حتى عام 1996م، كان الخطاط السعودي حسن آل رضوان فنانًا تشكيليًا مهمومًا بالرسم الانطباعي والبورتريه بحدوده الكلاسيكية ظنًا منه أنه وصل إلى منطقته الفنية الآمنة. لكنه بعد تجربته الأولى مع الخط العربي، أحسَّ وكأنه توًّا يخطو خطواته الأولى في عالم هائل عشقه، ونذر نفسه له بالكامل، غامر وسافر ورحل واشتغل في فن الخط وفنون الزخرفة الإسلامية، لتكون النتيجة عشرات التجارب والأعمال.
في رواية “حاج كومبوستيلا” لبابلو كويلو، ينطلق الراوي في رحلة بحث طويلة عن سيفه المفقود الذي أضاعه أثناء استحقاقه. وفي سبيل استرجاعه اشترط عليه معلمه أن يقوم بالحج على طريق قديمة، كان يعبرها حجاج القرون الوسطى. هذه الرحلة الرمزية ألهمت الكثير من الفنانين والمبدعين؛ إذ جعلتهم أمام أسئلتهم الوجودية الخاصة ببحثهم عن مشروعهم (سيفهم) الشخصي الذي قد يركضون خلفه طوال حياتهم. بعضهم يجده فيحفظه ويرعاه ويعتني به، والبعض الآخر يظل يلاحقه من دون أن يصل إليه، أو يصل إلى ما يشبهه، وآخرون يعتقدون أنهم وصلوا، بينما تكون حقيقة ما وصلوا إليه مجرد سراب في صحراء البحث الشاسعة. ويمكن تلخيص علاقة الخطاط بحروف الخط العربي ضمن هذه الرمزية الروائية، التي يظل فيها الخطاطون يبحثون عن حرفهم في عوالمهم الفنية والسحرية والجمالية والروحية.
بعد ست سنوات من العمل الشاق ومحاولة تثبيت اسمه في عالم الخط العربي، وتحديدًا في عام 2002م، اختار حسن أن يوقّع أعماله الفنية باسم “عابد”، فعُرف بهذا التوقيع أو الاسم الفني أكثر من شهرته الحقيقية. و”العابد” هي عائلة والدته التي اعتنت به صغيرًا، واهتمت بموهبته، وألهمته أعماله ومحبته للخط العربي والزخرفة الإسلامية.
يجلس حسن إلى طاولة العمل ساعاتٍ طويلةً كل يوم؛ يدرس ويتأمل ويعمل ويقرأ ويكتب ويتابع، مشتغلًا بالخط العربي وبكل ما يتعلق به. فهو يؤمن بأن كل ما هو حول الفنان هو مشروع مؤجل، وتغذية بصرية ملهمة، يجب اليقظة لها والعناية بها. فيرى في البحر والنخل والفضاء والأشياء والبيوت، حتى العطر، صورةً بصرية يمكن أن تلهمه وتغذي ذائقته. ولهذا، فهو لا يغفو عن عمل إلا ويستيقظ على آخر. وبين يديه الآن معرضان جاهزان سيقدِّم فيهما رؤيته الفنية الجديدة.
الخط فن تراكمي
خلال دراسته، كان آل رضوان يتمعّن في مدارس الخط العربي القديمة والحديثة في الدراسات والكتب، ولدى أساتذته ومعلميه. ووجد أثناء قراءاته وبحثه الشخصي، خلال السنوات العشر الأخيرة، الكثير من الخطوط العربية البغدادية القديمة التي تعود إلى ما قبل عام 800 هجري، والتي لم يُسلط عليها الضوء التأملي والبحثي، فأخذ على عاتقه محاولة البحث في هذه النماذج لاستخلاص بعضها، ولا سيَّما تلك التي تشبهه بوصفه فنانًا وباحثًا. وخلال ذلك، قدّم كثيرًا من المحاضرات والندوات والبحوث عن الخط العربي في عواصم عربية وعالمية عديدة، مستعينًا في ذلك كله بخبراته البحثية والاستقصائية.
يقتصر العمل البحثي عند بعض الفنانين على التوثيق، من دون الخروج منه إلى العوالم المهتمة بما وراء الحرف، والباحثة في أسراره وتاريخه.
