مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو - أغسطس 2023

داخل دائرة المنظومة الكونية

 حيـاتنا إيقـاع!


مهى قمر الدين

في تعريفه المبدئي، الإيقاع هو أي حركة تتكرر بشكل منتظم، وتتميز بالتعاقب لعناصر قوية وضعيفة، أو ظروف معاكسة أو مختلفة. يمكن أن ينطبق هذا المعنى العام على التكرار المنتظم أو النمط الزمني الموجود في مجموعة متنوِّعة من الظواهر الطبيعية الدورية، التي لها تواتر أو تكرار قد يمتد من ميكروثانية إلى عدة ثوانٍ أو عدة دقائق أو ساعات، أو في حالات أخرى، على مدى سنوات عديدة. كما ينطبق هذا التعريف، أيضًا، على الإيقاعات التي تنتظم في أجسادنا لتضبط عمل وظائفها العضوية بشكل محكم. تخلق جميع هذه الإيقاعات تناغمًا في كل ما يحيط بنا، فتؤثر فينا وتتحكم في حياتنا، بحيث يمكننا رؤية تعاقبها الزمني وسماع نبضاتها. ولكن، قد تكون أكثر الإيقاعات قوة في حياتنا، تلك الموجودة في عالم الصوت إن كان من خلال الموسيقى التي نسمعها أو الشعر الذي ننظمه، أو في التواصل اللغوي فيما بيننا. 

بالوعي الشعبي، عادة ما يرتبط الإيقاع بالموسيقى، من حيث أنه يمثل أحد جوانبها المركزية، فضلًا عن أنه يُعدُّ أحد عناصرها الأساسية الأربعة: الإيقاع، واللحن، والهارموني، والطابع الصوتي. فهو الذي ينظّم الأصوات الموسيقية المكوِّنة لأي لحن إلى وحدات زمنية متساوية، ويعطي هيكلًا للموسيقى، ويجعل النوتات الموسيقية تنبض بالحياة.

لكن الإيقاع لا يقتصر على الموسيقى وحدها، فكل ما يحيط بنا هو في حالة حركة مستمرة، وفي كل حركة هناك إيقاع. وكما تسود إيقاعات الحياة في الكون من حولنا، كذلك تنتظم أيضًا في أجسادنا. فالإيقاع هو القوة التي تحرك العالم، وهو الذي يترجم نبضات الحياة على كوكب الأرض، ويمكننا مشاهدة الإيقاعات في كل مكان وسماع أصواتها، فهي موجودة في دوران الأرض وتراتب الأيام وتعاقب الأسابيع والشهور، وفي مراحل القمر، وفي المد والجزر، وتساقط المطر، وحتى في نقيق الضفادع، وتغاريد الطيور، فالكون كله غارق في بحر من الإيقاع الذي لا يتوقف هديره أبدًا. أما أجسادنا فتضج بمجموعة من الإيقاعات المتناغمة التي تعمل معًا لتبقينا على قيد الحياة، من القلب الذي ينبض بشكل إيقاعي، فيفتح ويغلق آلاف المرات على مدار اليوم، إلى عملية التنفس التي تتناوب فيها عمليات الشهيق والزفير بدقة عالية، فضلًا عن الساعة البيولوجية التي تتحكم بأوقات النوم والاستيقاظ لدينا والتي تنظم بواسطتها مختلف وظائفنا العضوية تنظيمًا دقيقًا محكمًا، وذلك وفقًا لفترات ودورات ثابتة، لتؤكد لنا خاصية أعمق وظائف الحياة وأنها ذات طابع إيقاعي.

أهمية الإيقاع

في كتابه “التحليل الإيقاعي: المكان والزمان والحياة اليومية”، يشير عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي هنري لوفيفر، إلى أنه رغم قدرة الإنسان على الإحساس بالإيقاعات النابضة من حوله، إلا أن هناك صعوبة في إدراكها بشكل جيد. يقول لوفيفر: “يعتقد الجميع أنهم يعرفون ما تعنيه هذه الكلمة [إيقاع]، وإنما في الواقع يستشعر بها الجميع بطريقة تقصر كثيرًا عن إدراكها، فالإيقاع يدخل في الحياة، ولكن هذا لا يعني أنه يدخل في الإدراك، فهناك طريق طويل لنقطعه من الملاحظة إلى التعريف، بل وهناك طريق أطول من استيعاب بعض الإيقاعات (الموسيقى في الهواء، أو التنفس، أو دقات القلب)، إلى المفهوم الذي يدرك التزامن والترابط بين إيقاعات عديدة، ويفهم وحدتها حتى في تنوِّعها”.

الإيقاع يسهل التواصل بيننا ويحاكي أحاسيسنا ويدخل إلى أعماق الروح البشرية.

ولكن بغض النظر عن ذلك، فالإيقاع له أهمية كبيرة في حياتنا، إذ يساعدنا على فهم العالم من حولنا والتواصل معه بشكل أفضل، فيلعب دورًا رئيسًا في الاستماع والمحادثة وفهم الكلام والمشي وحتى في مشاعرنا تجاه بعضنا الآخر، وإنما قد تكون أقوى الإيقاعات المؤثرة بالنسبة لنا تلك الموجودة في عالم الصوت، فهناك مجموعة كبيرة من النبضات والاهتزازات والموجات التي تصنع مسـارًا صوتـيًا فريدًا في حياتنا، كما أن التناغم الذي يحصل من خلال الأصوات هو خاص للبشر دون غيرهم.

في ثقافات العالم

الإيقاع في عالم الصوت، هو كالضوء بالنسبة لعالم البصر، فهو يشكِّل ويعطي معنى جديدًا لكل ممارسة أو طقس يدخل فيه، ويلعب دورًا كبيرًا في عالم التواصل. وإذا بدأنا بالموسيقى، نجد أن الموسيقى والإيقاع متجذران في كل ثقافة من ثقافات العالم، فمنذ بداية الخليقة لم تكن هناك أُمٌّ لم تهز رضيعها بشكل إيقاعي لتهدئة بكائه، ولا أُمٌّ لم تلجأ إلى تهويدة تغنيها لطفلها لتهيئته للنوم. كما أن الأصوات المتكررة وفترات الصمت التي تشكِّل الأنماط الإيقاعية تجعل الرقص ممكنًا، وتساعد على تذكر الإيقاعات الموسيقية وإعادة إنتاجها، وتسهل الغناء الجماعي والعزف وقرع الطبول الذي كان يستخدم قديمًا للتحذير من خطر قادم أو الدعوة إلى التجمع أو لأي غرض آخر.

لقد تم اعتماد الإيقاع منذ آلاف السنين لربط أعضاء المجتمع معًا، وليست الترانيم الدينية والموسيقى العسكرية إلا مثالين لتلك الاستخدامات الجماعية للموسيقى. في كتابه “مغني الحكايات” يعرض ألبرت لورد، أستاذ الأدب المقارن في جامعة هارفارد الأمريكية، كيف تم إنشاد وغناء الأعمال الشعرية منذ آلاف السنين، مثل ملحمتي الإلياذة والأوديسة لهوميروس، بالإضافة إلى مجموعات من الأغاني الطويلة لشعراء من يوغوسلافيا، وأغنية بغداد لابن عربي، وبعض الأغاني البطولية الصربية، منها “زفاف سمايلاجيتش ميهو”، ليظهر كيف أن الشعر الغنائي الشفاهي كان ينشد بإيقاع يخدم وظيفة مساعدة الذاكرة. ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن ألبرت لورد كان يقصد بمغني الحكايات، الجوسلار اليوغوسلافي، نسبة إلى “جوسل” وهي الربابة، وهو شاعر أُمّي جوّال كان يتغنى بالقصائد الطويلة في كافة المناسبات الاجتماعية بمصاحبة آلته الموسيقية البدائية. وهنا لا بد أن نذكر الشعر الغنائي العربي الذي بلغ ذروته في العصر الجاهلي، إذ كان العرب ما قبل الإسلام يستخدمون لفظة “أنشد الشعر” للتعبير عن قراءة الشعر وإلقائه، فكانت أشعارهم بإيقاعاتها ونبراتها ومداتها الطويلة والقصيرة تمثل نوعًا من الموسيقى. كما كان البدو يغنون بعفوية على إيقاعات سير القوافل في الصحراء، وكان غناؤهم منسجمًا مع تمايل الإبل المنتظمة في مشيها الطويل عبر الصحراء اللامتناهية، وهذا ما عرف بـ “حداء الإبل”. ويمكن أن نشير هنا إلى أن حداء الإبل يُعدُّ، أحد التعابير الشفهية في تراث المملكة العربية السعودية، بحيث يمكن تعريفه بأنه: مجموعة من الأصوات التي يقوم بها رعاة الإبل للتواصل مع قطعانهم، وذلك لإيصال رسالة محددة في مناسبات مختلفة، فتتفاعل الإبل مع هذه الأصوات اعتمادًا على اللحن، والطريقة التي درّبها عليها رعاتها.

أغاني العمل

في حالات معينة ولكسر الرتابة، عادة ما ترافق العمل المتكرر أو المعقد نغمات إيقاعية، وفي بعض الحالات تساعد هذه النغمات فعليًا على أداء العمل بشكل أفضل. وفي هذا السياق، يتحدث المؤلف تيد جيوا في كتابه “أغاني العمل” حول كيفية اعتماد مجتمعات عديدة على الموسيقى لتغيير تجربة العمل لديها، وكيف أن أغاني العمل غالبًا ما تتخطى الوظائف النفعية، فقد رافقت الأغاني المزارعين في أعمالهم الزراعية، وهدأت قطعان الرعاة، وأطلقت عجلة الغزالين. وساعدت ترانيم العمال التي كانوا يؤدونها وهم يقومون بأعمال شاقة، مثل تكسير الصخور، على الحفاظ على تأرجح المطارق الثقيلة في انسجام وانسيابية، ومن الأمثلة الحية التي يذكرها جيوا في كتابه، عمال البريد في غانا الذين يقومون بوضع الأختام على الطوابع البريدية يدويًا بإيقاع مميز، ونساجو البسط في إيران الذين يستخدمون ترانيم ذات هيكل موسيقي معقد لإيصال أنماط النسيج إلى زملائهم من النساجين، وغوّاصو صيد اللؤلؤ في مملكة البحرين الذين كانوا يغنون أغاني الفجري أثناء جرّ المجاديف ورفع الأشرعة (التي أدرجت على قائمة اليونيسكو الثقافية كموروث شعبي تراثي)، للتعبير عن المشاق التي كانوا يواجهونها في البحر خلال موسم الغوص، بالإضافة إلى عمال المناجم في جنوب إفريقيا الذين كانوا ينشدون ما يعرف بأغاني المبوبي لمساعدتهم على أعمالهم الشاقة داخل المناجم المظلمة.

التواصل اللغوي

ربما لا تكون اللغة هي ما يتبادر إلى الأذهان عندما نتحدث عن الإيقاع، فخارج سياق الشعر نادرًا ما نتنبه إلى أن الخطاب اللغوي له إيقاع معيَّن. وقد يكون أفلاطون من أوائل من أشاروا إلى الإيقاع في مقاطع الكلام، عندما قال: “إنك تستطيع أن تميز الإيقاع في تحليق الطيور، وفي نبض العروق، وخطوات الرقص، ومقاطع الكلام”. فالإيقاع هو عنصر أساس في التواصل اللغوي، إذ يحتوي الكلام على وحدات إيقاعية صوتية ومقاطع لفظية وكلمات وجمل، تتكشف كل منها بمعدلاتها الخاصة، كما أن الكلام يأتي بوحدات مختلفة الحجم ما بين الصوت الذي يصدره حرف فردي، أو الوحدة الصوتية الصغرى من جهة، والارتفاع البطيء والانخفاض لجهارة الصوت التي تتكشف على مدار جملة أو مجموعة من الأفكار من جهة أخرى.

تضج أجسادنا بمجموعة إيقاعات متناغمة ونبضات تصنع مسارًا صوتيًا فريدًا في حياتنا.

