ظلّت المدن على مدى قرون علامة فارقة في تاريخ الدول؛ إذ تمثّل النقلات الحضارية المتعاقبة في حياة البشر، وتمكّنهم من تبنّي قيم وسلوكيات وأنماط اجتماعية وسكانية تختلف باختلاف سمات تلك المدن وخصائصها، حيث تختلف المدن في أنماطها وأساليب العيش فيها، وتنعكس طبيعتها على طبيعة من يسكنونها، وتمنحهم سمات تميّزهم عن سواهم.
لا وجود لقواعد نستند إليها في تفضيلنا الخاص بين المدن؛ لأن ما تمنحه لنا مدينة ما، قد لا نجده في أكثر الـمدن شهرة وأضواءً. وهناك عشرات، بل مئات من الـمدن النائية والبعيدة عن المراكز، ما زالت تحتفظ بسحرها وغموضها، وتُعطي لزائرها من الدهشة ما يُثبت أن الجمال متنوع ومتعدد، وطرق الوصول إلى الجمال لا حصر لها، مثلها مثل مفاهيم الجمال.
للمدن روائح وعبق، ولكل مدينة روحها وسحرها الخاص وجماليتها وتاريخها المعروف والمخفي، وقصص الحب والنجاح والخيبات والترقب والطموح، بما يجعل منها موسوعة سِـيَـر، تكمن خصوصيتها في أنها لم تُسجن في الورق بين دَفَّتَي كتاب، بل هي حياة نابضة بالأسرار التي غالبًا ما تُدفن مع أصحابها أو ورثتهم، وما يخرج للناس وتتداوله الألسن، ما هو إلّا نزر يسير.
أوّل درس نتعلمه في المدن، أنها حين تفتقر إلى التنوع، فهي ليست سوى قرية كبيرة تسكنها قبيلة واحدة؛ الـمدن تبنى وتُؤسّس على الـتنوّع. يتفاعل هذا التنوع في مساحة الـمدينة، وهي مساحة محصورة، فيُنتج لنا هُويّة الـمدينة. ولكل مدينة هوية خاصة، قد تلتقي بالـمشتركات الكبرى مثل: اللغة والدين والـمذهب، لكن أصولها وجذورها متنوعة ضمن مساحة مكانية محددة. هذه الـمساحة المكانية تؤدي دورًا كبيرًا في تَشَكّل هُوية ساكنيها، حتى ليعجب الـمتتبع كيف لأخوين أحدهما ترعرع في مدينة ما، وآخر في مدينة أخرى، أن تكون مؤثرات الـمكانين واضحة في سلوكهما ووعيهما، وكأن لا روابط تربطهما.
بغداد
بغداد مدينة تعلق تفاصيلها في الذاكرة، وتحرّض زائرها على الإقامة فيها واتخاذها سكنًا. مدينة لها روحها وروائحها التي لا تُشبّه بها مدينة أخرى. بغداد المجد والتاريخ والشعراء والأدباء، مدينة استطاعت مع شقيقتها البصرة، أن تجعلا اللغة العربية قبل نهاية القَرن العاشر الـميلادي من أغزر اللغات إنتاجًا في التأليف، حيث حوت مئات دور النشر “الوراقين”، وفيها تمكن الكاتب أن يعيش من كتاباته، وما خُطّ فيها باللغة العربية قبل الاحتلال الـمغولي، أكثر مما خُطّ بمئات اللغات بما فيها اللغات الحية.
لا تلُم العراقي على حبه لفنون الطهي، ولا تلُم البغداديّ على مَطّه الكلمات، فلن تفي اللغات لشرح الأمر، حتى تستوطنك بغداد، وتجلس على “شواطئ دجلة” وتجعل فطورك “قَـيْـمَرًا” (قشطة حليب الجاموس)، و”كاهي” (فطيرة مُشبّعة بالشيرة)، ويكون غداؤك الكباب العراقي على الفحم، ثم تختم يومك على شاطئ دجلة في أحد الـمطاعم الـمختصة بالسمك (الـمسقوف)، تاركًا لأذنك سماع الـمقام البغداديّ، وأنت تحتسي الشاي. وأصحاب الـمقاهي وبائعو الشاي في بغداد، لكلّ خلطته الخاصة، ما يجعل طعم الشاي يختلف من مقهى إلى آخر، وهذه الخلطات سرية لا تُـذاع أسرارها. هنا ستعرف معنى مصطلح “التبغدد”، وتشمّ رائحته.
لكل مدينة هويتها الخاصة، ولكل منها روحها وجماليتها وسحرها الخاص، وتاريخها المعروف والمخفي.
القاهرة
تُلقّن القاهرة من يزورها درسًا عمليًا، بأن الجمال ليس في التنظيم الدقيق فقط، بل إن هناك جمالًا في الفوضى! فلو أحببت التعـرّف على هذا النوع من الجمال، فما عليك سوى زيارة القاهرة. هذه المدينة التي أضفت جمالًا على فوضاها وصخبها وازدحاماتها.
القاهرة تصبغ كل ما فيها بصبغة جمالية، وميزة ونكهة قاهرية بامتياز. وهذا ما زرعته في مُخيلة كل عربي وذاكرته عبر أفلامها ومسلسلاتها! تمتلئ شوارع القاهرة وحاراتها بنكهة الفول والطعمية والباذنجان الـمقلي والكبدة الـمقلية، “والـمعَسّل”، ما يضفي على القاهرة رائحة ذات خصوصية ساحرة. حتى حين يُتعبك ازدحامها وفوضاها، تُغريك هذه الرائحة بالعودة إليها. ولأن أهلها عرفوا هذا وخبروه، فقد اتفقوا على “أن مَن يشرب من ماء النيل، لا بدَّ أن يعود”، وهم يقصدون القاهرة بلا شك.
القاهرة، عاصمة السينما العربية، وأفلامها ومسلسلاتها دخلت بيت كل عربي من الـمحيط إلى الخليج. ومئات، وربما آلاف، من ممثليها ومطربيها وملحنيها وأدبائها ومثقفيها، شكلوا جزءًا مهمًّا وحيويًّا من بنية الثقافة العربية المعاصرة. إنها مدينة عملاقة بمنجزها الفني والأدبي والثقافي، ومكانة الأزهر الشريف، وتاريخها العريق، واستيعابها للمتناقضات، وحفاظها على تراثها الـمختلف، وتصالحها مع تاريخها الـمتنوع؛ كل ذلك منحها خصوصية أخاذة.
عَمّان
تشكّلت هويّة عَـمّـان من تلال عالية، انبساطها أقرب إلى مجاري الأنهار التي سحقتها حمم الجبال وصدعتها البراكين، عارية من الخضرة، مكتظة بالصناديق الـخَـرَسانية، أزقّتها سلالم حجرية تستحضر الروم وما خلفته إمبراطوريات وممالك، مرت بتاريخها زهوًا أو عنفًا.
لم تكن تسميات مثل الشركس والشيشان، منتشرة في العواصم العربية المجاورة، لكن الزائر لعمّان يألف سماعها، لا سيّما إذا سمع قصة مأساتهم في بلاد أسلافهم، فضلًا عن دورهم ومكانتهم في عَـمّـان الحديثة وعشقهم لها، ومحبّتهم وولائهم للأردن، مع اعتزازهم بأصولهم وجذورهم، بتوازن يُحسب لهم، بل من الـممكن أن يكون نموذجًا لكل الـمهاجرين وأحفادهم وسُلّانهم.
على عشرين تَـلًّا، تتربع عَـمّان اليوم، آثارها الرومانية لا تنفي عراقة الوجود العربي فيها، وجودٌ سبق الميلاد بقرون، حتى أضفى على روحها عروبة واضحة تُذيب الـمختلف فيها بلا قسر ولا عُسر، فيكون نكهة مضافة لنكهاتها التي ابتكرها موقعها الجغرافي وتاريخها العتيق والحديث.
وَلِنغْتُن
عاصمة الرياح بامتياز، وليست عاصمة نيوزلندا فقط، فهي محطة الرياح الكبيرة التي تلتقي رياح الجهات الأربع فيها، حتى إذا ما ذُكرت وَلِـنغْـتُـن فهي مقرونة برياحها العاصفة.
لكن هذه الـمدينة، حين تغفو الرياح وتتخلص سماؤها من كل ما يبدد زرقتها، وتستكين أمواج خلجانها إلى السكون والدعة، تغريك بأن تبتسم وتأخذ نفسًا عميقًا، لتتوغل روائحها في صدرك، وتُتَمْتِمَ في زهو وفرح: كم أنا محظوظ أن أعيش في إحدى أجمل مدن العالم. وبحق، فإن مرفأها يعد أحد أجمل المرافئ في العالم، فضلًا عن نقاء هوائها وجمال حدائقها وساحاتها ومتنزهاتها.
وهي تمتاز عن مدن كثيرة بأنها مدينة يتنفس فيها الشعر، فعدد الأماكن التي تشهد أمسيات شعرية أسبوعيًّا وشهريًّا يزيد على خمسة أمكنة. إنها مدينة ينتعش الشعر فيها وكأنه على موعد مع رياحها، فضلًا عن مرفئها الذي يُعدّ بحق قصيدتها للعالم.
هيروشيما
عُرِفت قديمًا بوصفها نموذجًا للمدينة صانعة الـموت، وذلك بسبب صناعاتها العسكرية الثقيلة أثناء الحرب العالمية الثانية؛ إذ كانت مركزًا حربيًّا مهمًّا، ولم يكن اختيارها هدفًا للهجوم العسكري من قبل الجيش الأمريكي اعتباطيًّا، بل كان اختيارًا مدروسًا، ففي تدميرها ضربٌ لقلب القوة اليابانية وإجبارها على الاستسلام، وهو ما حدث فعلًا. لكنّها ما إن استوطنها الـموت بفاجعته الكُبرى، وبدلًا من الخضوع السلبي وندب حظها وتصدير مأساتها سلبيًّا، نهضت لتغنّي للحياة، وأضحت رمزًا حقيقيًّا للمدن التي حَوَّلَت رمادها قاعدة للانطلاق نحو التخوم العليا للسلام والنجاح.
الـحيّ الذي يَكاد يكون شبه جزيرة، والذي دُمّر بالكامل في السادس من أغسطس 1945م، تحوّل بعد سنوات إلى حديقة تتوهج بالحياة، تضم متحفًا يؤرخ لما حدث كما وصفه بعضهم بدقة متناهية، ومكتبة وقاعات اجتماعات ومؤتمرات، ومسرحًا للعروض المسرحية والـموسيقية، ولم يُترك سوى بقايا بناية واحدة، هي بناية التطوير الحضري “غنباكو” التي بُنيت عام 1913م؛ أي قبل بدء الحرب العالمية الأولى بعام واحد. هذه البقايا، وأهمّها جزء من قُبّة “غنباكو”، تُركت لتكون رمزًا للخراب الذي أصاب الـمدينة، وشاهدًا على بشاعة الحروب والعنف وأسلحة الدمار الشامل.
فِيَنْتيان أو “فِيَنْجان”
الفَقر سيد الـمشهد، بل هو رائحة الـمدينة في مدينة فِيَنتيان عاصمة لاوس، ولا تنافسه إلّا روائح البخور التي تُشعل خصوصًا لبوذا في المعابد. السلام البوذي رائحة فِيَنْتيان بامتياز، ونظرة السكان الـمحليين لكل غريب، بل ولكل “لاوسِيّ” أقام في الغرب، بوصفهم من الأثرياء، تكسر موشور البراءة والبساطة الذي تتميز به هذه الشعوب، لكن الفَقر لم يمنع الناس من الشغف بالحياة.
كلّ من اعتاد العيش في مدينة تتمتع ببنية تحتية ممتازة وخدمات ونظافة جيدة، لا بدّ أن يعيش صدمةً في فِيَنْتيان. لكن ما إن يجد سكنًا في بيت جيّد، فإنه سرعان ما يتصالح مع الـمكان، وهذا التصالح جدير بأن يريه جمالية البلد وثقافته؛ فإن للمدن الفقيرة في اقتصادياتها وبناها التحتية جمالية خاصة، مثلما للـمدن الـثرية وعواصم الدول الغنية جماليتها. كل مكان جميل، ما دام لهذا المكان مَن يحبه ويحن إليه، أو يقيم فيه، أو يرتبط به بأي رابطة. فحب الأمكنة وما عليها من تراث روحي ومادي، هو حب للإنسان من حيث هو إنسان أولًا.
كيتو
هي ثاني أعلى عاصمة في العالم، على ارتفاع 2840 متـرًا. في عام 1978م، عرفتها اليونسكو بوصفها موقعًا تراثيًّا عالـميًّا، وبذلك تكون مدينة كيتو في الإكوادور مع مدينة “كراكوف” البولندية، أول عاصمة تحظى بهذا التعريف. فيها تشم رائحة الإسبان مدججين بالروائح العربية. نعم، الـمؤثرات العربية كانت قوية على الإسبان القادمين من وراء الـمحيط الأطلسي، يتجلى هذا واضحًا في فكرة “الحوش” الذي تصطبغ به عمارة البيوت، وشرفاتها التي تذكرك بالبيت العربي في العراق وبلاد الشام.
لا شكّ أن مدينة “كيتو”، التي تقع جنوب خط الاستواء بـ 25 كيلومترًا، تستحق هذا التعريف. فالكنائس والأديرة مع عدد كبير من البيوت والبنايات، تعود إلى القَرن السادس عشر وما تلاه بكل تأكيد، وطرزها الـمعمارية التي ورثتها من الاستعمار الإسباني تتضح فيها مؤثرات العمارة العربية، فالـمدينة القديمة متحف نابض بالحياة، فضلًا عن عشرات المتاحف التي تُزيّن العاصمة وقد تربو على الخمسين متحفًا، فتضفي عليها روح التراث وعبق التاريخ، على الرغم من حداثة كيتو نسبيًّا. يمكن للزائر أن يستمتع في كيتو بمتع كثيرة، لكنَّ مُتعتَي زيارة المتاحف، وحضور الحفلات الـموسيقية والإنصات لروائع الـسمفونيات، تعدّان من أكثر الـمتع التي تميزها عن غيرها من البلدان.
اترك تعليقاً