ليس بالأمر العادي أن تسمع حكاية شاب سعودي يعمل في مجال الحاسب الآلي ويقرِّر المغامرة في رحلة مع ستة عشر مصوراً من دول العالم إلى القطب الشمالي. إنه طالب عبدالله المرّي، الذي أمضى تسعة أيام في المحيط المتجمِّد الشمالي، ليلتقط صوراً فوتوغرافية يضيفها إلى سجل مغامراته التي قام بها سابقاً في أدغال إفريقيا والهند، ودفعته إلى البحث عن المغامرة التالية.
تصوير: طالب المرّي
تقع جزيرة سفالبارد ضمن أرخبيل في منتصف الطريق بين النرويج والقطب الشمالي، وتبلغ مساحتها نحو 61 ألف كيلومتر مربع، أما عدد سكانها فلا يتجاوز 2600 نسمة. وتُعدُّ سفالبارد منطقة تزاوج لعديد من الطيور البحرية، ومن حيواناتها المعروفة الدببة القطبية والرنة والثعالب القطبية وبعض الثدييات البحرية. وتغطي الأنهار الجليدية حوالي %60 من مساحة الأرخبيل، الذي يظهر فيه عدد من الجبال والخلجان.
يتحدَّث طالب المرّي بحماسة ملحوظة حينما يسرد تفاصيل رحلته على متن الباخرة إلى سفالبارد، فيقول: “دوَّار البحر هو العدو رقم واحد للموجودين على متن السفينة، بشكل خاص عدو المصوِّر الذي يحتاج إلى كافة قواه الجسدية كي يلتقط الصورة المناسبة. فالسفينة قديمة جداً وقوية ولكنها تهتز بشكل دائم، ويعود ذلك إلى صوت المحركات القديمة وتلاطمها مع أمواج المحيط وتكسير الثلوج التي كانت تعترض طريق إبحارها. وعلى المسافر التعوّد على النوم أثناء ذلك الاهتزاز، وكذلك أثناء النهار، إذ إن الشمس تكاد لا تغيب عنها”.
ومن المفارقات في هذه الرحلة، أن ثَمَّة معاهدة دولية خاصة بجزيرة سفالبارد، تشمل عدم استخدام السلاح في هذه الجزيرة. وبشكل فريد، تُعدُّ هذه الجزيرة منطقة معفاة تماماً من التأشيرات، وبإمكان الجميع أن يعيشـوا ويعملوا فيها إلى أجل غيـر مسمى بغض النظر عن بلد المواطنة. كما تمنح رعايا الموقعين على المعاهدة الحق في الإقامة كالمواطنين النرويجيين، والعمل من دون أي تأشيرة.
مسار الرحلة
كانت الكويت محطة التجمع والانطلاق لفريق المصوِّريـن الخليجيين الذين أمضوا نحو عام كامل في الاستعداد لهذه الرحلة، وتأمين متطلباتها من ملابس ومعدَّات تتلاءم مع درجات الحرارة المتدنية جداً.
ومن الكويت إلى العاصمة النرويجية أوسلو، ثم بالطائرة إلى جزيرة سفالبارد، حيث تم الاستقرار في أحد فنادقها. وكانت الحرارة فيها آنذاك 15 درجة مئوية تحت الصفر، وذلك نهاية فصل الصيف (سبتمبر 2018م).
لم يمكث الفريق في الجزيرة أكثر من ساعات النوم. ففي اليوم التالي استقل الباخرة السويدية التي تعود للحرب العالمية الثانية، وهي كاسحة جليد سبق لها أن تحوَّلت إلى متحف لآثار الحرب، قبل أن تصبح حاملة مغامرات.
على متن السفينة
في الطريق إلى الجبل الأزرق
في الطريق البحري إلى المحيط المتجمد الشمالي الذي يبعد عن الجزيرة 1300 كلم، قام قائد الفريق، السويدي الجنسية، بتدريب مجموعة المصوِّرين على التصرف عند وقوع أي حدث طارئ خلال هذه الرحلة. كما جرى توزيع ملابس خاصة عليهم، تستطيع المحافظة على حرارة جسم الإنسان داخل الماء المتجمد لمدة 6 ساعات. كما تم التشديد على جميع الركاب بعدم ارتداء أي ملابس ثقيلة داخل السفينة.
استغرقت رحلة السفينة داخل مياه المحيط 9 أيام. وكان طاقم السفينة المكوَّن من 9 أشخاص تابعين لإحدى شركات التصوير العالمية، يتولون تنبيه مجموعة المصوِّرين حول اللحظات المناسبة للتصوير، بمجرد ظهور الدب أو الثعلب القطبي أو الحوت الأزرق أو الفقمة أو أسد البحر، وهي من الحيوانات المنتشرة في ذلك المحيط، إضافة إلى الطيور المتنوِّعة.