إن تشكل عناصر الكلام المتشابكة هي إيقاعات تدخل فيما يسمى “غلاف الصوت”، الذي يُعدُّ أحد المصادر المهمة للمعلومات الصوتية التي تنقل الإيقاع في الكلام، والذي يُعرَّف بأنه: الطاقة الصوتية المجمعة عبر الترددات جميعها لنطاق معيَّن. ويتم فرز الإيقاعات التي نلتقطها من غلاف الصوت بواسطة عقولنا، بحيث يمكننا أن نحاول التركيز على الأجزاء البطيئة من الكلام، (على سبيل المثال: تذبذب نبرة الصوت)، وتجاهل السريعة منها (الحروف المتحركة والأصوات الساكنة التي تنقل معنى الكلمات) أو العكس. ويعني ذلك كله أننا عندما نتحدث لا نتواصل فقط من خلال الكلمات التي نختارها، ولكن أيضًا من خلال أنماط الصوت التي نصدرها.

الجدير بالذكر أن علاقة الإنسان بالصوت أعمق وأقدم بكثير من علاقته بالكلمات. وفي الحقيقة، إن قدرًا كبيـرًا من القدرة على التواصل يتجاوز حدود الكلمات، حتى لو تمكن جانبا التطور والدقة اللذان يميزان اللغات الحديثة من أن يسترا جوانب أساسية للمعالجة السمعية التي تكمن وراء التواصل اليومي.

اللغات وتشابه إيقاعاتها

هناك اعتقاد بأن الأنماط اللغوية الإيقاعية عالمية بشكل كبير. فضمن سلسلة من قياسات خوارزمية للإيقاعات، عُقدت المقارنة بين اللغات الإنجليزية والفرنسية واليونانية والروسية ولغة الماندرين، في دراسة شاملة قام بها مجموعة من الباحثين في جامعة أكسفورد عام 2010م. ولقد أظهرت نتائج المقارنة أنه لا يمكن تمييز أي من هذه اللغات من حيث إيقاعاتها، إذ إنها لا تحوي إيقاعات مختلفة على نحو جوهري. كما أشارت الدراسة إلى أن الفروق جاءت من المتحدثين الفرديين أكثر بكثير من قواعد اللغة نفسها، ووفقًا لذلك ربما يمكننا القول إن غريزة الإيقاع في اللغة فطرية، وربما تردَّد صدى نظرية العالِم اللغوي نعوم تشومسكي في وجود قواعد عالمية للغات، الأمر الذي يعني أن الإيقاع اللغوي قد يسهل التواصل فيما بيننا نحن البشر رغم اختلاف ألسنتنا.

وأخيرًا وليس آخرًا، نستطيع القول إنه يوجد في عالم الصوت ضجيج وسكون وأصوات محادثات وذبذبات وتغاريد وشتى أنواع الأصوات. كما أن هناك الإيقاع، الذي قد يكون أهم العناصر إطلاقًا، لأنه هو الذي يصنع التناغم ويؤثر فينا بشكل كبير؛ ربما لأنه يحاكي أحاسيسنا، ويدخل إلى أعماق الروح البشرية، فيترجم وجودها في تواصلها مع نفسها ومع العالم من حولها، ويحقق حضورها على المستويات كافة.


مقالات ذات صلة

هل سلوكنا على وسائل التواصل الاجتماعي يعكس تفضيلاتنا؟ متى يصبح انتشار المعلومات انتشارًا فيروسيًا؟ ما السبل لتغيير هذا السلوك على وسائل التواصل الاجتماعي؟

عالم الأطفال، وهو عالم الخيال والتجدّد والتغير والاستكشاف المستمر، قادر على التعامل بشكل أفضل مع تطورات العصر والمستقبل التي تشبه أكثر عالم الأطفال هذا.

أسماؤنا جزء لا يتجزأ من حياتنا، فتشكّل تصوراتنا عن أنفسنا، وتؤثر في كيفية نظرة الآخرين إلينا، وتتحول إلى الشارة التي نقدّمها إلى العالم، أو “علامتنا التجارية الخاصة”


0 تعليقات على “ حيـاتنا إيقـاع!”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *