قبل زمن بعيد، وقبل ظهور الساعات الحديثة، لم يكن مفهوم ضبط الوقت الدقيق والمنظم ضروريًا، كما لم يكن مألوفًا لمعظم الناس. ولكن مع دخول العصر الصناعي، حصل تغيير جذري في الطريقة التي يعيش بها الناس ويعملون ويتفاعلون؛ وهو ما أدى إلى ترسيخ ثقافة السرعة بعمق في الحياة الحديثة. وأصبح عالمنا المعاصر متميزًا بصخب لا هوادة فيه، حيث السرعة والإنتاجية لهما الأسبقية على السكينة والهدوء، وحيث الضغوط النفسية تدفعنا إلى حافة التعب والإرهاق. لذا، كان لا بدَّ من ظهور أصوات تدافع عن مفهوم البطء والتأني بوصفه منارة للراحة، أو تمردًا مدروسًا ضد الوتيرة المتسارعة للوجود الحديث. فكانت دعوات للتخلُّص من سلسلة الأهداف والإنجازات التي لا تنتهي، وبدلًا من ذلك، إعادة تنظيم علاقتنا بالوقت واحتضان مفهوم العيش البطيء حتى فيما يتعلق بالإنتاجية، ولا سيَّما في الابتعاد عن “الإنتاجية الزائفة” التي تنتشر في كثير من أماكن العمل المعاصرة.
العرض ليوم واحد فقط، التوصيل في أقل من 24 ساعة، بطاقة القيد الفوري، البريد السريع، طنجرة الضغط للطبخ السريع، الإنترنت السريع، الوجبات السريعة، الدورات التدريبية السريعة، العلاجات السريعة، ممارسة التأمل في خمس دقائق، حتى قصص الأطفال قبل النوم في دقيقة واحدة فقط. تلك هي عينة من مفردات عصرنا الحديث، حيث هوس السرعة والكفاءة يتغلغل في كل جانب من جوانب حياتنا تقريبًا.
في وقتنا الحاضر، المطلوب هو السرعة، من الطريقة التي نعمل ونتواصل بها، والطريقة التي نأكل ونسترخي بها. فالسرعة أصبحت بالنسبة إلينا طبيعة ثانية، وكأننا طوَّرنا سيكولوجية داخلية للسرعة وتوفير الوقت والسعي إلى زيادة الكفاءة التي باتت تترسخ في داخلنا يومًا بعد يوم. وقد أدى ذلك إلى ضغوط دائمة تدفعنا للقيام بكل شيء، وكأننا في سباق مع الزمن، وهو ما جعلنا نعاني “مرض الوقت”، وهو المصطلح الذي صاغه الطبيب الأمريـكي لاري دوسي في عام 1982م، لوصف الاعتقاد السائد بأن “الوقت يضيع بسرعة، وأنه لا يوجد ما يكفي منه، وأنه يجب علينا التغيير بشكل أسرع لمواكبة مجريات العصر”.
ولكن لسلطة السرعة علينا سلبيات عدة، ليس أقلها أن تصبح حياتنا سطحية. فعندما نتسرع لا ندرك إلا ظاهر الأمور، ونفشل في إقامة اتصالات حقيقية مع العالم أو الأشخاص الآخرين. ولا سيَّما، كما كتب الروائي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا في روايته القصيرة “البطء” في عام 1996م، أن هناك وشيجة سرية “تربط البطء بالذاكرة، وتصل السرعة بالنسيان. لذلك، عندما تحدث الأمور بسرعة كبيرة، لا يستطيع أحد أن يكون متأكدًا من أي شيء، من أي شيء على الإطلاق، ولا حتى من نفسه”. فكل الأشياء التي تربطنا بعضنا ببعض، وتجعل الحياة تستحق العيش، مثل المجتمع والأسرة والصداقة، تزدهر من خلال الشيء الوحيد الذي لا نكتفي منه أبدًا، ألا وهو الوقت. فضلًا عن أن ثقافة السرعة هذه قد تدفعنا إلى حافة الإرهاق، فتتسبب في مشكلات صحية ونفسية عديدة، حتى إنها قد تؤدي بنا إلى الموت. وقد وصل الأمر إلى حدِّ ابتكار اليابانيين كلمة جديدة أدخلوها إلى المعجم اللغوي الياباني وهي “كاوشي”، التي تعني الموت بسبب السرعة والإرهاق في العمل.
حركة بطيئة برزت من عين العاصفة
ولكن المهاتما غاندي يقول إن “هناك في الحياة ما هو أكثر من مجرد زيادة سرعتها”، ويقول بنيامين فرانكلين إن “التسرع يؤدي إلى الضياع”. ويقدِّم الإمام علي بن أبي طالب، كرَّم الله وجهه، النصيـحة التي تقول: “إياك والعجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقُّط فيها قبل إمكانها”. ويُطلق جبران خليل جبران الحكمة التي تقول إن “السلاحف أكثر خبرة بالطرق من الأرانب”. وفي الثقافة العربية يرد المثل القائل: “في العجلة الندامة”. وكلها عينة من قائمة طويلة من الحكم والنصائح التي ربَّما كانت أساسًا لظهور الحركة البطيئة من عين العاصفة. العاصفة التي جعلت العالم يدور من حولنا بسرعة متزايدة، وجعلتنا عالقين في إعصار من المواعيد النهائية والإشباعات الفورية.
بدأت هذه الحركة في أواخر القرن العشرين، وتحديدًا في عام 1986م في إيطاليا، احتجاجًا على افتتاح مطعم ماكدونالدز للوجبات السريعة بالقرب من السلالم الإسبانية التاريخية العريقة في روما. ومن ثَمَّ، تطوّرت إلى حركة الطعام البطيء، التي تأسست على يد الناشط الإيطالي كارلو بيتريني. وقد بُنيت على أساس رفض ثقافة الوجبات السريعة، ودعت إلى الحفاظ على ممارسات الطهي التقليدية، وإنتاج الغذاء المحلي، والاستمتاع بالوجبات بوصفها تجارب جماعية مبنية على التواصل الاجتماعي. وسرعان ما انتقلت فلسفة هذه الحركة المتمثلة في الدعوة إلى تخصيص الوقت الكافي لتقدير الطعام والتلذذ بكل نكهة من نكهاته، إلى مجالات أخرى من الحياة لتدعونا إلى التلذذ بنكهات الحياة نفسها وتقدير كل لحظة فيها والسماح لها بأن تتكشف في وتيرتها الطبيعية؛ وهو ما أدى إلى ظهور حركة بطيئة أوسع شملت مجالات أخرى، مثل الموضة والتعليم والملابس والإنتاجية، حتى إنه يمكننا الآن الاعتراف بأنها أصبحت حركة ثقافية شاملة.
البطء لاحتضان جوهر الحياة
يكمن جوهر الحياة البطيئة في احتضان كل لحظة، وإعطاء الأولوية للجودة على السرعة. لكن ذلك لا يعني القيام بكل شيء بوتيرة بطيئة، بل يتعلق الأمر بإيجاد السرعة المناسبة للتفاعل بشكل كامل مع نسيج الحياة المُعقّد، أو كما يوضح مؤسس حركة الطعام البطيء كارلو بيتريني، في كتابه “أمة الطعام البطيء” (2007م)، أن “البطء لا يرتبط، في الحقيقة، بالسرعة، بل يتعلق الأمر بالفرق بين الانتباه والإلهاء؛ فليس البطء مسألة مدة، بقدر ما يعكس القدرة على التمييز والتقييم، مع الميل إلى تنمية المتعة والمعرفة والجودة”.
مع حياتنا السريعة أصبح التأمل فنًا ضائعًا. ومع ذلك، فإننا نستطيع في لحظات الهدوء والسكون أن نعيش “مغامرة الغوص في دواخلنا”، كما قال الكاتب البريطاني بيكو آير في كتابه “فن السكون.. مغامرات في عدم الذهاب إلى أي مكان” (2014م). حينئذٍ، يمكننا أن نستمع حقًا إلى أصواتنا الداخلية، ونطور رؤى أعمق، وندرك حقيقة مشاعرنا. كما أن متعة السـكون من شأنها أن تضيء مسارات أفكارنا الأكثر ابتكارًا، وهي مسألة لا يمكن أن تتحقق إلا في هدوء الزمن البطيء. إضافة إلى ذلك، في الاستجابة للدعوة إلى التباطؤ يمكننا الاستمتاع باللحظات الصغيرة الجميلة التي غالبًا ما تنزلق عبر شقوق حياتنا المزدحمة، فضلًا عن الإحساس الحاد بالهدف، وإعادة صياغة الالتزام بأساسيات الحياة للعيش بشكل جيد، تماشيًا مع المقولة التي رددها المفكر الصيني لين يوتانغ، حين قال: “إن حكمة الحياة تكمن في القضاء على الأشياء غير المرغوب فيها”. باختصار، إن الهدف من الحياة البطيئة ليس إيقاف الحياة، بل الكشف عن ثرائها. ولذلك، فإن الضغط على المكابح وسط صخب الحياة السريعة والتراجع عن السباق لالتقاط أنفاسنا والعودة إلى ذواتنا، هو أمر بالغ الأهمية.
“لسلطة السرعة سليبات عديدة، ليست أقلها أن تصبح حياتنا سطحية، فعندما نتسرع لا ندرك إلا ظاهر الأمور، ونفشل في إقامة اتصالات حقيقية مع العالم أو الأشخاص الآخرين.”
السرعة والإنتاجية الزائفة
ولكن، أكثر ما يحدث تمجيد السرعة من خلال ربطها بالكفاءة. فهناك اعتقاد سائد أنه من أجل تحقيق المزيد من الإنتاجية ليس علينا إلا أن نسرّع وتيرة العمل، وأن ننجز المزيد في كل دقيقة. فمنذ أن حوَّلت الثورة الصناعية العالم إلى حالة تأهب قصوى، ودفعتنا إلى تمجيد السرعة وغرست عقلية ثقافية، أصبح التقدُّم يُقاس من خلال مدى سرعة إنجاز المهام وكفاءة استخدام الموارد. وقد استمر هذا الإرث في التأثير على المجتمع المعاصر، حيث تعمل التطورات التكنولوجية، من الإنترنت إلى التصنيع الآلي، على إدامة السعي وراء السرعة والكفاءة بوصفها قيمًا أساسية.
على الرغم من أن الأمر قد يبدو متناقضًا، فإن التباطؤ غالبًا ما يؤدي إلى تحقيق إنجازات أكبر. يقول أستاذ علوم الكمبيوتر في جامعة جورج تاون الأمريكية، كال نيوبورت، في كتابه “الإنتاجية البطيئة.. فن الإنجاز المفقود دون إرهاق” (2024م)، إن تعريفنا الحالي لـ “الإنتاجية” مشوَّه، ولا سيَّما بالنسبة إلى الأشخاص الذين يعملون في مجال المعرفة، أو هؤلاء الذين يقومون بمعظم أعمالهم باستخدام “الخلايا الرمادية الصغيرة”، كما كان يصف “هيركيول بوارو”، المحقق في روايات أغاثا كريستي طبيعة عمله، وذلك بالإشارة إلى المادة الرمادية للدماغ التي كانت تساعده على التفكير لحل الألغاز واكتشاف مرتكبي الجرائم.
يتحدث نيوبورت عن “الإنتاجية الزائفة” التي تنتشر في كثير من أماكن العمل المعاصرة، والتي غالبًا ما تكون مدفوعة بالضغط لكي يظهر الشخص منخرطًا في عمله باستمرار، بحيث تتضمن سلوكيات مثل التحقق المستمر من رسائل البريد الإلكتروني، وحضور كثير من الاجتماعات دون أهداف واضحة، والقيام بمهام متعددة في الوقت نفسه، وأنشطة أخرى تُعطي وهم الإنتاجية من دون تحقيق قيمة أو تقدم عملي يُذكر. ومن هنا، تنبع أهمية “الإنتاجية البطيئة”، بوصفها بديلًا أكثر استدامة لطغيان العمل الذي لا هدف له والذي يحدد لحظتنا الحالية. أمَّا مبادئها الأساسية، فتعتمد على التركيز المتعمد والصبر والالتزام بالجودة، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى إنجازات ملحوظة.
فهناك مجموعة كبيرة من الفلاسفة والعلماء والفنانين والكتَّاب الأكثر إبداعًا وتأثيرًا في التاريخ ممن أتقنوا فن إنتاج أعمال قيمة بقوة المثابرة والعمل المركز العميق الذي تدرج ببطء، ومن بينهم: غاليليو الذي سمح له نهجه البطيء في البحث بتطوير التلسكوب، والقيام باكتشافات فلكية مهمة، ووضع الأساس للفيزياء الحديثة؛ والروائية الإنجليزية الشهيرة جين أوستن التي عُرفت بملاحظاتها الدقيقة حول السلوك البشري والتعليقات الاجتماعية، والتي أمضت وقتًا طويلًا في تطوير شخصياتها وحبكاتها، ومراجعة مخطوطاتها مرات عديدة لتحقيق الجودة المطلوبة؛ والفنانة الأمريكية الرائدة في مجال الحداثة، جورجيا أوكيف التي اتسمت كل أعمالها الفنية بنهج تأملي بطيء. كما جسَّد إسحاق نيوتن، أحد أكثر العلماء تأثيرًا على مر العصور، مبادئ الإنتاجية البطيئة حين استغرق عمله في دراسة قوانين الحركة، ونظرية الجاذبية، وتطوير حساب التفاضل والتكامل، سنوات من الدراسة المتفانية والتأمل العميق.
نوع من التوازن في إيقاع الحياة
في كتابه “في مديح البطء.. تحدي عبادة السرعة” (2005م)، يقول الكاتب الكندي كارل أونوريه إن “السرعة ساعدت في إعادة تشكيل عالمنا بطرق رائعة ومحررة. فمن يريد أن يعيش من دون الإنترنت أو السفر بالطائرة؟ ولكن المشكلة هي أن حبنا للسرعة، وهوسنا بفعل المزيد والمزيد في وقت أقل فأقل، قد ذهب إلى حد بعيد؛ لقد تحول إلى إدمان… حتى عندما تبدأ السرعة بإعطاء نتائج عكسية، لا يتخلى الناس اليوم عن اعتماد السرعة وسيلةً للقيام بكل ما يقومون به”. وهكذا اختصر أونوريه المشكلة تحديدًا، وهكذا عبّر عن ضرورة وجود السرعة وكل مسهلاتها في جوانب عديدة من حياتنا. فليس المطلوب هو التخلي عن السرعة في كل شيء، بل المطلوب هو تحقيق نوع من التوازن فيما يتعلق بإيقاع حياتنا، وأن نتذكّر أن السرعة ليست دائمًا أفضل السبل، وأن البطء لا يعني دائمًا البطء بمفهومه السلبي. وربَّما من المفيد أيضًا، أن نتذكّر أن التطور يعمل على مبدأ البقاء للأصلح وليس الأسرع، وأن نستعيد الحكمة في روايةٍ ربَّما نكون قد قرأناها ونحن صغار؛ لندرك كيف أن السلحفاة البطيئة هي التي فازت على الأرنب السريع.
اترك تعليقاً