في شهر سبتمبر من العام الماضي 2019م، أقيم في “الحديقة النباتية” في نيويورك (New York Botanical Garden)، معرض لأعمال الفنان روبرتو بورل ماركس (1909-1994م) وبعض تلاميذه في تصميم الجنائن ورعاية الخضرة والنبات والحرص على الطبيعة. وفي الوقت نفسه، كانت الأمازون تحترق. وكان هذا الفنان الملقَّب عالمياً بالفنان الأخضر من أوائل المُلهَمين الذين أبصروا الخطر الداهم، فانصرفوا إلى العناية بكل “أخضر”، حمايةً وفناً، حتى استحق مرتبة عُليا من التقدير، في زمن بدأ يستشعر فيه العالم أن بقاءه رهن ببقاء الغابات المطيرة والشجر والخضرة وسلامة البيئة في العموم.
كان بورل ماركس منسّق مواقع ورسّاماً وناشطاً بيئياً وموسيقياً في فنه واهتماماته. وهو رائد فن تنسيق المواقع الحديث في البرازيل، والمحرّك الأول للجنائن الاستوائيّة وتوضيبها، عشقاً للطبيعة، وحرصاً عليها، وخوفاً من دائها الآتي من جرثومة العمل البشري غير المتبصّر.
وكان هذا الفنان “الأخضر” أول من تنبّه لخطر زحف البشر على الغابة البرازيليّة المطيرة، حتى إن أكثر من 50 نبتة من نباتاتها تحمل اسمه، وجمع في بيته أكثر من 500 نبتة نادرة، بديعة المنظر، ويمكن أن يرعاها البشر ويستزرعونها لجمالها في تجميل الحدائق والجنائن والبيوت. وقد جمع ماركس ما يبدو متعذّراً على الجمع في مفاهيم العمارة الحديثة، التي كانت، إلى زمن قريب، تجتاح مساحات الخضرة بمباني الإسمنت، وتقطع شواهق الشجر، لتحل محلها شواهق العمائر، بلا تبصُّر أو حساب. فهو إلى كونه مهندساً، إلا أن همّه الأول في مبتكراته الهندسيّة البديعة، كان الحفاظ على المساحات الخضر، بل توسيعها، لمحاولة تحويل الزحف إلى اتجاهه الآخر، ليزحف الأخضر على المساحات الحضريّة.
تستمدّ فلسفة بورل ماركس في أيامنا هذه قوتها المتعاظمة، من مصدرين أساسيّين: علوم البيئة والمناخ التي نبّهت البشر إلى مخاطر السير في الأنماط التوسّعيّة التي ظلت سائدة في القرن الماضي، والإحصاءات الاقتصادية التي تشير إلى أن فوائد الاستفادة من غابة الأمازون أكبر من فوائد حرق الأشجار وقطعها للتوسع الحضري المتوحّش.
إحصاءات الأمازون
فلقد مضى الزمان الذي كانت البشريّة فيه سكرى بتوسّع لا يلوي على شيء ولا يَحذَر من شيء ولا يحرص على شيء. وقد أظهرت الإحصاءات في شأن الاستفادة من غابة الأمازون المطيرة، المكان العزيز على قلب فناننا، أن أقل من %1 من فصائل النبات فيها، قد دُرِسَت علميّاً لخصائصها الطبيّة. وتقليص المساحة الخضراء، يقلّص معه الثروات النباتية، بل الحيوانيّة أيضاً فيها. فكل هكتار من هذه الغابة يحتوي على أكثر من 750 فصيلة شجر و1500 صنف من النباتات العليا، ونحو 10 ملايين صنف من النبات والحيوان والحشرات. وتنتج الغابة المطيرة الكبرى هذه خُمسَ مياه الأرض الحلوة في حوضها، حتى إن مصب نهر الأمازون يدفع بالمياه الحلوة في داخل المحيط الأطلسي، كيلومترات بعيداً عن الشاطئ.
أين الفائدة؟
في الحساب التجاري النفعي البحت، تدلّ الأرقام على أن كل آكر (4046.86 متراً مربعاً) من الغابة تُقطَع فيه الأشجار لتحويله إلى مراعٍ للماشية يَغِلّ 60 دولاراً أمريكياً، وكل آكر تُستغلُّ فيه الأشجار المقطوعة لخشبها، يَغِلُّ 400 دولار. لكن، لو عولجت الغابة بمنطق الاستثمار المستدام، من حيث ثمارها ومواردها النباتية، فإن هذا المنطق الذي يحفظ الغابة، يغِلّ أيضاً 2,400 دولار في الآكر الواحد.
وحيث تُقطَع الأشجار، تنشأ المراعي وتنتشر المواشي، المنتجة لثاني أكسيد الكربون، في مساحات لا شجر فيها يَستخلِصُ منه الأكسجين، لينشره في الهواء. ومع التوسّع الصناعي وتعاظم نسبة الكربون في الهواء، وتناقص تجديد الأكسجين، يزداد خطر الاحتباس الحراري.
وتزيد مساحة غابة الأمازون المطيرة على ألف مليون آكر، وتضم أراضي شاسعة في البرازيل وفنزويلا وكولومبيا والإكوادور وبيرو، ولو كانت بلداً لكانت تاسع أكبر بلد مساحةً في العالم. و”رئة الكوكب” سُمّيَت كذلك لأنها المصنع الأكبر لاستخلاص الأكسجين من ثاني أكسيد الكربون. وهي تنتج أكثر من %20 من الأكسجين في الكرة الأرضيّة.
معرض الحديقة النباتيّة
في معرض “الحديقة النباتيّة” في نيويورك، الذي أقيم تكريماً لذكرى بورل ماركس، صمّم مهندس الساحات المعاصر ريموند جنغلز، الذي كان يرعاه بورل ماركس، حديقة حديثة، في مُستَنبَتٍ زجاجي، وحديقة مستكشِف، وحديقة مائيّة. وفي داخل المُستَنبَت الزجاجي، مجموعة من نباتات الغابة الاستوائيّة المطيرة، ومنها ما كان يفضّله صاحب الذكرى، فكان يستزرعها في الساحات البديعة التي كان يصمّمها، من أجل تعريف مواطنيه البرازيليّين على التنوّع النباتـي الفاحـش الثـراء في بلادهـم، ولا سيما في الأمازون. كذلك ضَمّت الحديقة المائية نموذجاً لأسلوب بورل ماركس في تجميع أنواع وأصناف مختلفة من التنوّع البيولوجي التي تزخر بها الغابة المطيرة، من أنحاء مختلفة فيها.
صرخة بورل ماركس للعالم
معرض الحديقة النباتيّة في نيويورك، في ذكرى الفنان والملهَم البيئي “الأخضر” صرخة مدوّية ليهبّ العالم إلى وقف غزو غابة الأمازون، وأخواتها في الكونغو الإفريقي، وفي إندونيسيا والشرق الأقصى، بالاكتساح الحضري والحرائق التي يخشى كثيرون أن تكون مفتعلة لأغراض تجارية نفعيّة قصيرة النظر، أنانيّة الحوافز.
اترك تعليقاً