يسرد المرّي خصائص الدب الذي يصفه بالكائن الغريب، فهو يسبح لمسافة ثلاث مئة كيلومتر ملاحقاً الشمس إلى جهة روسيا للمحافظة على حرارة جسمه وبحثاً عن الطعام أيضاً. يفعل هذا على الرغم من أن حركته بطيئة كي لا يحرق السعرات الحرارية بسرعة.
كان على متن السفينة 24 راكباً بين مصور وبحار. وصادفتها عواصف ثلجية أثناء الرحلة اضطرتها أن تبحر ما يقارب يوماً كاملاً قبل توقفها الأول لالتقاط الصور. فقد أمضى المبحرون الساعات الأولى من هذه الرحلة في التعود على السفينة والطقس الشديد البرودة، والخروج من دوار البحر، وتثبيت معدَّات التصوير.
ويقول المرّي: “كانت الساعة الحادية عشرة والنصف ليلاً حينما التقطتُ أول صورة للثعلب القطبي.. إذ تراكضت مجموعة المصوِّرين ليحصل كل واحد منهم على زاوية يستطيع من خلالها التقاط تلك الصورة”.
ويضيف المرّي: “خلال الخمسة الأيام الأولى وصلنا بالسفينة إلى أقصى ما يمكن في المحيط المتجمد الشمالي. وفي رحلة العودة، سلك قائد الرحلة طريقاً آخر لرؤية ما لم نستطع رؤيته في طريق الذهاب. فشاهدنا لأول مرة في حياتنا شلالاً يخترق الجليد وينسكب ماؤه في البحر، ولكن بسبب تحذيرات القائد من خطر الانهيارات، لم نتمكن من الاقتراب منه وتصويره. ومن الأشياء الغريبة التي صادفتنا هو شعورنا بالقرب من المكان بينما يبعد عنا نحو 5 كيلومترات، وهذا يعود لكوننا في المنطقة القطبية، والمسافات هناك تبدو أقرب مما هي عليه فعلاً. كما صادفنا أثناء العودة عدداً من الجزر التي توقفنا بها، وفيها كثير من الغزلان والثعالب، وبعض الحيوانات البرية الأخرى التي تعيش في المناطق الجليدية”.
صورة وحكاية
تحية الدب القطبي
ويروي المرّي: “كان المصوّرون نائمين عندما فاجأنا قائد الرحلة وأخبرنا بأن الدب القطبي أصبح قريباً لتصويره. فقمنا بالتجهيز، وتوقفت السفينة لانتظار الدب. استغربنا التوقف، وكيف سيأتي الدب إلى السفينة، ولكنه، ومن بعيد أصبح يقترب منّا أكثر فأكثر. وتجدر الإشارة هنا إلى أن حاسة الشم عند الدب تصل إلى 500 متر وهي المسافة التي كان يقترب منها للسفينة، وكنا نشاهد أنف الدب يتحرك وهو ينظر إلى السفينة. فبعدما أمضينا يومين في انتظاره، ها هو هنا. وراح يقترب منا بشكل كبير وبقي في مكانه ما بين 40 دقيقة وساعة. وقبل اقترابه من السفينة وقف على قائمتيه الخلفيتين في وقفة تشبه التحية، وكان أنفه يتحرّك يميناً ويساراً بحثاً عن الفقمة التي كان يشم رائحتها عن بُعد. والتقطنا مجموعة من الصور له وهو يقفز بين قطع الجليد والثلوج، ويراقص الأمواج. لم نسمع صوته، ولكنه كان حساساً تجاه السفينة، وكان يقترب ويبتعد عنها باستمرار، وهذا دليل على أنه كان يناور بحثاً عن فريسته الخاصة”.
الثعلب القطبي
يعيش الثعلب القطبي في أعالي جبال جزيرة لونغييربين، وهي أكبر مستوطنة والمركز الإداري لسفالبارد. ويقول المرّي: “كانت لنا رحلة إلى قمم تلك الجبال. وكانت أهم تعليمات المسؤول بأن لا يكون هناك أي صوت من قبل مجموعة المصوّرين. إذ إن الحيوانات في تلك الفترة تقوم بالبحث عن الطعام الذي يعفيها من مشقة البحث عنه في موسم الشتاء، علماً بأن الحرارة كانت دون 15 درجة تحت الصفر في تلك الفترة (شهر سبتمبر). وقدَّم المرشد في تلك المرحلة الأطعمة للحيوانات ليستدعيها للخروج من أوكارها، ويساعد المصوِّرين في الحصول على الصورة المميزة.
وكان الثعلب أكثر تلك الحيوانات حذراً، ويتميَّز بتغير لون فروته أثناء الفصول فيكتسي في الشتاء باللون الأبيض الناصع، والأسود الحجري في فصل الصيف، وذلك للتمويه والاختباء عن عيون المفترسات الأكبر منه.
