رغم أن بدايات المسرح المحلي تعود إلى مطلع القرن العشرين، إلا أنه لم يحظ بالقبول والاحتضان الاجتماعيين المأمولين، وظل المسرحيون في حالة أقرب ما تكون إلى العزلة والشكوى الدائمة من عدم اكتراث المجتمع بهم وإهمال الجهات الرسمية لهم. غير أن ذلك كله لم يثنهم عن تحقيق إنجازات ونيل جوائز مهمة في مهرجانات المسرح التي تقام في العواصم العربية عادة. ولكن، مع إطلاق هيئة المسرح والفنون الأدائية مؤخرًا، بُثت روح جديدة وانبعث أمل جديد في نفوس عشاق المسرح والمشتغلين فيه.
لم يجد المسرح السعودي ومنذ سنواته الأولى الظرف اﻻجتماعي الحاضن والمرحب الذي يوفر له الدعم ويمد العاملين فيه بما هم في أمس الحاجة له من التشجيع. فقد واجه حالة الرفض منذ بدأت إرهاصاته اﻷولى، رغم أنها تعود لما بعد العام 1908م، السنة التي صدرت فيها مسرحية (فتاة الدستور) إبَّان الحكم العثماني، وقُدِّمت للجمهور بعد إصدارها بسنتين في المدينة المنورة.
إثر ذلك، وبعد تأسيس المملكة العربية السعودية، بينت بعض الوثائق أن الملك المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – رحمه الله – قد حضر عرضًا مسرحيًّا في إحدى المدارس في العام 1928م، وكان عنوان المسرحية (بين الجاهل والمتعلِّم). ولكن المسرح السعودي لم يحظ ببيئة محفزة. بل على العكس، فقد واجه الرفض اﻻجتماعي أولًا في أكثر المدن السعودية. غير أن المسرح لم يتوقف، إذ ظلّ المسرحيون يناضلون ليقدِّموا مسرحًا يشبههم، من دون أن يتسلل إليهم اليأس، فقدموا تجارب لائقة، وشاركوا بها في فعاليات مسرحية محلية ودولية وحصدوا جوائز، وأثبتوا رغم كل الظروف علو كعب المسرح السعودي وتميّز تجاربه.
تأسيس المسرح الوطني
مع إعلان رؤية المملكة 2030، بدأ وضع المسرح، بل الثقافة بعمومها يأخذ منحى مغايرًا عما كان سائدًا. فقد بان الانفتاح في الفعاليات التي أقامتها هيئة الترفيه، والتي كانت في مدار “المتخيل” سابقًا. إذ نظمت عروضًا ترفيهية وأمسيات لموسيقيين عالميين، وحفلات غنائية، وعروضًا سينمائية. وتواصل هذا المنحى بالمفاجآت حين أعلن عن تأسيس وزارة الثقافة، التي أعلنت عن استراتيجية جديدة تركِّز على الاهتمام بالثقافة والمثقفين، ومن ضمنهم المسرحيين.
وكان تأسيس المسرح الوطني بداية خطوات المرحلة الجديدة للمسرح السعودي، حيث عُدَّ ذلك اعترافَا رسميًّا بالمسرح. فقد أطلق المسرح الوطني في حفل بهيج حضره مسرحيون سعوديون وعرب، واشتمل على عرض مسرحية (درايش من نور)، وهو العرض الذي أكد حضور المرأة على خشبة المسرح.
إطلاق قطاع المسرح والفنون الأدائية
واستمرت عملية الدفع بمستوى المشهد الثقافي في إطلاق القطاعات الثقافية التابعة لوزارة الثقافة، ومنها قطاع المسرح والفنون الأدائية، الذي خُصصت له هيئة “تعمل على تنمية وتحفيز قطاع المسرح والفنون الأدائية، وذلك من خلال دعم المشروعات وتشجيع الممارسين ووضع التنظيمات، لتحقيق النماء المرجو للقطاع”. وحسب موقعها الإلكتروني، فإن الهيئة تُعنى “بكافة أنواع الفنون الأدائية: المسرح، والرقص، وعروض السيرك، والكوميديا الارتجالية، وعروض الشارع، والعروض الحركية، والباليه، والأوبرا. ويتضمَّن عمل الهيئة اضطلاعها بتفعيل المسارح، وضمان جودة المحتوى المقدم عليها، وتشجيع غزارة الإنتاج، ونشر ثقافة العروض الأدائية لتصبح مكونًا أساسيًّا في الثقافة الوطنية”.
كما تهدف الهيئة إلى تعزيز كمية المحتوى وتنوِّعه، مع ضمان تحقيق أعلى معايير الجودة، وزيادة عدد أعمال الإنتاج المحلي وتنوّعها، وضمان وصول قطاع المسرح والفنون الأدائية إلى كافة المناطق والفئات الاجتماعية المختلفة، وإلى الجمهور والممارسين على حد سواء، وزيادة الوعي لدى الجمهور والممارسين محليًّا ودوليًّا بقطاع المسرح والفنون الأدائية السعودية، ورفع إقبال الجمهور على العروض المسرحية والأدائية على مستوى جميع المناطق والشرائح الاجتماعية والفئات العمرية المختلفة.
مبادرات طموحة
بعد أكثر من عام من التحضير، أطلقت الهيئة إستراتيجيتها في حفل حضره مسرحيون سعوديون، أطلعهم خلاله الرئيس التنفيذي للهيئة على برامجها ومبادراتها. وهنا رصد لهذه المبادرات التي أطلقتها الهيئة منذ انطلاق إستراتيجيتها:
ضمن مبادرة “اكتشاف المواهب”؛ أطلقت الهيئة مسابقة الكوميديا لتطوير صناعة الكوميديا والترفيه الحي في كافة مناطق المملكة. وتستهدف المسابقة فئة الشباب والشابات الموهوبين ضمن الفئة العمرية 18 – 35 سنة في مجال الكوميديا والمهتمين بالفنون الكوميدية، التي تسعى الهيئة من خلالها إلى توفير الفرصة للشباب والشابات واستثمار مواهبهم بتوجيهٍ من خبراء وأيقونات صناعة الكوميديا، وذلك بهدف تطوير هذا الفن الحي في أنحاء المملكة كافة.
رغم وفرة ما تحقَّق في السنوات القليلة الماضية، لا يزال المسرحيون ينتظرون الكثير ويحلمون بتنظيم مواسم مسرحية ثابتة وبنية تحتية متقدِّمة
وضمن مبادرة “تطوير المهارات”، أطلقت الهيئة البرنامج التدريبي المتقدم “فن صناعة المسرح” لتمكين المواهب المسرحية برفع مستوى كفاءة التدريب والتأهيل المعرفي في القطاع المسرحي، إضافة إلى “البرنامج التدريبي الأساسي في المسرح”، الذي أقيم في الدمام، وهدف إلى تعزيز قدرات المهتمين والممارسين وتطوير مواهبهم، ورفع مستوى كفاءة التدريب والتأهيل المعرفي في هذا القطاع.
ولأهمية المسرح المدرسي في تأسيس جيل مسرحي أو مهتم بالمسرح وفنون الأداء، وقّعت هيئة المسرح والفنون الأدائية مشروع الشراكة مع وزارة التعليم لدعم المسرح المدرسي من خلال إيجاد منهج للدراما وتدريب 25 ألف معلِّم ومعلِّمة حول المملكة، ليكونوا مشرفين على النشاط المسرحي كنشاط لا منهجي، وذلك ضمن برنامج يُنفذ على مدى سنوات ثلاث، وبمستهدفات تتماشى مع رؤية المملكة.
كما أطلقت الهيئة أيضًا مبادرة العمل والتعلُّم “التي تسعى إلى تمكين المواهب من اكتساب المهارات التقنية الحديثة في مجال المسرح، والتي تهدف إلى تنمية المواهب المحلية ودمجها مع الخبرات العالمية، والتعرف على تقنيات عالمية متقدِّمة من خلال العمل على عروض تستخدم التقنيات الحديثة”. وكان للمبادرة مساران، أولهما محلي: دمج المتدربين ذوي الخبرات التقنية في مجالات مختلفة بالعروض المحلية المميزة أو العروض العالمية المستقطبة، والآخر دولي يتمثل في ابتعاث عدد من المتدربين من ذوي الخبرات المختلفة للتعاون مع شركات إنتاج عالمية في دول مختلفة والتدرب على رأس العمل.
كما نظَّمت الهيئة ورشة المونودراما والارتجال، وأطلقت (منتدى كالوس)، وهو سلسلة ندوات حوارية متخصصة بمشاركة نخبة من المسرحيين والخبراء في القطاع، وذلك بهدف فتح قنوات للتواصل بين الخبراء والجمهور المهتم بالمسرح والفنون الأدائية، وخلق مسارات نقدية تتناول كافة مسارات القطاع بجميع جوانبه الإبداعية والإنتاجية، ودراسة واقع المسرح السعودي ومعرفة التحديات التي تواجه العاملين فيه.
ومن الفعاليات المميزة التي نفَّذتها الهيئة، كان مهرجان “قمم للفنون الأدائية الجبلية” في دورته الأولى، والذي أقيم في عسير للتعريف بالفنون الأدائية الجبلية العريقة، والاحتفاء بها وبالحِرَف اليدوية والأكلات الشعبية المعروفة والأزياء التقليدية والأزياء المستخدمة في أداء الرقصات الشعبية.
مع إعلان رؤية المملكة 2030، بدأ وضع المسرح، بل الثقافة بعمومها يأخذ منحى مغايرًا عما كان سائدًا. فقد بان الانفتاح في الفعاليات التي أقامتها هيئة الترفيه، والتي كانت في مدار “المتخيل” سابقًا.
كما أعلنت الهيئة عن مبادرة لتطوير القطاع الثالث (غير الربحي) من خلال تسجيل ممارسي المسرح والفنون الأدائية في نظام القطاع الثالث، وضمان استفادتهم من خدمات الدعم الموجهة له، وتعزيز المشاركة المجتمعية الملائمة لجمهور المسرح عبر منظمات القطاع الثالث. ولتطوير المواهب الواعدة في المملكة وتمكين أصحاب المشروعات الناشئة أعلنت الهيئة عن حاضنة المسرح والفنون الأدائية بالتعاون مع برنامج جودة الحياة، لتوفير الفرص التمويلية والشراكات الإستراتيجية اللازمة والاستثمار في التدريب والتعليم وفق أفضل الممارسات العالمية.
وبعيدًا عن الهيئة ومبادراتها، شهد المسرحيون شكلًا جديدًا من التنظيم المسرحي عبر تأسيس فرق مسرحية خاصة وترسيمها عبر وزارة الموارد البشرية، مثل تأسيس (تعاونية مسرح كيف) المنبثقة من فرقة كيف المسرحية، التي كانت فرقة نشطة، تقدِّم عروضًا وورشًا وشراكات قبل هذا التنظيم، وترسيم (جمعية خويد للمسرح والفنون الأدائية) في جيزان، بالإضافة إلى 18 ناديًا من أندية المسرح على منصة هاوي، التابعة لوزارة الموارد البشرية.
أحلام تحققت وأخرى تنتظر
ولأن المسرحيين كانوا، ومنذ سنوات طويلة، يبحثون عن دعم حقيقي لمسرحهم، يشد أزره ويأخذ بيده، ويمد مشاريعهم المسرحية بما هي في حاجة إليه من مساندة، فإنهم لا يستطيعون مغالبة الشعور بنوع من الإحباط لأن كل هذه المبادرات، بالرغم مما أحدثته من تغيير وتطور نسبي في المشهد المسرحي المحلي، لم تحقق لهم أحلامهم بحراك مسرحي متواصل وتنظيم مواسم مسرحية في كل مدينة، وتوفير بنية تحتية متقدِّمة.
فالمسارح الموجودة على مستوى المملكة، حسب تقرير الحالة الثقافية في المملكة العربية السعودية 2021م، الذي صدر مؤخرًا عن وزارة الثقافة، بلغت حوالي 262 مسرحًا، منها مسارح فروع جمعية الثقافة والفنون ومسارح الأندية الأدبية وغيرها، لكن مشكلة هذه المسارح أنها عبارة عن قاعات محاضرات ولا تصلح للعروض المسرحية.
وهذه أولى المشكلات التي تواجه المسرحيين السعوديين، ولم يتم حلها حتى الآن. كما أن المسرحيين السعوديين لا يزالون يحلمون بمهرجان مسرحي سعودي يجمع كل التجارب المسرحية في بوتقته.
خلاصة القول هي أن المسرحيين السعوديين ما زالوا ينتظرون الكثير والكثير من هيئة المسرح والفنون الأدائية، وكلهم أمل بمستقبل يتخطى فيه المسرح السعودي كل عقبات الماضي وعثرات الحاضر.
اترك تعليقاً