مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
نوفمبر – ديسمبر | 2024

جينوم القهوة

يكشف تاريخ البن العربي منذ ما قبل التاريخ

قام علماء جامعة بافالو في نيويورك بتتبع تسلسل جينوم “قهوة أرابيكا” أو البن العربي، وفقًا للبحث الذي نشرته مجلة “نيتشر جينيتكس” (Nature Genetics) في 15 أبريل 2024م. والبن العربي هو النوع الأكثر انتشارًا وشعبية من القهوة في العالم، وسبق أن دُرس تسلسل جينومه عدة مرات من قبل. ومع ذلك، أُجريت هذه المحاولة الأخيرة باستخدام أحدث التقنيات المتطورة، ومن ثَمَّ، فهي التكرار الأفضل حتى الآن، وهو ما يكشف عن كثير من الأفكار المثيرة للاهتمام حول تاريخ البن العربي، ويفتح الأبواب أمام نباتات قهوة أكثر تكيُّفًا مع الظروف.

فمن المعروف منذ فترة أن نباتات البن العربي هي نتيجة تهجين طبيعي بين نوعين آخرين من نباتات القهوة: قهوة كانيفورا وقهوة يوجينيوديس. لكن التقديرات السابقة حول متى حدث ذلك تراوحت بشكل كبير بين 10 آلاف سنة ومليون سنة مضت. ولكن وفقًا لهذا البحث الجديد، فقد ظهر البن العربي منذ أكثر من 600 ألف عام على أراضي إثيوبيا الحديثة، وهو ما يجعله واحدًا من أقدم أنواع النباتات التي يستهلكها البشر. 

وتوصل الباحثون إلى ذلك من خلال تشغيل نموذج حسابي باستخدام شفرة الجينوم كمدخلات. وهو ما كشف أن التهجين حدث منذ حوالي 29 ألف جيل، أي منذ 610 آلاف عام. وتعليقًا على هذه النتيجة، قال الأستاذ في قسم العلوم البيولوجية بجامعة بافالو والمؤلف المشارك في الدراسة، فيكتور ألبرت: “إن التهجين الذي أدى إلى إنتاج البن العربي لم يكن شيئًا قام به البشر”.

جينوم يفتقر إلى التنوع

نظرًا لأن البن العربي بقي طول هذه الفترة نوعًا واحدًا بالكاد يتغير، فإن جينومه يفتقر إلى التنوع الجيني الضروري لصنع نبات مرن. وهذا هو السبب في جعل نباتات البن العربي حسَّاسة للتغيرات البيئية، وتتطلب ممارسات زراعية مكثَّفة. ووفقًا لمقالة نُشرت في مدونة تُعنى بالقهوة (Populace Coffee) في مايو 2023م، لا يمكن لهذه النباتات النمو إلا في نطاق درجات حرارة تُراوح بين 15 و21 درجة مئوية، وتتطلب ظلًا وفيرًا، وفي الوقت نفسه تحتاج إلى كثير من أشعة الشمس، ولا يمكنها تحمل الصقيع. هذا هو السبب في أنها تُزرَع عادةً في المناطق شبه الاستوائية المعتدلة على المنحدرات الجبلية بين ارتفاعات 600 و2200 متر للاستفادة من هواء الجبل البارد والسماء المُلبَّدة بالغيوم.

وإضافة إلى أن البن العربي عرضة للظروف المناخية المعاكسة، فإن آلاف السنين من التزاوج الداخلي جعلته عرضة للآفات. وهذا ما يجعل زراعته صعبة إلى حد ما، وتعتمد على كميات كبيرة من المبيدات الحشرية الضارة بالبيئة. وهذا هو السبب في تردد أي شخص بزراعته في حدائقه كما يُزرع الطماطم. وهو السبب أيضًا في أن البن العربي هو أحد الأصناف القليلة التي تُزرع حصريًا تقريبًا على نطاق صناعي. 

كما كشف هذا البحث أن أعداد نباتات البن العربي على مدار تاريخها، الذي يمتد إلى أكثر من نصف مليون عام، كانت تتزايد وتتناقص بشكل دوري استجابة للظروف المناخية، وهو أمر غير مفاجئ نظرًا إلى مدى هشاشة هذا النوع. ولأنه منتج مطلوب بشدة في الوقت الحالي، فإن أعداد شجيرات البن العربي على مستوى العالم بلغت ذروتها بالتأكيد.

 يشكِّل البن العربي ما يُراوح بين 60% و80% من إجمالي البن المستهلك يوميًا في جميع أنحاء العالم. وهو نوع واحد معرض بشدة للإصابة بالأمراض بسبب انخفاض تنوعه الجيني. وعلى ذلك، يمكن أن تتقلص أعداد شجيراته، أو تنقرض تمامًا بسبب انتشار مسبب مرضي واحد. وهو سيناريو أصبح أكثر احتمالية مع تزايد تغيُّر المناخ وتزايد ترابط العالم من خلال التجارة العالمية، وهو ما يخلق ظروفًا مثالية لحضانة الأمراض وانتشارها.

ويوضح الدكتور فيكتور ألبرت أن “الفهم التفصيلي لأصول تربية الأصناف المعاصرة وتاريخها أمر بالغ الأهمية لتطوير أصناف جديدة من البن العربي قادرة على التكيف بشكل أفضل مع تغيُّر المناخ”. ولذا، أصبح الجينوم المرجعي لبن “كوفيا أرابيكا” (Coffea Arabica) متاحًا الآن للجمهور في قاعدة بيانات رقمية.


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “جينوم القهوة يكشف تاريخ البن العربي منذ ما قبل التاريخ”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *