مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

حُلم الأديب بالعثور على مخطوطة


وحيد غانم

قلة من المؤلفين واتاهم الحظ في العثور على سجلات أسلافهم واستعانوا بها بشكل صريح، بل وتمكنوا من رفع خامتها اليومية البسيطة والمبتذلة أحيانًا إلى مستوى عمل إبداعي. وفي كثير من الأحيان يُخفي الكاتب مراجعه، سجلات كانت أو صورًا، وغالبًا ما تكون “المخطوطة” هي ذاكرته. وربَّما لدى كل مؤلف شغوف بفنه ويائس منه، رغبة دفينة في العثور على مخطوطة مجهولة المصدر، مخطوطة كتاب رائع ونادر الحدوث، وزعمها لنفسه.

ثمة مساران يحفّان الكتابة: انتحال أثر مجهول المصدر أو لصُّ وثيقة بكاملها، دفتر مذكرات أو مسوّدة رواية معلومة المصدر، ضائعة. وهناك فرق بين كتب أو مصادر ملهمة وأخرى منتحلة؛ بين مُوقد النار وسارقها. الكاتب في مبدئه قارئ متطفّل، طفل سارق كتب. وفي كل الأزمان يكون هناك مؤلفٌ ما ترك خلفه مخطوطة عظيمة.

دفاتر حسابات قديمة تُبعث من جديد

في الفصل الرابع من رواية “الدب” للكاتب الأمريكي ويليام فوكنر، نُفاجأ بتحوّل مسار السرد من قصة صبي يشارك في مخيّم لاصطياد دبّ عجوز – يُصطاد بالفعل – إلى مراجعة دفاتر حسابات وقيود قديمة تعود إلى أسلافه في منتصف القرن التاسع عشر، وليعاود السرد بعد ذلك مساره الزمني في الفصل الخامس والأخير. وتكشف هذه الدفاتر عن عمليات بيع وشراء للرقيق ومواليدهم وزيجاتهم وحياتهم. سجلٌ يومي تقليدي لمن دوّنه ولم يفكر أنه سيكون مَذخرًا لأحد أحفاده (المؤلف) في بناء فصل كامل ضمن هذه الرواية، وتعميق روابط نصّ “الدب” الذي لا تسمح بنيته بالإسهاب.

ويعرض فِلم “The Words – الكلمات” تجربة مريرة عاشها كاتب شاب يعاني الإخفاق، فيعثر على دفتر مذكرات جندي في الحرب. تبهره المذكرات الخاصة، فينشرها على شكل رواية بعد أن ينسبها إلى نفسه. سينال الشهرة والثناء بسبب القيمة الأصيلة والتاريخية للكتاب. هذا مثال صارخ على الحلم بنيل مخطوطة ما. تحقّق حلمه بالاستيلاء على وثيقة معلومة المصدر، بالنسبة إليه، مع وخزة ضمير لا تفارقه وستحطم حياته. إنها التجربة التي ستصهره ليكتب بشكل أفضل. ففي النهاية، عندما التقى المؤلف الأصلي، تخلى الأخير عن حقه في الكتاب، ذلك أن ما كان حلمًا ورغبة لمؤلف شاب، كان تجربة قاسية عاشها ودوّنها المؤلف الأصلي منذ سنوات بعيدة، وليس مهمًا له أن نُشرت باسمه أو باسم شخص آخر، فلم تكن تعنيه الشهرة بقدر تسجيل لحظة مصيرية.

قلة من المؤلفين واتاهم الحظ في العثور على سجلات أسلافهم واستعانوا بها بشكل صريح، بل وتمكنوا من رفع خامتها اليومية إلى مستوى إبداعي.

