في حياة كل فرد منزلٌ عاش فيه وظلَّت صورته متوهجة في الذاكرة. فهل هو المنزل العائلي الذي وُلِد وترعرع فيه، أم هو المنزل الذي بدأ فيه حياته المستقلة وأسهم في بنائه أو اشتراه ونسّق أثاثه بحسب ذوقه الشخصي، أم هو المنزل العابر المستأجر الذي أقام فيه فترة من حياته ثم رحل إلى منزل آخر؟
في عالم الروايات، يصادفنا وصف لمنازل الشخصيات الروائية بعضها متخيلة وبعضها مستلهم من الواقع. وفي هذا الاستطلاع، الذي شارك فيه عدد من المبدعين في الكتابة عن مكانة منازلهم في الذاكرة، وجدنا التفاوت الذي كنا نبحث عنه.
البيتُ العتيق الذي تسقط فيه النيازك..
لم تُفد بشيء تلك الدُّمى الألمانية التي كان والدي يرسلها إلى البيت العتيق في طرود بريديّة عساها تُعدّل ببهجة شعرها الأشقر الطويل مزاج الصبيّة العنيدة. ظلّت بُنيّة الرابعة زاهدة في ألعاب البنات المحبوسات في فضاء مغلق، مُعرِضة عن العرائس القماشيّة والدمى البلاستيكيّة، تتسلّل إلى سطح البيت العتيق بين الغفلة والأخرى لتنصب الفخاخ للعصافير وتقذف بقطع الجير الصغيرة المتقشّرة من بلاط السطح المارّةَ في نهج المَرّ بمدينة سوسة العتيقة.
ثمّ تغيّرت الحال يومَ سقط في فناء الدار المفتوح على سمائه الزرقاء ذلك النيزك المطّاطي الأبيض.
حافيةَ القدمين على “جليز” الأرضيّة الملوّن ركضت الصبيّة خلفه فأدركته قبل أن يبلغ رأس الرواق المسقوف المفضي إلى سقيفة الدار والمسمّى في دارجتها التونسيّة “المزاز”، تحريفًا للمجاز على الأرجح وهو الموضع الذي يُجتاز، وضعت عليه رجلها فتسلّل إليها سحرُ ملمسه الجامع بين الملاسة والصلابة.
منذ ذلك اليوم، أضحى المزاز مسرح ألعابها المفضّل. تضع النيزك على رأس المزاز، ثمّ تتراجع حتّى منتصف الفناء قبل أن تنطلق كالسهم لتضرب بقدمها الجسم الكرويّ، وتراقب بمتعة اصطدامه بالجدارين من يمين وشمال حتّى ينهي رحلته في السقيفة أو عند الباب الخارجيّ، إذا لم يصطدم في الأثناء بساقي الجدّة أو بصدور الزائرات من الخالات أو وجوههنّ، رحمة الله عليهنّ جميعًا.
ثمّ علّمها أخوها الذي يكبرها بأربعة أعوام كيف “تجنقل” بالنيزك برجلٍ واحدة، ثمّ برجلين، ثمّ بالرجلين والرأس معًا.. ثم استدرجها من المزاز نحو الزنقة المطلّة على نهج المرّ وفرضها على الصبيان من رفاقه عنصرًا في الفريق القوميّ للحومة، فكان أوّل المؤمنين بها وبأفكارها المناهضة للتمييز الجندريّ في مجال اللعب الطفولي.
المنزل الذي كان يسعنا
شجرة تقف أمام الباب الحديدي الصدئ تحفظ الأطفال الذين يدخلون الدار، الصبية والفتيات الذين لا يملون اللعب والجري والصراخ والضحك. يخترعون الألعاب ويخبرون أمهاتهم التسع وأخاهم الشاب وأم الجميع الحسناء صاحبة الدار التي تسمع الجميع وتحفظ الحكايات والتفاصيل. يُفتح الباب الذي يصرُّ في أحيان كثيرة ولا ينتبه لصوته أحد؛ لأن أصوات التحايا تعلوه. وممر يتسع لوقوف عشرة رجال، إلا أن أكثر من خمسة عشر حفيدًا وحفيدة يتسابقون فيه كل ليلة خميس!
مدخل المنزل ذو إضاءة خجولة توصل إلى مفترق طرق، يمينًا حيث بابان خشبيان يدخِلك أحدهما إلى مخبأ جميع الأطفال: المخزن الذي يضم أرففًا وصناديق وثلاجة، ويتفنن كل من الأحفاد في حشر جسده الصغير خلف شيء فيه، والباب الخشبي الآخر عتبة عبور إلى بلاد سحرية، تضم عشرات الفتيات والفتية والشبان وأمهاتهم وزوجات الأحفاد الكبار وأزواج الحفيدات من الجيل الأول. صالة من دون قطع أثاث إلا من سجادة حمراء فارسية تفترش مساحة الأرضية، كلها جدران بيضاء تزينها الضحكات وتحمل مع أهل الدار دموعهم وحزنهم وهمهم، في قلب الصالة التي تستحيل حينًا حلبة مصارعة، وأحيانًا أخرى مضمار سباق.
وفي أحوال خاصة، تتسع الصالة للعبة أنثوية بين لعب الصبيان الذي لا يتوقف، فتتحول إلى ساحة عرض أزياء، أو إلى خشبة مسرح حيث لعبة الجميع الأثيرة، التمثيل. يقول أحدهم إنه أستاذ، فيجلس الفتيات والفتية متربعين على الأرض يسمعون درسه وهو يحمل معه مجلة “ماجد” ويشرح درسًا. ويقول أحدهم إنه طبيب، فيرمي الجميع بأجسادهم على الأرض ويتأوهون.. المشهد الذي يفضلونه جميعهم مشهد من مسرحية اخترعوها اتفاقًا بينهم بعنوان “العائلة”. صغار ببراءتهم يختارون عروسًا وعريسًا عادة ما يكونان أصغرهم، فيعلو التصفيق وتصدح الزغاريد ويضحك الجميع.
باب في قلب الصالة تفوح منه رائحة الخبز ورائحة الكعك والقهوة، وفي المناسبات السعيدة رائحة الرز واللحم. يدوخ الصبية في انتظار الطعام، وتصبّرهم أمهاتهم اللاتي يجلسن في صالة أخرى مجاورة للمطبخ ذات تلفاز يتحلق حوله المشاغبون الذين حُرموا من اللعب، لجرم ارتكبوه بضرب أحدهم تحت أنظار أمهاتهم.
أُغلقت الدار وانتقلت صاحبتها إلى دار أخرى، وماتت الشجرة هناك. نمت اللحى في وجوههم وسافر كثير منهم، ثم عادوا بوجوه أخرى وحكايات جديدة. تغيرت طباع الأطفال إلى طباع الشباب، وطباع الشباب إلى طباع الأكبر سنًا. وولد للشباب أحفاد، وما زالت صاحبة الدار تحمل الدار في قلبها، دار سحرية تسعهم جميعًا، وأطفالهم وأزواجهم وحكاياتهم. ورغم كثرتهم، ما زالت تخشى عليهم من الوحدة القارصة.
المجلس
في سنوات الطفرة أحيل أحد المجالس في بيتنا إلى التقاعد، وأصبح لا يستقبل الضيوف. وفي آخر أربع أو خمس سنوات من إقامتي في القرية، صار ذلك المجلس لي. كنت أنام في زاوية منه، وأقرأ أو أذاكر في زاوية أخرى، وأستقبل الأصدقاء وأشاهد تلفزيوني الصغير أو أستمع إلى الأغاني في زاوية ثالثة، حتى إنني كنت أحوله إلى ملعب كرة قدم إذا اشتد الشتاء، ولم أكن أنتقل إلى الدور العلوي الذي يقيم فيه أهلي، إلا لتناول الطعام أو لاجتماع سريع مع العائلة.
تحولت في ذلك المجلس من مقيم في القرية إلى ضيف… كنت أشعر أن حياتي فيه كانت سنوات طويلة من الانتظار. انتظار حب قادم، بعد أن ضيعت حبي القديم، عودة الدفء بعد شتاء طويل وقارس، قدوم أبناء القرية كل صيف، بعد أن هاجروا وتركوني وحيدًا. بدء كأس العالم وبزوغ نجم جديد سمعنا عنه ولم نشاهده أبدًا… نجم اسمه مارادونا، سماع أغنية جديدة لطلال مداح… أنتظر الشيء الأهم الذي سيقلب حياتي رأسًا على عقب: تخرجي من الثانوية العامة بتقدير عالٍ، لكي أسافر إلى المدينة وألتحق بالجامعة. في سنوات الانتظار تلك، وفي ذلك البيت الذي بُني نصفه الأسفل من الحجارة الصلبة والعريضة، ونصفه الأعلى من الطوب والخرسانة المسلحة، والذي ما زال ينتصب أمامي كلما عدت إلى القرية، في ذلك البيت، في تلك السنوات، جمعت الكثير من الصور والحكايات والأغاني.
كنت أظن يومئذٍ أنني حزين، ولم أعرف معنى الحزن إلا بعد ذلك بسنوات طويلة، حين قلّت القائمة كثيرًا، ولم يعد بإمكاني أن أنتظر الكثير من الأشياء.
مُقيم
أتذكر ذلك النزل عندما دخلته صباح الجمعة. لكنني ما وعيت معنى كلمة “مقيم”، إلا لمّا خرجت عصر الاثنين لأجد سيارتي مطمورة تحت الثلج. كانت الطريقة الوحيدة لمعرفة سيارتي، رؤية سقفها الفضي يلمع في بياض الثلج، بوهج تيارات الشمس التي انبثقت توًّا من بين السحب.
هبّت عاصفة ثلجية في نهاية الأسبوع تلك ولم أعلم!
حالة من التبتل واعتزال الدنيا، لا تحصل إلا من طول الإقامة في نُزل الاستشفاء؛ لأعي أن لقب “مقيم” جاء من الرهبان الذين يرعون المسقمين والمجذومين في دور الاستطباب ونزل الاستشفاء التابعة للكنائس. إقامة يحتبس بها المطبب والمستطب، ويعتزل المعالج مع السقيم، في ذاك البرزخ الواقع على الحد المتأرجح بين الحياة والموت. أيعزلون الأسقام في أديرتهم كي لا تنتشر، أم يعزلون صوامعهم عن الأسقام بالخارج كي لا تعديهم؟!
سبع سنوات من الإقامة قضيت معظم نهاراتها ولياليها في المشافي. أنام وآكل وأعيش في دور الطبابة أكثر مما أنام في شقتي. لا أتذكر ساعاتي في شقتي إلا حلمًا وارتحالًا، وتبدو ساعاتي بالمستشفى يقظة وبيتًا.
في أحد تلك المشافي لا توجد غرفة مخصصة للطبيب المقيم. متاح لك، نظريًا، أن تبيت في منزلك، لكنه يستحيل في أغلب الليالي، فأتخذ المشفى منزلًا.
كان يلزمنا الذهاب إلى حارس المستشفى، فيعطينا واحدة من الغرف الشاغرة في الطابق السابع والأخير، في جناح العلاج التلطيفي، الجناح المخصص لمن يحتضرون ويكابدون الأمراض العضال.
وفي كل مرة، كان يعطيني غرفة مختلفة في الجناح. فتشغلني حياة المريض الذي مات لتصير الغرفة شاغرة ومتاحة لمبيتي. ففي كل غرفة جديدة، حياة سبقت ورحلت لتترك مكانًا شاغرًا لميتة صغرى يبدّدها طبيب مقيم، يرتاح من كبد العيش في وفاة مؤقتة، ولو لأجل مسمى. كلما صعدت إلى ذلك الطابق السابع والأخير، بدا بعيدًا بُعد سماء سابعة، تبتعد فيها الأجساد عن الأرض وتقترب الأرواح من السماء حتى توشك أن تقبض عليها. وأذكر أنني مجرد مقيم مؤقت!
منزل الجيران
حين ينطبع مكان ما في الذاكرة فهو لا ينطبع فقط بوصفه زوايا وحجرًا وأبوابًا وترابًا وألوانًا، بل بمذاق آخر تنهمر له الدموع، أو الابتسامة أو الحنين والتوجع. ولهذا، تتمسك الذاكرة عادة بأرق الأمكنة إليها وتهرب من أقساها.
وللأماكن أيضًا رائحة، ليس فقط رائحة العطور والبخور، بل أيضًا رائحة الطين والمطر والفاكهة. لكن الذاكرة المشاغبة لها ألعابها، فهي لا تحبذ سرد الذكريات كما هي، بل خلقها من خلال معنى جديد. وحين يكتب الأديب قصة أو رواية، فإنه لا يتعدى هذه الأماكن حتى وإن أراد. فذاكرة الأمكنة لها قبضة ناعمة متوغلة تدفعها الألفة إلى ذاك المكان القصي، الذي يستدعيك ويستبقيك، فتتدحرج أول جملة وكأنها جاءت منه.
قد يظن البعض أن المنزل الأقرب للذاكرة هو منزله الذي فيه يرصف حبكته ويقيم أعمدتها عليه. لكني فوجئت وأنا أفتش عن المنزل الذي تنتقيه ذاكرتي لوضع شخوصها ورسم أحداثها، فما وجدت سوى منزل الجيران. وحين عدت إلى كتابة رواية ثانية، وجدت المنزل نفسه الذي يبرز في ذاكرتي فيصبح منزل أبطالي مرتين في روايتين، دارت أحداثهما في زمن ما قبل السبعينيات حيث كان منزلًا لأبطال رواية “شارع الأعشى”، ثم “سر الزعفرانة”. وحين أسأل نفسي الآن لماذا هذا المنزل بالذات؟ لا أجد جوابًا سوى أن ذلك المنزل بدا الأنسب لمسرح أبطالي وحياتهم وتفاعلهم. لكن الذي أتذكره أنني أحب هؤلاء الجيران وأجد فيهم وداعة نادرة. كان هناك شيء ما في عيونهم يجعل المرء يسكن ويرتاح ويرغب في التردد عليهم. وحين يكبر المرء ويصبح أديبًا قد يظن أنهم لن يمانعوا في منحه منزلهم كي يقيم فيه روايته. لقد كانوا جيرانًا مسالمين، يفيض السلام في ملامحهم حتى يكاد يكون خنوعًا. كانوا متواضعين كعشب أخضر في غابة، على عكس جيران آخرين مشاغبين أو يتعمدون الإزعاج أحيانًا. ربَّما أن هذا المنزل الوادع شجعني أكثر كما في لعب الأطفال على وضع أبطالي فيه والتجول في غرفه ورسم حدودي من دون مقاطعات. لقد سكن ذاكرتي بوداعة كفلت لي التجول فيه بحرية. ويبدو أن جيراني الوادعين تركوا لي منزلهم هدية الماضي لألعابي الإبداعية ورمزًا لطفولة عابرة.
ذاكرة منزل.. ذاكرة لا تهدأ
ما زال بيتنا في الحفائر بمكة يسكن ذاكرتي بكل تفاصيله الصغيرة والدقيقة، حتى إنني أرغب أحيانًا في رسمه بإحدى أدوات الرسم الإلكترونية ثلاثية الأبعاد، وأضع كل التفاصيل التي أتخيلها وأجسّدها قدر الإمكان أمامي حتى تساعدني في سرد حكاياتها بتفاصيل أدق.
فقد بنى والدي البيت على مرحلتين، الأولى كانت من دور واحد. فالأرض على سفح جبل أو بدايته. لذلك كان الدور الأرضي صغيرًا، ولكنه مناسب للسكن في مقياس تلك الأيام، وكما يقول المثل الشعبي المكاوي “يا بيتي يا قد المراية ولا كل يوم هات كرايا”.
أذكر تمامًا طريقة ضرب “البوية” على الجدار، وطريقة تقسيم الجدار إلى جزأين بالخيط الملون وطريقة شده، ليترك أثرًا مستقيمًا يساعد العامل في تحديد الفاصل بين اللونين بدقة كبيرة، أذهلتني تلك الأيام. وبعد سنتين من بناء الدور الأرضي انتهى بناء الدور الثاني الذي أصبح هو الدور الأول. وكان الجديد في الدور الأول هو السطح مرتع الطفولة (كان عمري قرابة ست أو سبع سنوات). كانت فرحة لا توصف. فالنظرة من فتحة نافذة السطح إلى الزقاق الصغير كانت رهيبة وكأننا نشاهده من على طائرة محلقة في السماء. وهناك كانت أول محاولة لي للطيران بالقفز من تلك النافذة إلى الأرض على كومة رمل كانت لا تزال موجودة من بقايا بناء البيت. ولكنني ولسبب ما، لم أقفز. فقد أتت والدتي في ذلك الوقت وأمسكتني بعد أن شعرت بطريقتها الخاصة أنني كنت سأقفز فعلًا ومن دون تردد. وبعدئذٍ أغلق والدي النافذة بلوح من الزنك تحسبًا لأي أفكار مشابهة مقصودة أو غير مقصودة.
كنت بعد ذلك أجلس لأشاهد والدتي وهي تطرّز أكياس المخدات وأغطية المساند في عصريات تلك الأيام حين يكون الهواء لطيفًا. لم يكن ذلك يوميًا، بل خلال الأعصر التي تتوقف فيها زيارات الجيران بعضهم لبعض بعد تعب يوم كامل من الطبخ والغسيل والتنظيف. كانت تمسك بالإبرة وتطرز بها القماش راسمة عليه أزهارًا لها أوراق خضراء وصفراء وحمراء. وفي كل مرة تغيّر لون الخيط تطلب مني إدخاله في الإبرة. كانت تملك إبرة واحدة فقط، تستخدمها إلى أن ينتهي الخيط، ثم تأخذ خيطًا بلون مختلف وتقطعه، ثم تطلب منى إدخال الخيط. وهكذا أشعر أنني ساعدتها وأصبحت جزءًا من كيس المخدة.
تلك البيوت.. مستودع
الحكايات والمواقف
والذكريات
منذ أن ولدت حتى هذه اللحظة، سكنت حوالي عشرين بيتًا، أغلبها طينية ممتعة، تركنا فيها أثرًا من أرواحنا وخطواتنا وحكاياتنا وأسئلتنا، قبل الانتقال إلى الأحياء الجديدة في البديعة، ثم إلى حي المروج في شمال الرياض.
لكن البيت، الذي استقرت فيه الأسرة أطول مدة، كان في حارة أم سليم وسط الشميسي بالرياض القديمة. درست في مدرسة حارة هذا البيت المرحلتين الابتدائية ثم المتوسطة قبل أن نغادره، وهو من تلك البيوت الطينية المعروفة في وسط حارات الرياض في تلك المرحلة.
لذلك البيت مدخل طويل، يقع في أوله إلى اليمين باب المجلس. وقبل الوصول إلى ساحة البيت، وفي نهاية هذا الممر أو المدخل، تجد إلى اليمين ما يمكن أن يُطلق عليه اسم “حمّام”. والغريب أنه مكان مُعتم بلا باب وبلا كرسي. ثم عرفت لاحقًا أن جميع بيوت الجيران أو أغلبها فيها هذا الحمام الناقص أو هذا الشيء الذي يشبه الحمّام، الذي يقع في المدخل وبلا باب أيضًا. كنت أدخل هذا المكان أحيانًا، أتأمل اتساعه وأشعر برغبة في خلع ملابسي والجلوس تحت ماء الحنفية البارد، ثم بعد السكن تكتمل الصورة فأعرف أنه ليس حمّامًا، ولكنه أقرب إلى غرفة فيها حنفية ماء ودش فقط. ويُزيَّن هذا المكان المعتم بزير ماء، يضعون تحته بعض الخضار والفواكه.
بعد ذلك بدأت التعرّف على تفاصيل البيت، بعد هذا المدخل الطويل إلى اليمين، تجد ساحة البيت، وفي ركنها مجلس العائلة، وهو مفروش ومرتب مع طاولة للتلفزيون. وكنت دائمًا أجد الصحف والمجلات الأسبوعية بألوانها المختلفة، مصفوفة على ظهر صندوق خشبي مغطى بقماش. كنت أهملها في البداية، ثم مع اتساع الوقت والملل، بدأت تمثّل لي متعة جديدة بعد العودة من المدرسة أو من ملعب كرة القدم في الحارة. متعة جديدة ومختلفة مع صفحات الفن والرياضة، ثم فيما بعد صفحات الثقافة. وكانت العلاقة تتطور تدريجيًا بيني وبين هذه الصحف والمجلات.
يقع هذا البيت في حارة منبسطة، تحيط بها حارات مرتفعة ومائلة، وتقع الحارة غرب مدينة الرياض القديمة، يحدها من الشمال شارع الخزان المشهور، ومن الغرب شارع العصارات حيث تقع أندية الهلال والنصر والشباب، وهو الشارع الذي منه انطلقت موضات سنوات الطفرة الشبابية، وسينما الأندية في السبعينيات الميلادية. وإلى الشرق تبدأ الأرض في الاستواء شيئًا فشيئًا حتى تستقر وتنبسط في وسط المدينة القديمة. وعندما تصعد إلى أعلى جبل في هذه الحارة، قبل غروب الشمس بدقائق، فإنك لن ترى شيئًا؛ لأن الحارات والشوارع تحوّلت إلى ملاعب لكرة القدم، فأثارت كل تراب الأرض وصار غبارًا عظيمًا، وأصبح من المتعذر أن ترى مخلوقًا واضح المعالم. يخرج الرجال والنساء والأطفال والشباب من منازلهم عصرًا، ثم يعودون وقت أذان المغرب مشيًا في رحلات وزيارات يومية مكوكية بسيطة ومعتادة. ولا تعلم في الحقيقة من يزورون إذا كان الجميع قد خرجوا من بيوتهم في مثل هذا الوقت الممتع. ولكن، حين يحل الظلام يعود الجميع إلى بيوتهم بهدوء الطيور.
اترك تعليقاً