أسد البحر
يصل وزن أسد البحر إلى طن كامل. لذا، فهو لا يُعدُّ طعاماً سهلاً للدب القطبي. وقد استقل المصورون قوارب صغيرة للوصول إلى موقع أسد البحر، حيث يتابع المرّي سرده: “وجدنا هناك صغاراً لهذا الحيوان، مما جعل الأم تهاجم المصوِّرين، وتحولت عيناها بسبب الغضب إلى اللون الأحمر. وهذا ما جعلنا مرتبكين أثناء تصويرها، ومتردِّدين بين الخوف من الاقتراب منها وبين الرغبة في الحصول على لقطة خاصة مختلفة. وقد تمكَّنا من تصوير أنثى أسد البحر في عدد من اللقطات، منها وهي نائمة، وهي مع صغارها. غير أننا كنا في حالة حذر مستمر منها”.
الطيور القطبية
يعيش الطائر العاجي في هذه المنطقـة حيث تُعدُّ جزيرة سفالبارد موطنه الأساس. وهو موجود بكثرة في المنطقة القطبية، حيث الثلج الأزرق، ولكنه نادر جداً في بقية أنحاء العالم. لونه شديد البياض والصفاء، وشكله يشبه إلى حد كبير شكل الطائر كما يرسمه الأطفال.
الجبل الأزرق
بعد أربعة أيام من الإبحار، لاح منظر جبل الثلج الأزرق بوضوح في مياه المحيط. ولأول مرة شاهد المصوّرون ثلجاً أزرق على شكل قطع متناثرة، وأيضاً على شكل جبل من الجليد. وكان قائد الرحلة يأخذ منه بعض القطع ليهديها إلى بعض أصدقائه. وتُعدُّ قطعة الثلج الأزرق من أثمن الهدايا في تلك المنطقة.
وتترامى قطع الجليد الأزرق في المنطقة القطبية، وتجتمع حولها طيور النورس بكثرة، مما يجعل المشهد أجمل بالنسبة للمصور.
شروق الشمس وغروبها
ولشروق الشمس وغروبها في المنطقة القطبية مشهد مختلف، يستوقف المصورّين بشكل دائم، حين يلتصق الشفق الأحمر بمياه البحر فتتحوَّل الصورة إلى لوحة فنية، وعندما تصادفك تلك الغيوم مع جبل الجليد الأبيض أو الأزرق تصبح صورة مختلفة، وحينما تغيب الشمس لسويعات قليلة تصبح السماء على شكل كتلة نارية مشتعلة باللون الأحمر. وما بين الشروق والغروب فإن أقصى مدة كانت بين ساعتين إلى ثلاث ساعات.
مواقف أثناء التصوير
أكثر ما أتعب المصورين أثناء الرحلة هو برودة الطقس. فكانت المجموعة الآتية من منطقة الخليج تبحث دائماً عن الملابس الملائمة وأدوات التدفئة كي تساعدها على ممارسة التصوير. وكذلك في ما يخص الساعة البيولوجية، حيث لا يستطيع الإنسان التمييز ما بين الليل والنهار في هذه المنطقة. ولكن الفريق استطاع التأقلم مع الوقت، وأصبح ينام في النهار ويصحو أيضاً في النهار، وأكثر ما عانى منه هو حجم السفينة التي جعلتهم يفقدون الإحساس بالتوازن، بسبب صغرها وتقلّبها الدائم مع أمواج المحيط.
طالب المرّي والتصوير
يروي طالب المرّي علاقته بعالم التصوير: “بدأت التصوير عام 2016م، باستخدام كاميرا الجوَّال أولاً، وكانت لتوثيق بعض اللقاءات مع الأصدقاء. وكان أحد أصدقائي زوج مصوِّرة فوتوغرافية شاهدت صوري، وشجعني رأيها على دخول عالم التصوير”.
ويضيف المرّي: “لم أتخيل آنذاك أن الأمر سيستهويني إلى هذا الحد فيما بعد. ولكني بعد استطلاع آراء بعض المصوِّرين، فكَّرت بشكل جاد أن أحصل على بعض الدورات الخاصة بالتصوير. ثم بدأت تصوير الحياة البريَّة والفطرية في بعض الرحلات، مثل رحلتي إلى كينيا مع فريق كويتي. ومن خلال الرحلات الجماعية، تولد شغف في داخلي، يدفعني إلى استكمال طريق السفر والتصوير باحتراف. حتى أصبحت صوري تحصل على جوائز عربية وعالمية، منها “جائزة هبا” من الإمارات العربية المتحدة، وجائزة “ناشونال جيوغرافك” (4 صور)، وكلها من رحلة السفاري في كينيا”.
ودي اذا رحت على القطب المتجمد ايش راح اسوي.