أكان دون كيخوتهكتابًا عربيًا؟

في الأدب عالميًا وعربيًا، هناك عدد كبير من روايات المخطوطة؛ أي التي اعتمدت في بنائها على مخطوطة افتراضية أو حقيقية، وأغلبها تاريخي. بعضها اقتبس مؤلفوه شيئًا من أعمال سابقة لملء تلك الفجوة المقلقة والمتطلبة في أعماقهم. ولكن بعض حيل اعتماد المخطوطات، بوصفها مصدر العمل، باتت بحد ذاتها حكايات وطلاسم عبر القرون. وهنا تأتي لعبة ميغل دي سرفانتس في ملحمته “دون كيخوته” على رأس الأمثلة. إذ ينسب هذا القشتالي المغامر روايته إلى مخطوطة لمؤلف دعاه سيدي حامد بن الجيلي أو البِنِنغلِي، أو بحسبه “المورسكي الأب – أبو الكتاب”، وقد كُتبت بالعربية، واشتراها سرفانتس من صبي لدى مروره في سوق طليطلة وكلّف أحدهم بترجمتها؛ إذ إن عربيته التي استقاها من مكوثه في مدينة وهران، لم تكن كافية. وقد أشار إلى هذا المورسكي، في ثنايا الرواية، قرابة مائة مرة، باعتباره إحدى الشخصيات المرافقة لسير الأحداث والوكيل المكلف بتدوينها. فطيف المورسكي يقبع داخل المدونة وخارجها على السواء، قناعًا ذا وجهين، وهي قد تكون حيلة أدبية لخلق الوهم السردي من مؤلف اعتـاد في كتاباته استكشاف أساليب السرد المتنوعة، آنذاك. أو أنه اتخذ المورسكي دريئة لتسديد سهام تهكّمه اللاذع ضد قصص الفروسية السائدة في زمانه. لكنها حيلة أثارت، ولا تزال، تساؤلات حول وجود المؤلف سيدي حامد المجهول، ومن ثَمَّ المخطوطة العربية الأصلية التي استقى منها سرفانتس عمله.

مـا قد يقوله علم النفس

إن محللًا نفسيًا سيعزو تمنّي العثور على مخطوطة حقيقية لكاتب مجهول في مستواها الأول إلى رغبة المؤلف اليائس بإنجاز عمل يضاهي ملاحم الأعمال العظيمة، وسيجد شيئًا من غريزة الاستيلاء الأعمق، لا بقتل الآخر، بل بتجاهله واحتلال مملكته. ولعله أيضًا بحثٌ عن العناصر الأولية لترميم الثغرات الفكرية من خلال إعادة نسج المادة (المخطوطة الافتراضية) فيما لو افترضنا أن المخطوطة فيها نواقص تتطلب ترميمًا، وإلا فإن الاستيلاء سيكون مجرّدًا ومقترنًا بعدوانية نرجسيّة؛ ذلك أن حلم الكاتب، أولًا وآخرًا، يتجلى في العثور على مادة متكاملة، بل ذات قيمة خيالية باهرة. وسيبرّر لنفسه إثم السرقة أو الانتحال بما سيحققه من مكسب صعب المنال على ملكته الضيّقة.

وهنا، تطرأ الشكوك التي أثيرت حول أصل رواية “الدون الهادئ” للروائي الروسي ميخائيل شولوخوف، والمزاعم أن كاتبها روائي آخر أُعدم في الحرب الأهلية الروسية؛ مقاربة الأشياء المرعبة لرغبة أي مؤلف بالعثور على مخطوطة مجهولة المصدر أو لمؤلف ضحيّة لحظة تاريخية قاسية وزعمها لنفسه. يتعرّض الكاتب في نشأته الفكرية الأولى إلى دوامة يأس من التعبير، وهو ما قد يُعيقه عن إنجاز عمل عظيم. ويذهب بنا ذلك إلى نشأة الفكر الإنساني العارية وتلبّسها خليط المعتقدات والأساطير.

لا يدرس عِلم المخطوطات” الكوديكولوجيا” رغبة الكاتب العميقة والدنسة في الاستيلاء، بقدر اهتمامه بطبيعة المخطوطات المادية، وهو علم محايد. مثلما أن حكايات ألف ليلة وليلة لا تقدِّم مثالًا على إمكانية وجودها كمخطوطة قابلة للانتحال، بل العكس تمامًا، فهي القادرة على جذب كل شيء لمدارها. لقد أصبحت شيئًا غير قابل للانتحال، بل التقليد والاقتباس في أفضل الأحوال، ومن العبث البحث عن مؤلفها الأول؛ فهي منيعة ولا زمنية كحلم، وهي لا نهائية بحسب الكاتب الأرجنتيني بورخس، تشكلّت كالشهاب عبر القرون من حكايات رواة مجهولين غابوا في متنها وتساقطت منها حكايات ولاحقتها أُخر.

لا نهائية الليالي تحيّدها عن مفهوم المخطوطة التقليدي، فقد وُجدت يومًا، ووصلت إلينا بشكلها الحالي عبر مداد مرويّات متنوعة من جسم الشرق الكبير، جمعها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان عام 1704م، باختياراته الرومانسية وبكل ما لفقه وأضافه إليها. وقد تلقينا نسخة مطبعة بولاق المصرية منذ عام 1835م، وليس مهمًا ما سبقها من أصداء أصوات الحكواتيين بكل اللغات. إنها المخطوطة الضد، وهي لا كتاب أيضًا وإن وُجدت في مكتباتنا.

 إن حلم بورخس باللانهائية، وإجلاله العميق لليالي، وقد أعاد التعبير عما يُضاهي فكرتها الكونية في قصته “مكتبة بابل”، يذهب بنا بصورة غير مباشرة إلى سيغموند فرويد. فهنا يلتقي التحليل المجرّد بالمخيلة الأدبية لينتجا شيئًا غريبًا. في كتابه “الأحلام والهذيان في الفن” حاول فرويد، وللمفارقة، بل ربَّما دون وعي منه، التعبير عن رغبة دفينة بكتابة عمل أدبي مبني على وثيقة، من خلال تحليله سيكولوجيًا رواية “غراديفا”، التي تدور حول مدينة بومبي الإيطالية التي دمّرها ثوران بركان فيزوف. لقد حلل عملًا أدبيًا ليبني حلمه اللازمني، ثم يقوّضه. أهدره كمادة سيكولوجية بارتكابه خطأ هامشيًا، لكنه يُعدُّ مثلبة في مضمار التحليل النفسي، وأكده بوصفه عملًا أدبيًا مبنيًا على طيف عمل آخر. بالإمكان الزعم أن كتاب فرويد هو رواية سيكولوجية لم تبلغ مداها.

يتغذى وينمو حلم الكتّاب على تراكم تاريخي من الأعمال الأدبية والفلسفية. تكون هناك مخطوطة أبدية واحدة بأوجه عدّة. في الفصل الرابع من رواية “الدبّ” تمتزج طوطمية الهنود وطقوس السود البدائية بتقييدات مسيحية، وتمنح شعورًا بأن كل مخطوطة تحمل سمة مما يمتزج بالطبيعة ويفارقها. قد يظهر في لحظة من الزمن من يخترق سديمها، يقتبسها وينتقل بها إلى فضاء آخر، لكن هذا يتطلب رائيًا من عينة الشاعر الفرنسي رامبو، صاحب “فصل في الجحيم”، تدفعه الحكايات إلى السفر في أحلام الشرق.


مقالات ذات صلة

بعد قليل أو كثير من وفاة كاتب أو مفكر، يُمكن أن تُعلن دار نشر عن إصدار كتاب جديد له، وهناك حالات كثيرة لهذا الشكل من النشر عربيًا وعالميًا، أثارت كثيرًا من التساؤلات حول جدواها الثقافية من جهة، ومشروعيتها من جهة أخرى. 

السؤال عن اندثار فعالية مثل معرض الكتاب في المستقبل القريب أو البعيد، لا يمكن أن تكون إجابته، نعم.

برز الشاعر والفيلسوف المغربي محمد عزيز الحبابي (1922-1993) كرمز لتطوير التعليم الجامعي في المغرب، حيث أطلق مفهوم “الشخصانية الإسلامية” ووجه مناهج التفكير لجيل جديد..


0 تعليقات على “حُلم الأديب بالعثور على مخطوطة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *