مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

خطأ الطفل

فرصـة للتعـلُّم

د. نعيمة بنعبدالعالي
أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة محمد الخامس، المغرب

يواجه الآباء والمربون تحديات يومية تتعلق ببعض السلوكيات غير المرغوبة عند الأطفال، مثل: الكذب، أو السرقة البسيطة، أو التمرد على السلطة الأبوية، أو إهمال المسؤوليات. هذه الأخطاء الأخلاقية ليست مجرد سلوكيات سطحية، بل هي تعبير عن قضايا أعمق مرتبطة بالنمو النفسي والاجتماعي للطفل.
هذه القضية ليست حديثة العهد، فقد تناولها الأدب والفلسفة والأنثروبولوجيا والعلوم التربوية على مر العصور؛ إذ جرى استكشاف تأثير هذه الأخطاء الأخلاقية، وأفضل الطرق لمعالجتها. ومن خلال استعراض أمثلة من الأدب، واستنادًا إلى التحليلات الحديثة، يمكننا الوصول إلى فهم أعمق لكيفية التعامل مع هذه السلوكيات بشكل فعَّال.


الأطفال ليسوا بالغين صغارًا، بل هم كائنات في طور التكوين النفسي والاجتماعي. فالكذب، على سبيل المثال، قد يظهر عند الأطفال في سن مبكرة بوصفه وسيلة لاستكشاف حدود الإدراك الاجتماعي. وتشير الدراسات النفسية إلى أن الأطفال، في سن الرابعة أو الخامسة، يبدؤون في تطوير ما يُعرف بـ “نظرية العقل”، حيث يدركون أن للآخرين معتقدات ورغبات قد تختلف عن واقعهم الشخصي. هذا الإدراك الجديد يدفعهم أحيانًا إلى اختبار هذه الفروق من خلال الكذب.

السرقة الطفولية هي ظاهرة أخرى ترتبط بمرحلة النمو؛ إذ ربَّما لا يفهم الطفل تمامًا مفهوم الملكية، أو يشعر برغبة قوية في امتلاك شيء من دون إدراك لعواقب أفعاله. هنا يجب أن يتعامل المربون مع هذا السلوك بوصفه فرصة للتعليم بدلًا من العقاب القاسي؛ لأن العقاب وحدَه قد يعزِّز شعور الطفل بالعار، أو قد يعزله نفسيًا.

أمَّا التمرد، فهو سمة شائعة في مرحلة المراهقة، حيث يبدأ الطفل في البحث عن هويته المستقلة. التمرد في هذه المرحلة هو تعبير عن الحاجة إلى إثبات الذات، ولكنه قد يكون أيضًا صرخة طلبًا للمساعدة، أو تعبيرًا عن ضغوط عاطفية غير مفهومة.

لطالما شكَّلت هذه الأخطاء الأخلاقية محاور مركزية في كثير من الأعمال الأدبية، وهو ما جعلها مرآة تعكس التعقيدات النفسية والاجتماعية للبشر. فلو أخذنا، مثلًا، رواية “بينوكيو”، التي جسَّدت الكذب بشكل رمزي عندما كان أنف الدمية يطول مع كل كذبة. الكذب هنا لم يكن مجرد خطأ بسيط، بل كان انعكاسًا لانعدام النضج وحاجة الطفل إلى التوجيه. لكن الحل لم يكن العقاب الصارم، بل توجيه الجنية الزرقاء لبينوكيو نحو تصحيح مساره، وهو ما يُظهر أهمية الحب والصبر في التربية.

من جهة أخرى، تُظهر قصص “جحا “العربية كيف يمكن للكذب أن يصبح وسيلة للتعامل مع الواقع الاجتماعي الضاغط. ففي إحدى النوادر، يدَّعي جحا أن أسدًا سرق كيس دقيقه ليتجنب الإجابة عن سؤال محرج. قد يبدو هذا التصرف ساخرًا، ولكنه يعكس قضايا أعمق مثل الضغوط المجتمعية التي تدفع الأفراد إلى اختلاق أعذار لتجنب المواجهة.

وفي الأدب الفرنسي، تُسلِّط رواية” الأمير الصغير” الضوء على قدرة الأطفال على التمرد ببراءة عندما لا يفهمون معايير عالم الكبار، وهو ما يجعل هذا التمرد جزءًا من اكتشاف الذات. على النقيض، تصوِّر رواية “1984” لجورج أورويل، كيف يدفع القمع المفرط الأفراد إلى الكذب والخداع بوصفه رد فعل على الرقابة الصارمة. الأدب هنا يُقدِّم رؤى متعددة الأبعاد؛ فهو لا يرى الأخطاء الأخلاقية بوصفها عائقًا فقط، بل إنها نقطة انطلاق لفهم أعمق للسلوك الإنساني.

الخوف الناتج عن العقاب يُحفّز “الدماغ العاطفي”، ويعوق عمل “الدماغ المُفكِّر”، وعندما يشعر الطفل بالأمان، يكون دماغه أقدر على الاستيعاب والتعلُّم من الأخطاء.

تُظهر البحوث التربوية الحديثة أن العقاب الصارم، خاصة إذا كان يتسم بالقسوة، قد يؤدي إلى نتائج عكسية.

وقد سبق لابن خلدون أن أشار إلى خطورة العقاب القاسي، حيث حذَّر من أنه قد يدفع الأطفال إلى الكذب خوفًا من العقاب، وهو ما يُظهر أن فهم الطفل لسلوكه يكون مشوهًا تحت ضغط الخوف.

على النقيض من ذلك، تشير النظريات التربوية الحديثة إلى أهمية الحوار والتفاهم بوصفهما وسائل فعالة لتوجيه الطفل. عندما يجري إشراك الطفل في مناقشة حول خطئه، يُعلَّم التفكير في عواقب أفعاله، وفهم أبعادها الأخلاقية. فيُعزز هذا النهج من قدرته على تحمل المسؤولية بشكل مستقل.

وتُظهر التجارب الحديثة في علم الأعصاب أن الخوف الناتج عن العقاب يُحفِّز “الدماغ العاطفي” (الجهاز الحوفي)، ويعوق عمل “الدماغ المُفكِّر” (القشرة المخية). فعندما يشعر الطفل بالأمان والثقة، يكون دماغه أقدر على استيعاب القيم والتعلُّم من الأخطاء.

لذلك، فإن التربية الحديثة توصي بتركيز الجهود على بناء حوار مفتوح مع الطفل، وهو ما يعزِّز الثقة المتبادلة مع أبويه، ويساعده على مواجهة أخطائه بشجاعة.

إن أخطاءنا الصغيرة التي نرتكبها في صغرنا قد تكون أحيانًا مظاهر لحاجات نفسية عميقة. فعلى سبيل المثال، قد يلجأ الطفل إلى الكذب لتجنُّب الإحراج أو العقاب، أو وسيلةً لنيل قسط من الاهتمام. في المقابل، قد يكون التمرد انعكاسًا لرغبة الطفل في تأكيد هويته أو تحدي السلطة لتحقيق الاستقلالية.

تشير الباحثة الأنثروبولوجية، مارغريت ميد، إلى أن هذه السلوكيات قد تُفهم بشكل مختلف بحسب الثقافة. ففي بعض المجتمعات، يُنظر إلى الكذب بوصفه جزءًا من تطور الذكاء الاجتماعي لدى الأطفال، بينما تعدُّه مجتمعات أخرى مؤشرًا على انهيار أخلاقي.

وتُقدِّم دراسات، مثل تلك التي أجرتها كارول دويك حول “عقلية النمو”، أدلة على أن الأطفال الذين يُسمح لهم بارتكاب الأخطاء وتعلُّم الدروس منها يصبحون أكثر مرونة وإبداعًا في المستقبل. وتتماشى هذه الرؤية مع الأفكار التي وردت في قصص جحا، حيث تُقدَّم الأخطاء بلمسة فكاهية تجعلها فرصة للتأمل والتعلم.

مع تقدُّم العلوم التربوية والمعرفية، أصبحت التربية اليوم أكثر تعقيدًا من أي وقت مضى. فالتكنولوجيا، ووسائل التواصل الاجتماعي، والتغيرات الثقافية السريعة، تضيف تحديات جديدة أمام المربين. ولم تعد الأخطاء الأخلاقية مقتصرة على الكذب أو التمرد، بل تشمل قضايا مثل: التنمر الإلكتروني، والغش الأكاديمي، وغيرهما.

تتطلب هذه التحديات نهجًا متكاملًا يجمع بين الفهم العميق للنفسية البشرية والاستفادة من الموارد المتاحة مثل: الأدب والفنون والعلوم الحديثة. فالأخطاء الأخلاقية لدى الأطفال ليست مجرد تحديات يجب التغلب عليها، بل هي خطوات في رحلة طويلة نحو النضج. وتتطلب التربية الفعّالة توازنًا بين الحزم والتسامح، وبين العقاب والتشجيع.

وعندما نفهم أن كل خطأ يمثِّل فرصة تعليمٍ قيمة، نصبح قادرين على مساعدة الأطفال على بناء شخصيات قوية ومستقلة.

إن التربية ليست مجرد عملية نقل للمعرفة، بل إنها بناء مستمر للقيم الإنسانية. ومن خلال الدمج بين الأدب والعلوم والخبرة الحياتية، يمكننا بناء نهج تربوي شامل يساعد الأطفال على تجاوز أخطائهم، ليس فقط لتصحيح السلوك، بل أيضًا لإثراء شخصياتهم.

عندما يخطئ الطفل، فإن استجابتنا بوصفنا مربين هي ما يحدد ما إذا كان الخطأ سيصبح تجربة تعليمية أم نقطة ضعف مستدامة. وبالحوار والتفهُّم والحب، يمكننا تحويل كل خطأ إلى لبنة في بناء شخصية الطفل.

التربية والتعليم.. نحو نهج شامل

التربية ليست مجرد تصحيح أخطاء، بل هي عملية مستمرة تهدف إلى بناء شخصية الطفل على أسس أخلاقية قوية. وهذا لا يعني أنه يجب غض الطرف عن الأخطاء، ولكن يجب التعامل معها بحكمة تراعي احتياجات الطفل ودوافعه.

تشير الأبحاث الحديثة إلى أهمية التوازن بين الثواب والعقاب. فعلى سبيل المثال، تُعدُّ مكافأة السلوك الإيجابي بشكل مدروس من الأدوات الفعّالة لتعزيز القيم الإيجابية. وفي الوقت نفسه، يُفضَّل أن يكون العقاب إصلاحيًا وليس انتقاميًا. العقاب الإصلاحي يهدف إلى تعليم الطفل عواقب أفعاله بطريقة تجعله يكتسب فهمًا أعمق للمسؤولية.

ويمكننا أن نعدد من أسس التربية الحديثة والفاعلة أهمها، وهي:

١- التعلم من الأخطاء.. منظور إيجابي

 عندما نُعيد النظر في الأخطاء الأخلاقية من منظور إيجابي، نجد أنها تمثل فرصًا للتعلُّم والنمو. ولهذه الغاية يمكن، على سبيل المثال، استخدام القصص الأدبية أداةً تعليمية لمساعدة الأطفال على استيعاب القيم الأخلاقية؛ لتوضيح عواقب السلوكيات السلبية بطريقة غير مباشرة.

٢- دور المجتمع في تشكيل الأخلاق

 تؤدي الثقافة دورًا حاسمًا في تحديد الكيفية التي يرى بها المجتمع الأخطاء الأخلاقية ويتعامل معها. في المجتمعات التي تفرض معايير صارمة وتوقعات مثالية، قد يجد الأطفال أنفسهم تحت ضغط هائل يلجؤون معه إلى الكذب أو التمويه تجنبًا للعقاب أو تحقيقًا للتوقعات.

وعلى الجانب الآخر، المجتمعات التي تشجع على حرية التعبير والتعلُّم من الأخطاء، توفر بيئة أكثر دعمًا لنمو الطفل. وهنا يظهر مفهوم “الخطأ كفرصة”، حيث يجري التركيز على تعليم الطفل كيفية تجاوز الخطأ وفهم عواقبه بدلًا من تجنُّب العقاب.

تشير أبحاث كارول دويك، على سبيل المثال، إلى أهمية تعزيز “عقلية النمو” لدى الأطفال، حيث يتعلمون أن الفشل ليس نهاية المطاف، بل هو فرصة للتعلُّم والتطور.


مقالات ذات صلة

على مرِّ العصور، كان تعليم الأبناء مهارات الحياة هاجسًا لدى الآباء، بدءًا من تعليمهم كيفية النجاة من الوحوش في العصر البدائي إلى مهارات العيش بين الناس في مجتمع، وإتقان عمل يعتاشون منه ويكتسبون به مكانتهم في المجتمع.

يتذكر كبار السن جيدًا تجاربهم مع الضرب الذي تلقوه على أيدي الوالدين ومن المعلمين، بل ربّما من بعض الأقارب. فالكل كان يرى أن من حقه أن يُسهم في عملية التربية.

عند بداية التفكير في الارتباط الزوجي هناك سؤال جوهري يُفترض طرحه: هل الاثنان صالحان ومؤهلان لتنشئة ذرية؟ وهل من الواجب امتلاك رخصة “تربية أبناء”؟


0 تعليقات على “خطأ الطفل فرصـة للتعـلُّم”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *