هل استرعى انتباهك وأنت تبحر في عالم الأدب أن الروائي الأمريكي إرنست همنغواي ذو أسلوب متفرد في الكتابة، فهو يعمد إلى الجمل القصيرة والعبارات المختصرة ولا يعبأ كثيرًا بالمحسنات البديعية التي ميزت أسلوب العديد من كبار الأدباء. هذا النهج في الكتابة الذي اختطه همنغواي اصطُلح على نعته بأسلوب “الحذف والإلغاء”، أو “منهج رأس جبل الجليد”، حيث يترك الكاتب للقراء مهمة “استنباط” الكثير من المعاني الثانوية خلف العبارات الموجزة والقصيرة وما يتولد عن ذلك من مشاعر وأحاسيس.
خير مثال على ذلك القصة التي كتبها همنغواي بعنوان “تلالٌ كفيَلة بيض” Hills as white elephant وهي ذات حبكة قصصية مبسطة تدور حول رجل وامرأة يتجاذبان أطراف الحديث في محطة للقطار في إسبانيا ويدور النقاش بينهما حول “عملية ما” تنوي هذه السيدة القيام بها. طبعًا نحن لا نعلم العلاقة التي تربط بينهما، ولا نعلم ما هي هذه العملية التي أنيطت بهذه السيدة، فلم يكشف لنا همنغواي عن هذا مطلقًا. لكن هناك إشارات تنبعث من جوف النص القصصي تُجلي لنا جانبًا نستطيع من خلاله استنباط بعض الأمور. مثلًا أثناء الحديث تقول السيدة إنها مرعوبة من هذه العملية الخطرة، فيما يبدو الرجل منتفعًا من هذه العملية، إذ نراه يلحّ على هذه السيدة ويحاول التهوين من مشاعر القلق التي انتابتها.
على النقيض من همنغواي، نرى نابوكوف يولي عنايةً خاصة بالمحسنات اللفظية ويسرف في استخدام اللغة الشاعرية، ويعمد إلى تكثيف الصور البلاغية والتعابير الحسية، ويغرق في الوصف الشديد ويستفيض في ذلك. ليس هذا فحسب، بل نلاحظ عناية نابوكوف بالتجريب وذلك بطرق مواضيع غير مطروقة وابتكار أسلوب في الكتابة غير مسبوق، كأن يحاول استنطاق الذاكرة والولوج إلى مفازة العقل والبحث عما بقي من وميض الذكريات والتجارب السابقة.
ورغم هذا التباين الحاد في أسلوب الكتابة لدى همنغواي ونابوكوف، فإنهما يمثلان حالتين من الكتابة الإبداعية المتميزة. القارئ يشده أسلوب همنغواي المقتضب وعباراته القصيرة، ويُعجب أيضًا بأسلوب نابوكوف المتفرد بصوره المجازية وعنايته بالتفاصيل وسبره لأغوار النفس البشرية.
صعوبة الكتابة المتخصصة
هذا بخصوص الكتابة الإبداعية، ولكن لماذا تبدو الكتابة المتخصصة صعبة المراس؟ لماذا يستعصي على الطبيب أحيانًا التعبير عن أمر ما كتابةً؟ ولماذا يجد المهندس عنتًا في وصف شيء ما من صميم تخصصه؟ شكّلت هذه الأسئلة جوهر كتاب العالم اللساني الشهير ستيفن بنكر الذي عنونه بـ “المعنى والأسلوب”، وتناول فيه فكرة “الكتابة الغامضة” و”الكتابة المبهمة” والمقارنة بين من يحسن الكتابة والتعبير عن الأفكار ومن تستعصي عليه.
وفي فصل من فصول الكتاب، يتوقف بنكر عند مفارقة لافتة وهي أن العديد من البارزين في ميادين العلم والمعرفة والمنظرين الكبار في العلوم والمعارف لا يحسنون التعبير عما يحوزون من المعرفة. ويرسم لنا بنكر بعد ذلك ”نظرية تفسيرية” لهذه الظاهرة أسماها “لعنة المعرفة”، وهي توصيف لحالة يصل إليها من حاز علمًا وافرًا في ميدان من ميادين العلم والمعرفة وتشبع به. وخير مثال على ذلك المحامي البارع الذي عُرضت عليه قضية ما فتراه يتحدث (أو يكتب) بلسان العارف الخبير مستخدمًا عبارات ومفاهيم لا يُحسن العوام فهمها وإدراكها. من وجهة نظره، فإن تلك معارف عامة موجودة في الخطاب التداولي الجمعي لأفراد المجتمع. ولعل نظرية “الأجناس” (genre theory) فَطِنت إلى هذا الأمر، فعدّت “المتلقي” جزءًا مهمًا من منظومة التواصل والاتصال الناجح؛ فأنت لا تنشئ خطابًا من دون وعي بماهية المتلقي، وإغفال ذلك قد يودي إلى فشل التخاطب وسوء فهم للرسالة.
الأمر الآخر الذي يخفف من غلواء “لعنة المعرفة” أن يتخفف الكاتب قليلًا من بعض التعابير الاصطلاحية والعبارات الدقيقة التي لا يحسنها سوى المتخصص، واستبدالها إما بعبارات دارجة أو بشرح مبسط. ويعطينا بنكر مثلًا كاشفًا لجملة راعى فيها مُنشئها الالتزام بأهداب اللغة المتخصصة (الجملة الأولى)، وأخرى سهلة لا تفسد المعنى (الجملة الثانية):
- ”عُقد اختبار لجميع المشاركين في ظروف من العزل الصوتي تتراوح من جيدة إلى ممتازة”.
- ”أجرينا اختبارًا للطلاب في حجرة هادئة”.
وفي الختام، فإن الكتابة المتخصصة اليوم تحت المجهر، والنزعة إلى تبسيطها للقارئ العادي تتصاعد، وما تلك الكتب التي نقرؤها اليوم وتحمل عناوين من قبيل “مقدمة مبسطة” أو “عرض ميسّر” إلا خير مثال على هذه النزعة التي طال انتظارها.
د. عبدالله بن علي الأسمري – أستاذ جامعي سعودي
اترك تعليقاً