ومع اشتغاله بمشاريعه الفنية الخاصة التي تأخذ جلّ وقته، نظّم حسن كثيرًا من الفعاليات الخطية، مثل: المسابقات والمعارض والندوات والمحاضرات وورش العمل، فكانت له مشاركات محلية ودولية، منها ما كان في دولة الإمارات والكويت والبحرين ومصر وتونس والمغرب ولبنان والجزائر والصين وكازاخستان.
لم يختر حسن العزلة في محترفه للعمل بصمت سلبي، بل كان في عمله اليومي الدؤوب حاضرًا ومشاركًا في المشهد الفني السعودي والعربي، فهو عضو مؤسس للجمعية السعودية للخط العربي، وشغل فيها منصب مسؤول لجنة الأنشطة سنواتٍ عديدةً، أضاف خلالها الكثير من خبرته التراكمية إلى المشهد الفني المحلي، معرّفًا المهتمين والمرتادين على التجارب السعودية والعربية والعالمية، والمدارس والخطوط. كما شغل منصب مشرف لجنة الفنون التشكيلية والخط العربي في جمعية الثقافة والفنون بالدمام مدة ثماني سنوات، وعمل مدرِّسًا ومدرِّبًا للخط والزخرفة الإسلامية في الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون، بالإضافة إلى تدريس الخط لفنانين في المملكة وفي الكويت والبحرين.
بعد سنوات طويلة من العمل الجاد في ميدان الخط العربي، يرى آل رضوان أن الخط العربي هو فن بصري، مثله مثل التصوير الضوئي والفن التشكيلي وفن النحت والعمارة. ولفهم هذا الفن، علينا أن نعتني بالجانب البصري الذي هو أداة الدخول إليه، فيقول: “الخط العربي فن تتراكم فيه التجارب عبر عشرات السنين. فبمجرد أن نرجع إلى تاريخ تطوره، سنرى أن هنالك تراكمًا في التجربة الفنية عند خطاطيه، وكانت تشكّلات الخط العربي في تغير دائم، بدءًا من العصر العباسي حتى عصرنا الحديث. نعم، قد نرى هناك بعض الأزمنة أو بعض العصور انحسر فيها هذا التطور أو توقف، لكن الأصل فيه هو الصيرورة، وهذا ما يميّزه”.
ويتابع: “لو رجعنا إلى العصر العباسي، فإننا سنرى تطورًا وابتكارًا لكثير من الخطوط، حتى وصل عددها إلى عشرات الأنواع، مثل الكوفي وبعض الخطوط اللينة. فالخط العربي في حالة تطور وحركة دائمين منذ القرنين الثاني والثالث الهجريين وحتى يومنا هذا، وخصوصًا في السنوات الخمسين الأخيرة، فقد اتخذ الخط العربي خطًا متطورًا أكثر جلاءً وحضورًا”.
ويذهب آل رضوان إلى أن الخط العربي بدأ تطوره في العصر العباسي على عهد الخليفة هارون الرشيد؛ إذ ابتُكِرت، آنذاك، ألوان خطية عديدة في رسم الحروف. وبانتقال الخلافة من بغداد، راح الخط العربي يترحل بين العواصم الإسلامية مع ترحال كتّابه وخطاطيه. ولهذا، بحسب رأيه، فإن للخط العربي مدارس متنوعة؛ منها: العراقية والمصرية والتركية والفارسية. وعلى الرغم من هذا التنوع، فإنه يجد نفسه غير منتمٍ لأي مدرسة، وإنما يغرف من كل مدرسة أجمل ما أنتِج فيها.
موزاييك التنوّع الثقافي والجغرافي
للمملكة تاريخ طويل ومتعدد الألوان في الخط العربي والفنون الزخرفية من أقاصي جبال الشمال حتى جنوبها، ومن سحر البحر الأحمر حتى أمواج خليجنا العربي. ويشير آل رضوان إلى هذا التنوع الفسيفسائي: “نحن نعيش تنوعًا فنيًا شعبيًا، وبالرغم من هذا التنوع في فنوننا الشعبية والزخرفية، فإن المتأمل والمتقصِّي يجد ملامح تشابه كبيرة مختزلة في كل منطقة. ففي فنون الشمال والدرعية والجنوب والشرقية، نقف على هذا التآلف المختلف والاختلاف المؤتلف. نشأ هذا التنوع بسبب اختلاف المؤثرات المحيطة بالمناطق. فالشرقية، على سبيل المثال، متفاعلة مع الفنون الخليجية والعراقية، والمنطقة الغربية متفاعلة مع مصر، والشمال متأثر متفاعل مع بلاد الشام، وهكذا.. إنه موزاييك جميل يشكِّل هذه الفسيفساء الفنية لوطننا”.
اشترك آل رضوان في تخطيط وتصميم بعض أغلفة الدواوين الشعرية والروايات الأدبية، وبعض المجلات. كما أنه أخرج بعض قصائد الشعراء القدامى والمعاصرين لوحاتٍ فنيةً في المعارض والمشاركات المحلية والدولية. وكانت له مشاركات قد يكون أهمها مع بعض الشعراء السعوديين المعاصرين. فقد خطَّ غلاف ديوان حيدر العبدالله، الحاصل على لقب أمير الشعراء، وكذلك عمل مع الشاعر محمد الماجد. فبينه وبين الشعر ودٌّ خاص لا مرئي، تجتذبه الكلمة فيقرِّر رسمها.
التكنولوجيا أداة مفيدة جدًا في عمل الخطّاط المحترف، والفنان الذكي يستغل كل معطيات عصره وزمنه لتطوير إمكاناته وعمله.
وبخلاف معظم الخطاطين المعتكفين على تطوير تقنياتهم فقط، نجد أن آل رضوان مهتم بالبحث وبالقراءة وبالمطالعة اليومية، فهو يعتبر القراءة والكتابة رافعة ثقافية حقيقية لتقنيات الفنان، إذ عليه ألا يكتفي بالتقنية على حساب الثقافة العامة التي هي زوّادة الفنان في عمله واشتغاله، فيقول: “يغلب على الخطاطين الاهتمام بالجانب التقني عبر الاهتمام بتكنيك الحروف ومدارسها وأساليبها، وقواعد الصنعة نفسها. ولا يمكن أن يقارب هذا المستوى التقني العالي بمستوى ثقافة المهنة نفسها”.
ويضيف: “هنالك تقصير من الفنانين في القراءة. ويُوعَز ذلك إلى فقر المكتبة العربية بالكتب التي تُعنى بالخط العربي. فتواضع المكتبة العربية سبب في ضعف الخطاطين في الجانب الثقافي. والفنانون أنفسهم لم يشتغلوا على الجانب التنظيري للفن، مما أعجز الجيل الحالي في تتبع تاريخ الخط”.
وبألم واضح يتابع حديثه: “نجد كثيرين مهتمين برفع مستواهم بهذا الفن عبر استنطاق التجربة. فالجانب النظري مهم، ولا يقل أهمية عن الجانب التقني، وهذا ما جعل المنتج في كثير من صوره يُراوح مكانه نتيجةً للقصور الثقافي لدى الفنانين. إذ اقتصر بعضهم في عمله البحثي على التوثيق من دون الخروج من هذا النسق إلى عوالم أرحب، وأعني بذلك العوالم المهتمة بما وراء الحرف، والباحثة في أسراره وتاريخه”.
وفي السياق نفسه، يلفت حسن إلى أنه آن الأوان لإعادة مادة الخط العربي إلى مدارس التعليم العام في المرحلة الابتدائية؛ لتعود إليه مكانته التي يستحقها. ومجال التعليم هو أهم مكان يجب أن يحضر فيه؛ إذ سيؤثر هذا الفن، بحسب رأيه، في طريقة تفكير الطلاب. ويقول: “إذا أُسِّس الطالب في الخط العربي بشكل صحيح في الابتدائية، واستُكمل تأسيسه في المتوسطة والثانوية، فإننا سنحصل على حالة إيجابية متكاملة. إذ نرى اليوم سلبيات نتيجة ترك هذه المادة على الطلبة في سوء كتاباتهم ورداءة خطوطهم. الخط الحسن هو مرآة لصاحبه. وكلي ثقة بأن المخرجات التعليمية ستتغير أيضًا. فأثر الخط العربي يتعدى كونه خطًا فقط”.
