مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

رخصة تربية قبل الإنجاب!


د. سعيد هادي وهاس
استشاري علم النفس السريري والعصبي

عند بداية التفكير في الارتباط الزوجي ما بين الرجل والمرأة، هناك سؤال جوهري يُفترض طرحه: هل الاثنان صالحان ومؤهلان لتنشئة ذرية؟ وهل من الواجب امتلاك رخصة “تربية أبناء” وفقًا لمعايير الكفاءات التربوية ومخرجاتها من جهات مرجعية للتربية السليمة والصحية من جهة أخرى؟

ليس كل من يدخل قفص الزوجية صالحًا لتربية أبناء. وهناك كفاءات تربوية لا بدَّ من توافرها في الأب والأم. فمن يودُّ أن يصبح طبيبًا أو مهندسًا أو معلمًا… إلخ، فلا بدَّ له من امتلاك الكفاءات المهنية لكل مهنة من هذه المهن من خلال اكتساب المعرفة العلمية بداية، وترجمة تلك المعرفة العلمية إلى مهارات مهنية. كذلك هو واقع التربية كي نخلق ثروة بشرية ورأس مال إنساني يفيد نفسه بداية، ومن قام على تربيته ومجتمعه وأمته وجميع البشرية. لأن منجزات اليوم في شتى جوانب الحياة، هي وليدة فكر بشري فردي وجماعي، وبذلك تصبح المنجزات الفردية ملكًا للجميع، وتعطي ثمارها في مختلف بقاع الأرض. في المقابل، فإن الجريمة بشتى أشكالها وصورها والتدمير والضياع والمخدرات وجميع صور المعاناة ذات العلاقة وضعف الأمم والشعوب وانعدام رأس المال البشري، ليست إلا مخرجات لانعدام الكفاءات التربوية عند الآباء والأمهات. لذا، قيل إن التربية “علم”؛ لأنها قائمة على معطيات معرفية ونظريات علمية تُكتسب من خلال القنوات الأكاديمية الرسمية، وفي الوقت نفسه هي “فن” يُنال من خلال التدريب والإشراف، ليُقال إن هذين الأبوين صالحان لتربية الأبناء.


تتعدد الأساليب التربوية ما بين المُفرط في الشدّة، وتتمثل في التسلُّط والغلظة والإهمال والعنف الجسدي والعاطفي والحرمان من جهة؛ واللين والمرونة الزائدة والدلال المبالغ فيه والخوف والحماية المفرطة، من جهة أخرى، وهناك مسار الـ”بين بين”. إذ لا توجد هناك حدود قاطعة بين القطبين. ولكن في نهاية المطاف، تتساوى المخرجات الكارثية لتزيد في العقاب أو التدليل. والعجيب أن من يمارسون ذلك لا يدركون أنهم وأبناءهم في المنطقة المحظورة نتيجة الجهل وامتلاكهم لمعتقدات خاطئة وإرث تربوي. فمنهم من يقول هذا ما وجدنا عليه آباءنا وسوف نسير على نفس الخطى والنهج. ومنهم من يتبنى نهجًا تربويًا خاصًا من خلال المحاولة والخطأ. لكن الوقت حاسم ولا يحتمل هذه السياسة التربوية الخاطئة الناجمة عن التخبط التربوي، الذي يُفضي إلى مخرجات عقيمة وآثار مدمرة ونتاج فاسد على جميع الصُّعُد.

إن معرفة النمط التربوي السليم ضرورية. وهذا النمط ليس وليد لحظة أو ساعة أو يوم، وإنما نهج ممتد منذ اختيار الزوج والزوجة، وخصائصهما السلوكية، وسماتهما الشخصية، ودرجة النضج لدى كل منهما، ومستوى التوافق بينهما، ومهارات التعايش الزوجي والأسري، وحل الخلافات بينهما؛ وذلك منذ بداية فترة الحمل إلى ولادة الطفل ومراهقته بمراحلها المتعددة، وصولًا إلى مرحلة النضج. ومثل هذا لن يأتي بالمصادفة المحضة، ولا يُباع في الأسواق، ولا يُهدى ولا يُورّث، وإنما هو مسيرة ورحلة زمنية تمتد إلى عقود تُكتسب من خلال كفاءات تربوية تؤخذ من مصادرها العلمية ومهاراتها.

يأتي الثنائي، الرجل والمرأة، إلى ساحة الزواج بخصائص وخلفيات متباينة على كل الصُّعُد. ويمكن لهذا التباين أن يشكِّل تربة خصبة لنشأة جيل مضطرب. فالأمر يحتاج إلى مستوى إدراك لدى كل من الزوج والزوجة لطبيعة الارتباط الزوجي الذي يؤثر في الأبناء. ومن ثَمَّ، لا بدَّ من تلاقي الثنائي، الرجل والمرأة، في منتصف الطريق “المنطقة الآمنة” بين قطبيهما.

يُضاف إلى ما ذُكر من الأساليب التربوية المتبعة من قبل الوالدين والمحيطين، عوامل أخرى لا تقل أهمية عن أنماط التربية التي تلقي بقاتم ظلالها على حياة الأبناء، تتمثَّل في الصراعات والخلافات المستمرة وغير المحلولة بين الزوجين والأسرة عمومًا، وأثر ذلك على مسار الأبناء. كما أن أحد الوالدين قد يعاني أزمات صحية أو نفسية أو سلوكيات مرضية، وما يخلفه مثل ذلك على سير التربية. يُضاف إلى ذلك كله، “الأسر الفوضوية”، وغياب الحدود العائلية، ومعرفة دور كل عضو في الأسرة. ولذا، يُقال إن التربية ليست نتاج الأبوين فقط، على الرغم من أنهما نواة الأسرة. غير أن دور الأسرة الممتدة والمجتمع المحلي والعام لا يقل أهمية عن دور الأسرة النواة.

ولعلَّ ما يجب الإشارة إليه هنا نظرًا لأهميته البالغة، هو العنف الأبوي والأسري تجاه الأبناء من قبل الوالدين والمقربين، سواء أكان العنف جسديًا أم لفظيًا أم عاطفيًا. ويأتي العنف إمَّا نتيجة الجهل بأساليب التربية، وإمَّا لعقد نفسية أبوية سابقة وتراكمات نفسية خفية شعورية ولا شعورية تحرك الآباء والأمهات صوب هذا المسلك الخطير والمنزلق الصعب. يسلك الطفل في غالب الأحيان سلوكًا قد يبدو غير مُرضٍ لتوجهات الآباء والأمهات وفقًا لقواعد وقراءات فكرية ومعتقدات تكوَّنت لديهم خلال مسيرة حياتهم لا يعيها الطفل، وعند مخالفته لمثل هذه المنظومات الخارجة عن إدراكه يُعاقب، وقد يصل العقاب إلى العنف وسوء المعاملة غير المبرر.

الأخطاء الأخلاقية تمثِّل فرصًا للتعلُّم والنمو. ويمكن الاستعانة بالقصص الأدبية أداةً تعليمية لمساعدة الأطفال على استيعاب القيم الأخلاقية.

ما نودُّ تأكيده هو أن العقاب بوصفه إجراء سلوكيًا لا يُوصى به من قبل أهل الاختصاص؛ لأنه يقود لما هو أسوأ منه، ويتعارض مع حقوق الطفل، ومخرجاته عادة سيئة. والبديل السلوكي المناسب للعقاب والمُوصى به هو ما يُعرف بـ “التعزيز” بشقيه: التعزيز الإيجابي، والمتمثل في مكافأة الطفل عندما يصدر عنه سلوك مرغوب وحسن من خلال المعززات التي يرغب فيها بهدف استدامة ذلك السلوك الصحيح؛ والتعزيز السلبي، والمتمثِّل في سحب شيء يرغب فيه الطفـل، عند ظهور سلوك غير محبب مع الشرح الوافي للطفل لماذا أُعطِي المعزِّز الإيجابي، وكذلك المعزِّز السلبي.

أجمعت الدراسات والأبحاث على أن الخبرات السابقة السيئة، ويتربع على قمتها النمط الوالدي في التربية، هي السبب الرئيس وراء ظهور الاضطرابات النفسية، بدءًا من البسيطة وصولًا إلى المُعقَّدة، مثل: الإدمان والعنف والإرهاب والالتصاق المرضي، ويمتد الأمر ليشمل بنية الدماغ ووظائفه. إذ إن مثل تلك الخبرات السابقة السيئة تشكِّل مفهومًا هشًا للذات، وتبني قاعدة لمعتقدات مشوهة، وتقود إلى سلوك التعلُّق وضعف الكفاءة الذاتية و “الأنا العليا” (Super Ego) الخالية من قيم الحياة، وعقد نقص، ونقص في مهارات التواصل والحياة؛ وهو ما يؤدي بدوره إلى خلق صراعات داخلية وصراعات بينية تُولِّد المعاناة في النفس والجسد.

اقرأ القافلة: التربية بواسطة
الذكاء العاطفي.. كي تصبح
أسئلة األهل في محلها! من
العدد مايو-يونيو 2007م

إن تحقيق مطلب الطفولة الآمنة والمستقرة لا يأتي اعتباطًا، وإنما من خلال كفاءات تربوية تُحدَّد من قبل المختصين في الجانب التربوي والنفسي والاجتماعي والصحي، ومن ثَمَّ، إكسابها للمتزوجين قبل ولادة الأبناء، وعمل ما يشبه الاختبار التربوي المهني للاجتياز والحصول على الرخصة التربوية. ولا يُترك الأمر عشوائـيًا نظرًا للمآسي المترتبة على التربية غير المدروسة وغير المخطط لها.


مقالات ذات صلة

على مرِّ العصور، كان تعليم الأبناء مهارات الحياة هاجسًا لدى الآباء، بدءًا من تعليمهم كيفية النجاة من الوحوش في العصر البدائي إلى مهارات العيش بين الناس في مجتمع، وإتقان عمل يعتاشون منه ويكتسبون به مكانتهم في المجتمع.

يتذكر كبار السن جيدًا تجاربهم مع الضرب الذي تلقوه على أيدي الوالدين ومن المعلمين، بل ربّما من بعض الأقارب. فالكل كان يرى أن من حقه أن يُسهم في عملية التربية.

تتعلق بعض السلوكيات غير المرغوبة عند الأطفال بقضايا أعمق مرتبطة بالنمو النفسي والاجتماعي للطفل.


0 تعليقات على “رخصة تربية قبل الإنجاب!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *