لخان الخليلي في قلب القاهرة ألقه الخاص طوال العام، لكن بهجته القصوى تتجلّى في شهر رمضان المبارك. فلكل ساعة من اليوم بهجتها في هذا المكان. تغمره الروائح نفسها طوال الوقت، لكنه الحي الذي يتبادل فيه الليل والنهار موقعيهما من خلال الهدوء والصخب. ففي النهار تكون الحركة فيه عادية، وتكافح الشمس لترسل شعاعًا هنا أو هناك، أو لتتسلل من فجوة في سقف. أمَّا في الليل، فيبدأ الصخب، حتى إن إضاءة الليل الكهربائية تكون أكثر توهجًا من إضاءة النهار. وقد اعتاد المقيمون والزوار هذا التبادل، وكيّفوا حياتهم على هوى الحي الذي يُلخّص القاهرة، أو في الأقل يُلخّص وجهها الإسلامي.
للقاهرة وجوه كثيرة، تعكس طبيعتها بوصفها مدينة تضم مدنًا متراكبة. إذ تضم داخل حدودها الحالية عاصمتين فرعونيتين: “منف” لجهة الهرم، و “أون” في الشرق. كما تضم عواصم إسلامية توالدت، منذ الفتح الإسلامي على يد عمرو بن العاص، الذي أسس الفسطاط عام 641م، على الشاطئ الشرقي للنيل. وبعده أسس العباسيون عام 750م، “العسكر” إلى الشرق من الفسطاط، ثم برز أحمد بن طولون واستقل بمصر مؤسسًا الدولة الطولونية، وبنى القطائع عام 869م. واستمرت المدينة في الاتجاه شرقًا، فأسس الفاطميون مدينتهم عام 969م، إلى الشرق من المدن الثلاث السابقة. وبالرغم من الغنى الباذخ لقاهرة المعز، التي أضاف إليها المماليك المنشآت العامة الضخمة والجميلة من المدارس والمستشفيات والمساجد، فإن خان الخليلي الذي بُني عام 1382م، هو الذي يُلخِّص وجوه القاهرة الإسلامية وتاريخها ووظائفها إلى اليوم.
آثار المملوكيين وتنوع الأعراق والبضائع
احتفظ “خان الخليلي” بهذه السطوة التي يستمدها من طابعه المُميز وروحه التي تختزن أرواح من سكنوه ومن عبروا منه يومًا، منذ أن بناه الأمير المملوكي جهاركس الخليلي، أغنى تجار زمانه والمقرب من السلطان الظاهر برقوق. وقد تعرّض الخان القديم، بعد قرن ونصف القرن تقريبًا على إنشـائه للهدم، ثم أُعيد بناؤه على يد السلطان قانصو الغوري عام1511م، بغرض تنشيط الحركة التجارية في القاهرة بعدما كانت قد تدهورت أحوالها إثر اكتشاف طريق رأس الرجاء. وبعد إعادة البناء، تبدلت بنية الخان قليلًا، نتيجة لإدخال بعض الإضافات، وهدم أسوار وأبواب وحوانيت، وإقامة بعض الأسواق المُحيطة به وضمها.
ولقرون طويلة من الزمن، كانت التركيبة السكانية لحيَّي الجمالية وخان الخليلي تتألف من عناصر مُختلفة، أبرزها التجار الأتراك والشاميون، يليهم المصريون، إضافة إلى المغاربة والحجازيين، وبعض المُترددين على الخان من بلاد فارس والهند وغيرها. أمَّا سوق خان الخليلي، فتفرّدت دون بقية الخانات والأسواق القاهرية بخصوصية تعكس ثراء بلد وتاريخه وحضارته واقتصاده وانفتاحه، وبتنوع بضائع لا يتوفر في غيرها من الأسواق القاهرية. وكذلك، احتواؤها على حرفيين مهرة تتجلى براعتهم في جماليات المصنوعات والمشغولات اليدوية، وخاصة النحاسية والفضية والخشبية منها.
وفي هذه السوق تحديدًا، نُلامس بقايا العصر المملوكي، الماثلة في بعض المباني العتيقة، والممرات الضيقة، والحوانيت الصغيرة بأبوابها الخشبية الضيقة، وبعض القباب. والخان كلمة فارسية الأصل، أُطلقت على استراحات التجار، وتُشبه كثيرًا الوكالات من حيث الغرض أو التصميم.
لقرون عديدة من الزمن احتفظ “خان الخليلي” بسطوة يستمدها من طابعه المُميز وروحه التي تختزن عبق التاريخ.
وعلى مستوى العمارة، فالخان عبارة عن بناء مُستطيل من غير نوافذ خارجية، يتوسطه فناء داخلي به بئر للمياه، ويُحيط به من جهاته الأربع رواق تنفتح عليه غرف بقباب نصف دائرية أو قباب مُتقاطعة، وفيه حمام ومُصلى وفرن ومدخل مُزخرف على نحو بارز، وإسطبل ومِزوَد. وقد ازدهرت عمارة الخانات في العصر المملوكي نتيجة انتعاش التجارة بين الشرق والغرب. ولم يظهر مصطلح الخان إلا في عام 1330م. أمَّا مصطلح الوكالة الأحدث، فلم يظهر إلا في عام 1481م، وكان هو الأكثر شيوعًا بين التجار خلال العصر العثماني، يليه مصطلح الخان.
كانت الأسبلة والأرباع والوكالات أهم ما يُميز الخان. إذ يضم أكثر من رَبع (الرَبع: مكان مُعد للسكن في الطوابق التي تعلو المنشآت التجارية)، أشهرها رَبع السلسلة، الخاص بالمشغولات الفضية المُحببة للسائح الأجنبي، والذهبية المُفضلة لدى العرب أكثر. إضافة إلى غيرها المُتخصصة في صناعة الأحجار الكريمة المحلية أو المُستوردة، كالعقيق والكهرمان والزمرد والفيروز. علمًا أن الغلبة أصبحت الآن للبلاستيك. وأيضًا، رَبع السلحدار، المُكرس للنماذج والمنحوتات والتماثيل الأثرية المُقلدة المصنوعة من البازلت والمرمر، أو أوراق البردي. وثمة أكثر من وكالة متخصصة في الخان، كان منها مثلًا وكالة القطن، وإن لم يعد أغلبها قائمًا اليوم. تمامًا مثل الأبواب التسعة القديمة للخان التي هُدِم أغلبها، وأشهرها باب الدهب.
كرنفال روائح وألوان
لم يعد الخان اليوم على النحو نفسه عندما أعاد السُلطان قانصو الغوري تشييده. فقد تأثر بعوامل التاريخ تارة، وبالإهمال في زمن العثمانيين تارة أخرى، على الرغم من بعض الانتعاش والازدهار والتطوير الذي شهده في عهد محمد علي باشا (1805م – 1848م). ومن أهم معالم الخان وأبرزها الباقية واللافتة للانتباه، أبوابه الثلاثة الرئيسة: باب الغوري، وباب القطن أو وكالة القطن، وباب سكة أو درب “البادستان” (كلمة تُركية تعني الكتان) الواقع في الطرف الغربي للطريق المُؤدي إلى جامع الحسين.
يخطف باب البادستان أنظار العابرين وكاميراتهم. وأجمل بقعة في الخان، هي عبارة عن مدخل يُشبه مداخل الجوامع والمدارس المملوكية، خاصة تلك المبنية في عصر السُلطان الغوري، مثل مدخل جامع الغوري. ويتكون هذا المدخل من فتحة معقودة تحتوي على زخارف هندسية جميلة محفورة في الحجر، ومُزين بزخارف هندسية من الرخام الأبيض والأسود. ويعلو باب المدخل نقوش كتابية. كما يتصدره عقد ثُلاثي الفصوص زُيِّنَ بمُقرنصات تحتوي على زخارف نباتية جميلة، وثلاثة شبابيك خشبية تُشبه المشربيات.
الشعور المُصاحب للتجوال في الأسواق التاريخية مثل “خان الخليلي”، يختلف تمامًا عما هو عليه في الأسواق والمراكز التجارية الحديثة. فهنا يتوه عشَّاق الماضي وسط التاريخ، ويتلمسون روحه وأنفاسه رغم الازدحام والضوضاء والصخب. ويتوافد هؤلاء على الخان بكثرة في شهر رمضان المبارك؛ للاستمتاع بكرنفال الروائح والألوان التي لا يمكن أن يجدوا ما يشبهها في أي مكان آخر.
رمضان في الخان
تُعدُّ زيارة خان الخليلي بندًا ثابتًا في برنامج زوار القاهرة، سواء جاؤوها بغرض السياحة، أو لأي غرض آخر. ويروي الدكتور نزار الصياد في كتابه “مدينة الألف وجه”، واقعة طريفة تتعلق بافتتاح القاهرة الإسماعيلية التي أنشأها الخديوي إسماعيل مُحاذية للقاهرة الفاطمية، من غربها وصولًا إلى شاطئ النيل. استعد الخديوي لاستقبال ضيوفه من الأباطرة والملوك الأوروبيين ليبهرهم بمدينته الحديثة، ولكن هؤلاء الضيوف كانوا متلهفين لرؤية المدينة الإسلامية وأسواق خان الخليلي، مأخوذين بسحر “ألف ليلة وليلة” وأجواء المدينة الإسلامية في القرون الوسطى.
لا يعني هذا أن جاذبية الخان تقتصر على الأجانب. فعلاقة المصريين والعرب به وثيقة طوال العام، وفي شهر رمضان على نحو خاص. فلشهر الصوم بهجة في خان الخليلي تغمرك بمجرد الدخول إليه. ففيه يجتمع السهر في المقاهي والمطاعم والتسوق مع الصلاة في المساجد العريقة المحيطة بالخان، وخصوصًا مسجدي الحسين والأزهر. ويزدان الخان بزينة خاصة للمناسبة، مثل الشراريب الملوّنة المدلاة من حبال معلقة فوق الأزقة في حاراته. أمَّا السيادة في الزينة الرمضانية، فلم تزل للفوانيس المصنوعة يدويًا؛ الخشبية منها، أو النحاسية، أو حتى المصنوعة من صفيح مُعاد تدويره مع الزجاج الملون، والمهيأة للشموع أو للمصابيح الكهربائية.
وكثير من الزوار يقصدون الخان قبل رمضان لشراء الفوانيس، من الحجم الصغير للأطفال، أو الكبير لتزيين الشرفات ومداخل العمارات. إذ يمتد أثر الخان في رمضان ليشمل كل أحياء القاهرة بمختلف مستوياتها الاجتماعية، وكأنه قلب تمتد شرايينه في جسم المدينة العملاقة، لكن ما يسري فيها هو نور الزينة الرمضانية.
تخطيط للروح
استمرار الصخب في خان الخليلي كل ليلة، من قبل الغروب إلى الشروق، يوحي بأن هناك نظامًا محكمًا للمناوبات. لكنه الولع الذي يدفع بموجات الساهرين إلى مقاهي الحي العريق ومطاعمه وحوانيته، فيُبقيه صاخبًا حتى الفجر، حيث ينسحب الساهرون بعد السحور إلى بيوتهم أو إلى صلاة الفجر في الحسين والأزهر ومساجد المنطقة الأثرية الأخرى المفتوحة للصلاة.
قبل شروق الشمس، يهدأ الخان. لكن بقايا الأصوات وأنفاس العابرين والمقيمين، تظل معلقة بالمكان، تنتظر زوّار النهار، مُحبي الهدوء من عشاق الآثار ومتسوقي الذهب والتحف والأنتيكات من التماثيل والأواني النحاسية المطروقة يدويًا إلى أجهزة التليفون العتيقة والجرامافون والأسطوانات النادرة.
السير العشوائي في الشوارع والدروب والحارات والأزقة لخان الخليلي، يستدعي إلى الذهن وبقوة، المشي الأفعواني على غير هدى في مدينة البندقية الإيطالية، وتوليدو الإسبانية، وسبليت الكرواتية، وحتى البلدة القديمة في نيس الفرنسية. ربَّما الاختلاف الأساس أن هذه المُدن القديمة تُطل على البحر أو النهر مُباشرة، بعكس خان الخليلي المُغلق على نفسه. من ناحية أخرى، تستدعي حالة الخان، بأسواقه المُتنوعة، الكثير من التشابه مع أسواق مُختلفة في مدن عديدة، خاصة “البازار الكبير” في إسطنبول، وسوق “الحميدية” الشهير في دمشق”، وسوق جامع “الفنا” في مراكش، رغم اختلاف التصميم المعماري والطُرز الفنية والمساحات وتسقيف الأسواق، وبالطبع أنواع البضائع المعروضة. لكن تخطيط المتاهة لقلوب المدن يبدو وكأنه قد أنجز لصالح التسكع والتيه اللذيذ؛ إنه تخطيط من أجل الروح.
مقهى الفيشاوي.. قلب القلب
المكان الذي يُنافس الخان شهرة ويتصدر مدخله، هو مقهى الفيشاوي. زيارة الخان منقوصة إن لم تشمل ذلك المقهى العريق، لكنك تستطيع أن تكتفي بزيارة المقهى فيأتيك الخان إليه، حيث يتوافد الباعة الجوالون والموسيقيون. قد تحب أو لا تحب ذلك، لكنك ستلتقي بائعي الجلديات ورسامات الحناء وبائعي الإكسسوارات النسائية والملابس، وبائعي البسط، وحتى مسوقي الكتب يعرضون بضاعتهم عليك.
استقطب المقهى عبر تاريخه مفكرين وفنانين وأدباء وحكامًا، وغيرهم من مُستشرقين ورحّالة، حيث يتخطى عمره مائتي العام. كانت بداية المقهى بسطة بسيطة، أقامها فهمي الفيشاوي في ذلك المكان باسم “البوسفور” لتقديم المشروبات للمصريين والأجانب، في العقد السابع من القرن الثامن عشر، مع اختلاف بسيط بين الروايات؛ إذ يُقال إنه أقام تلك البسطة عام 1769م، أو 1771م، وبعد ذلك بنى المقهى عام 1797م. وأيًّا كان الأمر؛ فأثاث المقهى ومراياه الباقية إلى اليوم، يعود طرازها إلى عام 1900م.
ورغم الهالة التاريخية المُرتبطة به، وأسعاره غير الشعبية مُقارنة بغيره، فإنه لفرط بساطته قد لا يلفت الانتباه، فتمر به دون أن تجلس حيث اعتاد الأديب نجيب محفوظ الجلوس بانتظام، وحيث جرى تصوير بعض مشاهد ثُلاثيته. وهناك الكثير من الأدباء الذين مروا على المقهى مُرورًا عابرًا، مثل: أحمد رامي وحافظ إبراهيم وأحمد شوقي وسعد زغلول وعباس العقاد وتوفيق الحكيم ومطران خليل مطران وأم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ، وحتى جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار. كما زارته شخصيات تاريخية، مثل: نابليون بونابرت، والإمبراطورة الفرنسية أوجيني، والقائد الألماني إرفين روميل، والملك فاروق، وغيرهم من الرؤساء والوزراء والسفراء والسياسيين.
استوقف هذا المقهى العديد من المُؤرخين والرحالة والمُستشرقين، فوصفوه بالكلمة والرسم. أبدعوا عنه لوحات باهرة مُلونة، أو بالأبيض والأسود. وتحظى هذه الأعمال اليوم بإقبال هائل في صالات المزادات العالمية، ويُدفع مُقابلها ملايين الدولارات. وكان آخر اللوحات المَبِيعة، “بائع السجاد في خان الخليلي” للبريطاني جون فريدريك لويس؛ و “بازار خان الخليلي” للبريطاني تشارلز روبيرتسون، وله لوحة أخرى بديعة بعنوان “سوق السجاد”؛ ولوحة الإيطالي فيديريكو برتوليني “خان الخليلي”؛ وأخيرًا “مدخل خان الخليلي” لكارل فريدريش هاينريش فيرنر، ومنها مُستنسخات تُباع في بعض محال الخان.
مكان لا يغادرك
الجمالية، مسقط رأس نجيب محفوظ، فرضت هي والخان سطوتهما على عميد الرواية العربية؛ إذ إن معظم رواياته تدور في المكان، كما استمد منه بعض عناوين أعماله، مثل رواية “خان الخليلي” التي تبدأ بانتقال أسرة بطلها “أحمد عاكف” من حي السكاكيني الراقي هربًا من خطورة الحي الذي يسكنه الضباط الإنجليز وتستهدفه غارات الحرب العالمية الثانية، إلى خان الخليلي. جاءه أحمد عاكف بمشاعر مختلفة فيها “لذة الاستطلاع، ولذة الجري وراء الأمل، بل لذة استعلاء خفية ناشئة عن انتقاله إلى حي دون حيه القديم منزلة وعلمًا”. لكن سرعان ما يتلاشى الاستعلاء بعدما تسلل الحي إلى روح بطل الرواية، مثلما يتسلل إلى أرواح زائريه الذين يغادرونه ولا يغادرهم أبدًا؛ فيحملون ذكريات لحظاتهم فيه إلى أوطانهم البعيدة.
مقال ممتع رحلة بكل الحواس عبر الزمن نقلني من أوروبا الباردة طقسا ومشاعر إلى دفء عالمنا أناس بشوشون وألوان فاقعة تفيض حياة ونقوش إسلامية مزجت حضارات شتى شكرا للكاتب المبدع صاحب القلم الذي يفيض بلاغة ورونقا والمصورة المحترفة
أشكركما على الجهد المبذول لتقديم هذا المقال الذي استحق أن يحتل غلاف المجلة بجدارة