المحادثات البشرية، مما يؤدي إلى معدل خطأ مرتفع في معالجة البيانات والاستجابة لها. ويمكن لروبوت الدردشة المبرمج بشكل غير صحيح أن يستمر في الاستجابة إلى محادثة من الأفضل أن يتم إنهاؤها، كما قد تفتقر روبوتات الدردشة أيضًا إلى الوعي بالسياق، وقد لا تكون قادرة على فهم ما إذا كان المستخدم الذي تتحدث معه سعيدًا أم مضطربًا أم حزينًا؛ مما قد يؤدي إلى خسارة عملاء محتملين.
ويمكن إساءة استخدام روبوتات الدردشة بطرق أخرى أيضًا. يجادل أحد رواد الذكاء الاصطناعي بأن روبوتات الدردشة غالبًا ما يتم حثها على إنتاج نتائج غريبة من قبل الأشخاص الذين يستخدمونها. من جانب آخر، يتحدث المراسل الصحفي، جيمس فينسنت، في مقالة منشورة عبر أحد المواقع الإلكترونية المعنية بآخر أخبار التقنية (The Verge)، عن حالات تسربت فيها نماذج لغة ذكاء اصطناعي قوية عبر الإنترنت لتطوير هذه التقنية، مما أثار مخاوف بشأن إساءة الاستخدام المحتملة من قِبل المطورين لروبوتات الدردشة من الأساس. ومن المهم للشركات التي تعتمد على هذه التقنية في أعمالها أن تأخذ هذه المخاطر في الاعتبار، وأن تنفذ تدابير أمنية مناسبة لخفض نسبة حدوثها.
بين وظائف اليوم والغد
وكما هو الحال مع معظم الثورات التكنولوجية التي تؤثر على مكان العمل، يمكن لروبوتات الدردشة أن تخلق فائزين وخاسرين، ومن المتوقع أن تؤثر على أعمال الموظفين الذين يقومون بعمل “ذهني” مكتبي مثل المديرين والمتخصصين، وأولئك الذين يقومون بعمل يدوي ميداني كالعمال. وهناك مخاوف من أن انتشار هذه الروبوتات يمكن أن يؤدي إلى ما يُسمى بـ”إزاحة الوظائف”، التي تعني فقدان الوظائف وعدم المساواة في الدخل بسبب التقدم التكنولوجي والأتمتة، نظرًا لأنها تغدو أكثر تقدمًا مع الوقت وتُعتمد على نطاق واسع، مما قد يؤدي إلى استغناء أصحاب العمل عن موظفيهم في بعض الصناعات.
ووفقًا للبحوث في هذا المجال، تُعد الوظائف التقنية من بين الوظائف الأكثر عرضة لخطر الاستبدال بواسطة روبوتات الدردشة، مثل المبرمجين ومهندسي البرمجيات ومحللي البيانات. وهناك بعض المهن الأخرى التي قد تكون معرضة للخطر، وتشمل الموظفين في الخدمات القانونية وأدوار التدريس والوظائف المالية، جنبًا إلى جنب مع عمال الإنتاج، وخدمة العملاء، إذ يمكن استخدام روبوتات الدردشة لأتمتة مهام عملهم، مما قد يقلل من الحاجة للعاملين من البشر. ومن الجدير بالذكر أنه في تجربة بحثية في هذا الميدان، اجتاز روبوت الدردشة “شات جي بي تي” اختبار الرخصة الطبية الأمريكية.
مع ذلك، ليس المشهد أسودَ تمامًا، إذ يمكن لهذه التقنية خلق فرص عمل جديدة وتحسين الإنتاجية في مجالات أخرى، فيمكن أتمتة روبوتات الدردشة لتقوم بالمهام التي لا تتطلب مواهب قائمة على المهارات، أو المهام الشاقة والمستهلكة للوقت، مثل كتابة التقارير ومحاضر الاجتماعات ورسائل البريد الإلكتروني، ليتمكن بذلك العمال من التركيز على مهام أكثر أهمية وإبداعًا. كما يمكن للمساعد الشخصي الافتراضي اليوم أن يعاون العمال المهرة في إتمام المشاريع أو عمليات الإنتاج المختلفة.
ومن جانب آخر، هناك عدة طرق يمكن للأفراد والمجتمع من خلالها التكيف مع التغييرات التي يحدثها الذكاء الاصطناعي في ميدان الوظائف، إذ تذكر “مجلة هارفرد للأعمال” أن الحلول المتاحة قد تتضمن إعادة تخصيص موارد رأس المال لإعادة التوازن، وإعادة هيكلة المهن، والاستثمار في تدريب القوى العاملة، وإعادة تأهيل الموظفين للوظائف في الوقت الحاضر، كما أن التثقيف للمستقبل مهم أيضًا.
من المهم أيضًا ملاحظة أن روبوتات الدردشة ليست جيدةً جدًا في التخطيط الإستراتيجي المعقد، كما يحدث في العمليات السياسية والدبلوماسية، أو العمل الذي يتطلب تنسيقًا بين اليد والعين كصناعة المجوهرات الدقيقة، أو التعامل مع مساحات غير معروفة وغير منظمة، أو حين يكون استخدام التعاطف ضروريًا كما يحدث في العملية التعليمية على سبيل المثال. بذلك يمكننا استنتاج أنه سيظل هناك طلب على العاملين من البشر للتكيف مع عالم جديد تحتل فيه تقنية الذكاء الاصطناعي هذه مساحة أكبر.
حوكمة المجهول
وبطبيعة الحال، يمكن استخدام روبوتات الدردشة بطرق أخلاقية ولا أخلاقية، إذ إنه من الممكن استخدام الذكاء الاصطناعي لأسباب خاطئة أو دون فهم حدوده. ولكن في الأصل يجب أن تكون روبوتات الدردشة أخلاقية منذ مرحلة تصميمها، ما يعني أنه يجب وضع الاعتبارات الأخلاقية أثناء تطويرها بحيث تكون حساسة لقيم مثل الأمن والسلامة والمساءلة والشفافية.
ولاستخدام روبوتات الدردشة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي بشكل أخلاقي، من المهم البدء بالتعليم والتوعية حولها، أولًا عبر التواصل الواضح والفاعل بين الأفراد وجميع الجهات ذات العلاقة حول ما يمكن أن تقدمه هذه التقنيات وتحدياتها ومخاطرها المحتملة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، ينطبق هذا الأمر على المؤسسات الإعلامية، إذ يجب عليها التواصل ودراسة وسائل استخدام هذه التقنية بحكمة، حيث يطرح استخدام روبوتات الدردشة باعتبارها مصدرًا إخباريًا ثلاث مشكلات بشأن المساءلة والسياق والسلطة. فعندما نقرأ قصة إخبارية، فنحن نعرف الناشر والصحفي الذي يقف وراءها، أي أنه يوجد شخص ما مسؤول وعرضة للمحاسبة عن المعلومات التي تصل إلينا، مما يفرض عليه الدقة في نقل معلوماته ليحافظ على سمعته ومصداقيته.
ثانيًا، ينبغي سن القوانين التي تحكم عملية التعامل مع هذه التقنية؛ واليوم يوجد عديد من القوانين واللوائح قيد الاستخدام والتطوير لتحكم استخدام روبوتات الدردشة. وترى كيرك ينج تشيو من مكتب محاماة “بيكر ماكنزي” أنه يجب أن يكون لدى الشركات التي تستخدم روبوتات الدردشة سياسات داخلية تحكم الأنشطة المسموح بها لهذه الروبوتات ونوعية المعلومات التي تُغذى بها. كما يتطلع قانون الذكاء الاصطناعي في الاتحاد الأوروبي إلى تنظيم استخدامه بشكل أكثر صرامة في جميع أنحاء أوروبا. ففي فبراير من عام 2022م، تدخلت وكالة حماية البيانات الإيطالية لمنع استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء أخبار مزيفة. بالإضافة إلى ذلك، ستخضع روبوتات الذكاء الاصطناعي لقوانين أمان جديدة على الإنترنت يمكن أن تعاقب شركات التكنولوجيا عندما تعرض أنظمتها محتوى ضارًا للأطفال. كما قدم سياسيون في الاتحاد الأوروبي أول نموذج عالمي شامل لتنظيم الذكاء الاصطناعي في أغسطس من العام نفسه، يحاولون من خلاله القضاء على التحيز غير المقصود للخوارزميات التي قد ترفض أوراق مجموعات معينة من المهاجرين وغيرهم لاعتبارات غير مناسبة، ويُتوقع أن يدخل هذا القانون حيّز التنفيذ بحلول عام 2024م.
ويبقى السؤال معلّقًا..
مع كل ما استعرضناه حول هذه التقنية، لا بُد من الإقرار أن هناك نقاشًا عريضًا تثيره المستجدات العلمية والعملية التي ستكشفها الأيام المقبلة. رغم ذلك، يبقى الذهن البشري يبحث عن إجابات حاسمة عن أسئلة تتربَّص بحياته ومصيره؛ فهل سنعيش يومًا ما في عالم يتعايش فيه البشر مع الروبوتات باعتبارهم أندادًا؟ وهل سيتطور الذكاء الاصطناعي لدرجة يتمكن فيها من خداع الانسان كما اعتقدَ آلان تورينغ؟ وهل ستستطيع روبوتات الدردشة استبدال أقرب الأشخاص إلينا؟ وهل سنتمكن يومًا ما من اتخاذ القرارات الصائبة، حسب الخوارزميات، على الدوام؟ على الرغم من أن التساؤلات عديدة نأمل أننا سوف نصل إلى الأجوبة يومًا ما.
إلى أن يأتي ذلك اليوم، يجب علينا، في ظل سعينا لحياة ذات جودة أفضل، أن نتذكر أن الإنسان خُلِق معقدًا من عقلٍ وقلب، له مبادئه ومعتقداته التي تقوده لاتخاذ قراراته وتفرض تعامله مع من حوله، وينبغي تذكر الهدف الأساس والأسمى من تطوير التقنيات المختلفة وهو تسخيرها لخدمة البشرية، وأنه لتعظيم المكاسب الاقتصادية وتقليل التأثير السلبي المحتمل، يحتاج صانعو السياسات إلى العمل لصالح المجتمع بأسره.
اترك تعليقاً