التكنولوجيا والتحدي الإيجابي
في سؤال عن هيمنة الكمبيوترات، وكيف أنها ربَّما ستمحو الخط العربي بشكل تدريجي، إضافة إلى سطوة تقنية الطباعة والذكاء الاصطناعي، وما إذا كان يمكن للتكنولوجيا فعلًا أن تغيّب روح الخط البشري، يجيب حسن عن ذلك قائلًا: “هذا السؤال من أكثر الأسئلة حضورًا على الساحة الثقافية العامة. وأرى أن التكنولوجيا أداة مفيدة جدًا في اشتغالات الخطاط المحترف. فالفنان الذكي، كان ولا يزال يستغل كل معطيات عصره وزمنه لتطوير إمكاناته وعمله”.
ويتابع: “الخطاط الذكي هو من يجيّر الأدوات الموجودة في زمنه لصالحه. ومن خلال تجربتي، فإن جميع البرامج التكنولوجية الحالية سهلت عليّ عملي. فقد ساعدتني على إنتاج بعض الأفكار التي كان لا يمكن إنجازها بالقلم والحبر العادي. فهذه التقنيات، بالنسبة إلي، كانت تحديًا إيجابيًا”.
رحلة البحث عن الحرف
على طريق البحث عن أسطورته الشخصية، وعن حرفه الخاص، وعن أسرار وتقنيات الكتابة، بدأ حسن مشواره الفني مع الخطاط السعودي القدير نافع التحيفاء. وكانت تلك المرحلة في مشواره الفني الأساس والقاعدة الصلبة التي تأسَّست عليها تجربته الفنية في الخط العربي؛ إذ امتدت إلى أكثر من اثنتي عشرة سنة. وهو يقول بصددها: “كنت برفقة هذا الأستاذ العزيز الذي اشتغل على نفسه وعلى حرفه، تعلَّمت منه كيف علينا أن نفكر، وكيف نتأمل الحرف في ظاهره، وفي باطنه. ومن خلاله تعرَّفت على حرفي الخاص المخبوء في داخلي. درست على يديه أبجديات الخط العربي وأسراره وكتابة اللوحة الخطية وصناعتها”.
وعن تجربته الدراسية الأخرى مع الخطاط التركي ذائع الصيت محمد أوزجاي، يقول حسن: “استمرت دراستي معه بشكل متقطع مدة ثلاث سنوات، وذلك من خلال زياراتي له في محترفه الشخصي في تركيا، ومن خلال لقاءاتنا في الرياض، وفي بعض العواصم الخليجية مثل دبي والكويت، واستكملت خلالها ما بدأته معه في إسطنبول”.
حصد حسن آل رضوان الكثير من الجوائز في مسيرته الفنية، كان أهمها المركز الأول في الخط العربي في مسابقة الفنون البصرية بمجلس التعاون الخليجي عام 2011م، وفي العام نفسه حصل على جائزة “اقتناء” من وزارة الثقافة والإعلام السعودية وذلك في مسابقة “الوطن بعيون خطاطي وفناني المملكة”، وعلى المركز الأول في مسابقة خطاطي وفناني المملكة، ثم في عام 2012م نال في جدة المركز الأول في مسابقة الفنون البصرية. وفي عام 2018م، نال جائزة الخط العربي (الفرع الكلاسيكي) بملتقى الشارقة الدولي. وفي وقت مبكر حصل على المركز الأول في الزخرفة الإسلامية في ملتقى الكليات الثالث بالمملكة عام 2001م، وعلى المركز الأول في الخط العربي في ملتقى الكليات الرابع بالمملكة عام 2002م.
بفعل مكانته في عالم الخط العربي، أصبح محط أنظار لجان الملتقيات والمسابقات والمؤتمرات المحلية والدولية المهمة. فاختِير في الكثير منها محكّمًا لمسابقاتها، وذلك منذ عام 2014م حتى اليوم.
الأستاذ الخطاط حسن آل رضوان، فنان مبدع ومبتكر رغم صرامة قواعد الخط العربي، والشاعر زكي الصدير محاور متمرس وله باع طويل وتأثير في مشهدنا الثقافي، فلا غرو أن نحظى بهذا الحوار العميق في منطقة مهمة من مناطق فنوننا العربية.