مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس – أبريل | 2024

من ذاكرة القافلة

خان الخليلي.. تبضُّع وتمتُّع


استطلاع: عادل أحمد صادق – هيئة التحرير وتصوير: عبدالله يوسف الدبيس – أرامكو السعودية

عدد أغسطس 1992م (صفر 1413هـ)

عُرف خان الخليلي منذ إنشائه في عصر الأمير جركس الخليلي عام 1372م كأحد أكبر الأسواق في الشرق الأوسط تنوعًا واتساعًا، وغزت مصنوعاته الدقيقة من الذهب والفضة والنحاس أسواق العالم أجمع.

توجد في القاهرة أسواق حديثة متعددة، توفر الملابس والأحذية وكماليات أخرى. ولكن تبقى سوق الموسكي أشهر وأفضل الأسواق الشعبية في العالم حيث يمكن قضاء يوم کامل في مشاهدة الحرفيين وتناول الشاي والقهوة خلال التحدث مع الباعة.

أحد الأطفال الذين يتدربون في مدرسة “أبو الهول” لإتقان صناعة السجاد والمحافظة على التراث المصري.

الموسكي

يُعد شارع الموسكي من أضيق شوارع القاهرة تقريبًا، ويعود ذلك إلى بداية افتتاحه في عهد “محمد علي” بأمر قيل فيه: “حيث أنه سبق التنبيه بتوسيع أزقة وفتح الموسكي وقطع كوم الشيخ سلامة وشارع بولاق وشارع القلعة وغير ذلك من الشوارع اللازم فتحها وتوسيعها لراحة العباد، ومن ضيق الأزقة وتزيين البلدة أيضًا، فيلزم شراء الأمكنة التي تدخل فيها من أربابها وإضافة أثمانها الى جانب الميري (خزانة الدولة)”.

لكن الشارع المنسوب إلى الأمير عز الدين موسك، أحد أمراء دولة صلاح الدين، كان قد تعرض لعملية تمهيد في عصر الحملة الفرنسية التي هدمت معظم المباني بين قنطرة الموسكي وحتى تقاطعه مع الخليج المصري الذي كان حتى العتبة الخضراء.

وكان محمد علي قد استشار العلماء في عرض الشارع فأوصوا بأن يكون صالحًا لمرور جملين حاملين دون مشقة، وقدروا هذا الاتساع بثمانية أمتار، كما هو مذكور في “الخطط التوفيقية” لعلي باشا مبارك.

وكان الموسكي مقصدًا لكل عائلة جديدة، فكل عريس وعروس كانا يشتريان لوازم بيتهما المقبل كلها من هذا الشارع. وكان الموسكي أيضًا مجمعًا لطوائف وأجناس شتى، فإلى جانب التجار المصريين، كان هناك المغاربة والإيرانيون والشوام واليونانيون والأرمن.

كما كان مركزًا تجاريًا للقاهرة بداية الربع الأول للقرن السابق، حين بدأ ازدهاره وبخاصة وقت أن كان أهالي الريف المصري هم الزبائن الدائمين لدى تجار الشارع، حتى أن التجار كانوا يعرفون بعض الزبائن بالاسم، بالرغم من أنهم كانوا لا يترددون على الشارع إلا مرة في العام. وقد توزعت ميزات الشارع على أحياء تجارية أخرى، واهتم تجاره ببضائع أخرى غير التي كان يتميز بها.

ويقال إنه كان يمكن للمرء إذا طاف في الموسكي وأحيائه أن يرى الدنيا كلها، بكل أصنافها وأجناسها من الناحية الاقتصادية واللغوية والاجتماعية وحتى في المأكولات المتنوعة التي تقدمها مطاعم الشارع بأثمان مختلفة تتفاوت حسب زبائنها.

عندما يدخل زائر شارع الموسكي بين الأزقة الضيقة فإنه يتوه وسط الزحام وبين أبواب الحوانيت المفتوحة التي تعرض الأواني النحاسية والمنحوتات العاجية ومجوهرات الذهب والفضة، والعطور، والبهارات، والحرير، والجلد، والقطن، وغيرها، وسيقوم صاحب أي محل تجاري صغير بدعوة الزوار لدخول محله وتقديم الشاي أو القهوة لهم ومن ثم عرض بضاعته عليهم.

والموسكي مكون من عدة أسواق، مثل سوق النحاسين وسوق الصياغ وسوق العطارين وسوق الغورية وسوق الخيامية وسوق الصرماتية (الأحذية) وغيرها.

خان الخليلي

عند نهاية شارع الموسكي وأمام الجامع الأزهر يقع مدخل خان الخليلي، الذي يُعد أفضل سوق شعبي في العالم ويمكن قضاء معظم الوقت فيه دون الشعور بملل. والمعروف عن خان الخليلي، بل أكثر شيء يميزه، هو أنك تستطيع المساومة التي تعد لم مقبولة في الأسواق الحديثة ذات الأسعار المحددة. وفي خان الخليلي لا يدفع أحد، أبدًا، السعر الذي يطلبه البائع، وإنما يدفع الزبون السعر الذي يتوصل إليه من خلال مهاراته التي يتمتع بها في فن الشراء، وبالطبع فإن الباعة في الخان يتوقعون من الزبائن مساومتهم في السعر الذي يطلبونه. وعلى الرغم من أن الجميع يتجولون في أزقة الخان من دكان إلى دكان لساعات من الزمن، فليس من الضروري أن يقوموا بشراء بضاعة.ومن خلال تتبع حركة أسواق الحرف اليدوية في الشرق الأوسط وتركيا، يبدو أنها قد نبعت جميعها من خان الخليلى، الذي كانت حرفه مقصورة على القاطنين في الحي ولم يكن يوجد دخيل على السوق. فحتى العائلات التي كانت تعمل في السوق معروفة، وكانوا يتوارثون الحرف أبًا عن جد.

ومن خلال تتبع حركة أسواق الحرف اليدوية في الشرق الأوسط وتركيا، يبدو أنها قد نبعت جميعها من خان الخليلى، الذي كانت حرفه مقصورة على القاطنين في الحي ولم يكن يوجد دخيل على السوق. فحتى العائلات التي كانت تعمل في السوق معروفة، وكانوا يتوارثون الحرف أبًا عن جد.
وبدأ انتقال هذه الحرف إلى تركيا، على سبيل المثال، فعندما غزا سليم الأول مصر، قام بنقل الحرفيين المصريين إلى إسطنبول عامصة الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي. وما زال السوق موجودًا في إسطنبول حتى الآن، واسمه “مسرلي سوق”؛ يعني السوق المصري.

أما بالنسبة لمنتوجات خان الخليلي فكانت لها علاقة كبير بالبيئة والتراث والحضارة المصرية. وما يزال خان الخليلي يقدم لأبناء مصر وللزائرين من جميع أنحاء العالم نفس تلك المنتوجات، رغم انتقال بعضها خارجه مع بداية القرن الحالي.

إن خان الخليلي يعمل على جذب السياح بشكل مدهش حقًا، إذ أنه حتى لو أمكنهم شراء نفس المنتوجات من خارجه، إلا أنهم يصرون على زيارة هذا البازار الممتع، لدرجة أن الحرفيين المشتغلين أصبحوا يتحدثون بلغات مختلفة كالإنجليزية والفرنسية والإيطالية، وقد تعلموا كل ذلك من السياح.

والجدير بالذكر أن للخان صلة وثيقة تاريخيًا بالثقافة والحضارة المصريتيين. وقد كان خان الخليلي مركزًا لاجتماع الكثير من علماء الدين والشعراء وكذلك الأدباء المتخصصين في القصص والروايات. وكان مقهى الفيشاوي، الموجود منذ أربعمائة عام، وما يزال قائمًا، مكانًا للالتقاء، حيث كانوا يقضون فيه أوقات الراحة والفسحة. ويمكن القول بأن التقاليد المصرية الصميمة نبعت من هذا الحي والأحياء المحيطة به، مثل حي الغورية، وهي أساس الثقافة الحديثة. ونجيب محفوظ كاتب الشعب كان يستوحي معظم أفكاره من خان الخليلي وحي الجمالية المجاور في وصفه للعامل البسيط أو الحرفي الماهر. والآن أصبح الحي منطقة أثرية، لا أحد يملك حتى تغيير معالمه، حتى الذين يعيشون فيه، فالأبواب والمشربيات باقية على حالها.

وفي الماضي كان جميع التجار يمرون عبر رفح والعريش، وأول ما كان يقابلهم في القاهرة، خان الخليلي، وكان عبارة عن فندق “خان”. وهناك كانوا يجدون جميع أنواع الخدمات تقدم لهم ولخيولهم، وكان التجار يعرضون تجارتهم التي يأتون بها من الخارج كالحرير والتوابل والصدف وغيرها، بينما كان المصريون يعرضون بضائعهم المصنعة محليًا.

وعلى الرغم من أن موقع خان الخليلي بسيط وشبه بدائي، إلا أنه ما يزال مركزًا للتجارة في مصر كلها، وكل المصنوعات التي تُنتج في مناطق متفرقة في مصر تصب في خان الخليلي، ثم تتوزع من جديد سواء داخل مصر أم خارجها. ومنطقة خان الخليلي مليئة بالبنوك وبها حركة تجارية لا تتوقف لحظة واحدة.

منتوجات خان الخليلي

صناعة الحلي:
وإعادة تصنيع الذهب وتُعرف بعملية “كسر الذهب”. ويحصل الحرفيون على الذهب من الصياغ الذين يعتبرون المصدر الأساسي لهم. ويقوم الصانع بصهر الذهب القديم في بوتقة حديدية تحتها نار شديدة ليتحول الذهب الصلب إلى سائل، ثم يُعاد تشكيله حسب طلب الزبائن أو حسب الأشكال التي يريدها الصائغ.

النحاسيات:
شهدت “القافلة” عملية تصنيع النحاس، الذي يؤتى به، على شكل صفائح. وقد ورث الحرفيون هذه الصنعة عن آبائهم الذين كانوا يمارسون نفس الصنعة. ويقوم الحرفي بتقطيع الصفائح ومن ثم تشكيلها في نماذج مختلفة: خوذات عليها نقوش فرعونية، وقناديل من العصور الإسلامية القديمة، وصحون عليها أشجار ونباتات مختلفة.

المنسوجات:
يتم في خان الخليلي إصلاح النسيج القديم، وذلك بأخذ خيط من قطعة السجاد نفسها لترقيع الأجزاء المقطوعة. وشهدت “القافلة” عملية ترقيع سجادة يدوية إيرانية، وقد أعيد عمل حوافها بنفس تشكيلتها القديمة بعد أن كانت مهترئة.
ولكي تطلع “القافلة” على صناعة المنسوجات بشكل أفضل، كان لا بد من زيارة قرية كرداسة، شمال شرق الجيزة.

كرداسة

شاهدت “القافلة” منسوجات كرداسة المصنوعة يدويًا وأهمها صناعة الجلابيب والعباءات، وهي أنواع، منها المطرز، أو المطبوع عليها صور يدوية، أو محلاة “بالاكسسوارات”، أو الرسم بالريشة بالألوان الزيتية.

ويستخدم “النول” في صناعة الأنسجة القطنية والصوفية والحريرية، ولا يشمل ذلك الجلابيب فقط، وإنما الستائر والشالات والمفارش أيضًا.
إن صنع عباءة واحدة يستغرق فترة من ثلاث إلى أربع ساعات، أما الجلباب المصنوع باليد فيحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أيام، وذلك تبعًا لعدد الأيدي العاملة. والسعر يختلف حسب نوع الخامة المستخدمة ودقة الشغل، وأغلى أنواع الجلابيب هو المطرز “بالاكسسوارات”.

ومن بين المنسوجات الموجودة في خان الخليلي، منسوجات يُستخدم بعضها لفرش الأرض، بينما يستخدم الآخر لكي تعلق على جدران المنازل أو المكاتب. وفي قرية كرداسة شاهدت “القافلة” كيفية صنع “الكليم” يدويًا، والكليم هو الاسم الذي يُطلق على نوع من المنسوجات التي تُفرش على الأرض. وشاهدت “القافلة” كذلك كيفية صنع “الجبلال”، وهذا هو الاسم الذي يُطلق على المنسوجات التي تعلق على الحائط.

ويستغرق عمل بعض القطع منه أربعة أشهر وذلك يعتمد على حجم القطعة وعدد الرسوم والألوان المستخدمة في اللوحة الواحدة، ويصل سعر الجبلال إلى 600 جنيه مصري. والحقيقة أن عملية التصنيع تبدو شاقة، وتُصور فيها الطبيعة والبيئة المصرية للفلاحين. وكان هناك قطعة واحدة من صنع يدوي من الحرير، رسوماتها قديمة وبلغ سعرها ما يقارب 3200 جنيه.

الحرانية

خلال جولة “القافلة” في خان الخليلي، أرشدنا العاملون بصناعة السجاد إلى أهمية زيارة قرية الحرانية المتخصصة في صناعة السجاد. وكانت على نفس الطريق الريفي الذي تقع عليه قرية كرداسة. وتوقفت “القافلة” لزيارة “مدرسة أبو الهول للسجاد اليدوي”.

يقوم المسؤولون عن هذه المدرسة بتعليم الأطفال، الذين تترواح أعمارهم بين 6 سنوات فما فوق، أساليب صناعة السجاد اليدوي لحفظ مثل هذا التراث لمصر على مدى الأجيال. ويبدأ الأطفال بتعلم صناعة السجاد “المعقود”، ويقومون بتطبيق النماذج الفنية التي أمامهم والتي غالبًا ما تكون من تصميم أخصائيين من كلية الفنون الجميلة.

ويسمى السجاد المعقود، لأنه يصنع على هيئة عُقد مربوطة ببعضها، وتوجد 81 عقدة في كل سنتيمتر مربع. ولهذا فالحرير يكلف كثيرًا، خاصة أن الحرير المصري لا يكون متوفرًا في معظم الأحيان، فيضطر الصناع لاستيراد الحرير من الصين، مما يجبرهم على دفع جمرك مرتفع ويجب عليهم توفير عملة صعبة لتسديد ثمنه.

وخلال عام يتعلم الأطفال صناعة السجاد المعقود والمنسوج ونوعي العقدتين المزدوجة والمفردة. ويقوم الأطفال في مدرسة “أبو الهول” بصناعة العقدة المزدوجة التي هي أمتن وأشد. وعمل متر واحد من سجاد الحرير المعقود يستغرق أربعة أشهر. ويركزون في عمل التصاميم على العربي القديم، والفارسي بأنواعه، والتصميم الفرعوني الذي يمثل الحياة المصرية القديمة.

وتتميز هذه المدرسة بوجود مترجمين لمساعدة السياح على معرفة نوعيات السجاد وكيفية صناعته. كما تتميز أيضًا بدقة العمل وسرعته والتركيز على لوحات من الفولكلور المصري، والطبيعة وغيرها.

وبعد فهذا ملخص زيارتين قامت بهما “القافلة” انطلاقًا من خان الخليلي للتعرف على مواقع صناعة المنسوجات والسجاد التي تباع بشكل مدهش في خان الخليلي حيث يقبل على شرائها السياح بشكل ملحوظ.

أحد المرشدين في مدرس “أبو الهول” يشرح للمحرر عملية صنع السجاد في مصنع المدرسة.

خان الخليلي مرة أخرى

إذن فخان الخليلي ليس سوقًا شعبيًا عاديًا، بل يتميز بقدمه لمئات السنين، وبالمنتوجات الممتعة التي يقدمها، خاصة المتعلقة بالمأثورات الشعبية، وما تنتجه أصابع وأذهان الحرفيين الذين يعملون في الخان نفسه.

إن زيارة خان الخليلي ممتعة، إذ أن دكاكينه المتلاصقة في شوراعه الضيقة تعرض بضائع توافق جميع الأذواق. وما يمتع الزائر أيضًا وجود المقاهي الشعبية، حيث يستطيع الزائر أن يأخذ له مكانًا ويستريح إذا ما تبعت قدماه من التجوال. وتقدم القهوة بجميع أنواعها، وأكثر ما يُطلب القهوة التركية، والشاي بالنعناع. وكم يشعر السائح بلذة تناول مشروب السحلب (لبن ومكسرات وسمسم)، الذي يقدم ساخنًا، وهو مشروب تركي الأصل. ومن أي مقهى يمكن مراقبة تحرك مئات الناس الذين يتجولون في الخان نفسه للتبضع أو لمجرد التمتع بشعبية الموقع.

ويمكن القول بأن جميع فئات المجتمع من موظفين وعمال وطلبة ومثقفين، يقصدون خان الخليلي في أوقات مختلفة في السنة ويتخذون من مقاهيه الشعبية مجالس للتحدث في الأمور الحياتية.

تلك كانت زيارة “القافلة” إلى خان الخليلي الذي يُعد من أشهر أسواق العالم الشعبية، والذي يقصده معظم سياح الدول العربية والأجنبية للتبضع فيه، من منتوجات الصدف والحلي والسجاد وغيرها من البضائع التراثية الأخرى. ويقول المصريون أن كل من يقصد القاهرة، ولم يزر خان الخليلي، فكأنه لم يأت إلى القاهرة.


مقالات ذات صلة

“زرقاء اليمامة” هي أوبرا كبرى، تنطلق عروضها في الرياض في 25 أبريل 2024م، بعد إطلاقها في فبراير الماضي في قاعة “غولد سميث” في لندن، وهي الأوبرا الأولى سعوديًّا والأضخم عربيًّا.

من ذاكرة القافلة.. مقالة للأديب والشاعر السعودي: عبدالعزيز بن أحمد الرفاعي، مأخوذة من مجلة القافلة، لعددها ديسمبر 1967م (رمضان المبارك 1387هـ).

البصيرة هي إحدى أقوى الأدوات المتاحة لنا كبشر لمساعدتنا على تشكيل المستقبل والتقدم نحوه بثقة وثبات. ويمكن تشبيه هذه القدرة على التفكير في المستقبل بآلة الزمن العقلية التي تحمل وجهين اثنين: تمثيل عقلي وحسِّي لأشياء لم تحدث بعد أو إحساس بما قد يكون أو بما قد يأتي، وذاكرة تكون بمنزلة أساس ومنطلق لتصور مستقبل غير […]


0 تعليقات على “خان الخليلي.. تبضُّع وتمتُّع”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *