بعد جيل الواقعية السحرية الذي قد يكون الأشهر والأهم في تاريخ الأدب المكتوب بالإسبانية، وقد جاء من أمريكا اللاتينية وليس من إسبانيا نفسها، مر وقت طويل قبل أن يظهر تيار آخر، آتيًا هذه المرة من المركز؛ من إسبانيا، ليعبّر عن واقع جديد ومختلف، عن عالم لم يعد عالم الخمسينيات والستينيات، وعن واقع ليس هو الواقع الملموس بقدر ما هو الواقع الافتراضي أو “الواقع الممتد”، عالم بدأ يتكوّن مع بداية الألفية الجديدة، بكل ما فيها من قوى للثورة التكنولوجية. هذا التيار هو “جيل نوثيّا” (نوتيلا)، الذي قدّم منذ ظهوره مقترحات جديدة لرؤية العالم الجديد، مدمجًا الثورة التكنولوجية والعلمية في النص الروائي.
ظهر جيل نوثيّا في إسبانيا عام 2006م، وهو عام صدور رواية “حلم نوثيّا” للروائي والشاعر والمنظِّر والموسيقي والفيزيائي الإسباني أغوستين فرناندث مايو (أكورونيا، 1967م). وقد تعمَّدنا هنا أن نعدِّد تعريفات الكاتب؛ لأنها تشكّل جميعها مشروعه الروائي، ليس فقط في الاستفادة من معارفه الفنية والعلمية فقط، وإنما تشكِّل بنية أعماله أيضًا.
انطلق مشروع “مايو” الأول، “حلم نوثيّا”، مكتملًا بهذه العناصر، فكانت رواية خارجة عن المعروف والمتفق عليه، تُعبِّر عن مرحلة جديدة في الرواية المكتوبة بالإسبانية لا شبيه لها في الرواية العالمية.
هذا ما التفتت إليه الناقدة والصحفية الثقافية المرموقة، نوريا أثانكوت، في لقاء عقدته دار نشر “سييكس بارال” و”مؤسسة خوسيه مانويل لارا” في مدينة إشبيلية تحت عنوان “روائيون جدد”، أطلقت خلاله أثانكوت مصطلح “جيل نوثيّا” لوصف مجموعة من الكُتَّاب الشبان تجمع كتاباتهم الانفتاح على التكنولوجيا الجديدة واستعارة عناصر جمالية من ما بعد الحداثة، وإدخال الموسيقى الجديدة، مع الاهتمام بالبُعد العلمي وتذويبه داخل النص الأدبي. وعدَّت الناقدة “حلم نوثيّا” الرواية المؤسِسة للجيل الذي ضمَّ الروائيين بيثنتي لويس مورا، وخورخي كاريون، وإلوي فرناندث بورتا، وخابيير فرناندث، ولوليتا بوش، وخابيير كالبو، وجابي مارتينيث، من بين أسماء أخرى وُلِدوا في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي.
وعلى الرغم من انتشار مصطلح “جيل نوثيّا”، الذي أرجع الفضل في تكوين الجيل إلى عمل فرناندث مايو، فإن شخصين من هذا الجيل، ألَّفا كتابين تنظيريين، تتعلقان بالكتابة الجديدة وما تفرضه تغيرات العالم الجديد على الكتابة الأدبية، وتحديدًا الرواية. أولهما كتاب “الأفتربوب” من تأليف إلوي فرناندث بورتا، والثاني هو كتاب “الضوء الجديد” من تأليف بيثنتي لويس مورا. يذهب بورتا إلى أن الرواية الجديدة عبارة عن جمالية تستجيب للشرط الاجتماعي الذي خلقه الإفراط الرمزي لاستخدام وسائل التواصل، وأنها ليست مسألة جيلية ولا قومية ولا أدبية، مع أن جزءًا منها يرجع إلى رواية “حلم نوثيّا”. في حين يرى مورا أن “الضوء الجديد” هو الاسم الأنسب لهذا النوع من الكتابة الذي بدأ يتكوّن في عام 2004م، قبل “حلم نوثيّا”.
سمات الرواية الجديدة
في مقالها المنشور في صحيفة “الكولتورال”، تشير نوريا أثانكوت إلى السمات المميزة لهذا الجيل، وتشمل التشظي في البنية، وتداخل المعارف المختلفة، وإدماج ثقافة البوب المنتشرة بين الشباب الإسباني منذ بدايات الألفية الجديدة، ومعاداة “الثقافة الرفيعة” بمعناها المتكلس لصالح سردية تدمج الرفيع مع البوب (ما أطلق عليه بورتا “الأفتربوب”)، وفي هذه النصوص يُمكن استخدام حبكات بوب (مثل القتل والجنح المختلفة)، من أجل شيء آخر أبعد وأعمق، على عكس رواية الجريمة بالطبع. كما تتميز بظهور عدد كبير من الشخصيات واختفائهم، وعادةً ما تخلو الرواية من الحبكة أو النهاية بوصفها مصبًا سرديًا.
تعتمد رواية “جيل نوثيّا” على الكولاج بوصفه بنية سردية، واستعارة نصوص من كُتَّاب آخرين، والعمل بفكرة “إعادة الكتابة” على نصوص سابقة، كما يحدث في نصوص فرناندث مايو مع قصة “الصانع” لبورخس؛ إذ حوّلها إلى رواية بعنوان “الصانع.. إعادة صنع”، كما يشير هو نفسه في كثير من حواراته إلى أن الكتابة هي إعادة الكتابة، مع أنه لا يستخدم هذا التعريف داخل عمله حتى وإن استفاد من الكتابات السابقة، لكنه يعترف بأنه “بورخسي الهوى”. تبدأ رواية “جيل نوثيّا” من نقطة محددة، لكنها لا تعرف كيف تنتهي، فتكون البنية المفتوحة هي حلها الأمثل.
وبالإضافة إلى السمات الأسلوبية، ثمة سمات أخرى تجمع الكُتَّاب أنفسهم في مواقفهم من الحياة؛ إذ يمارس كثير من كُتّاب هذا الجيل الأدب الإلكتروني، خاصةً عبر المدونات، ولهم صلة وثيقة بالموسيقى الحديثة، وكثير منهم ينظِّرون لكتاباتهم ولكتابة الجيل برمَّته. إنهم كُتّاب متمردون، يفضّلون دور النشر الصغيرة وينفرون من الأدب المتفق عليه.
مشروع نوثيّا
بصفته ممثلًا لهذا الجيل، استطاع فرناندث مايو أن يوسّع أفق هذا التعامل مع الواقع التكنولوجي الجديد، وأضاف إليه ما أعطاه سمات مميزة لكتابته أبعد من جيل نوثيّا، لعل أبرزها محاولة فهم العالم عبر قوانين الفيزياء، و”تأديب” هذه القوانين المعقدة بصهرها في علاقات إنسانية، ومنح هذه المعرفة لأبطال يعيدون تعريف الأشياء، ما يجعل كتاباته مزيجًا من التأمل والمتعة في الوقت نفسه. وهذه سمات لا تتوافر لكُتَّاب نوثيّا الآخرين. الأمر الذي يعني أن جيلًا أدبيًا هنا لا يعني كتابة متشابهة ومكررة، ولا محاكاة كاتب لكاتب، بل انشغالًا واحدًا بهم في إطار زمني واحد لا يكتفي بالمكان المحدود، وإنما ينفتح على أزمات العالم الحديث، حتى تذوب جنسية المؤلف ووطن البطل ليبدو معبّرًا عن أزمة الإنسان في المطلق، سواء كان في طوكيو أو بوينس آيرس، وفي مدريد أو بغداد.
بعد الضجة الأولى التي أحدثتها “حلم نوثيّا”، أصدر أغوستين فرناندث مايو “تجربة نوثيّا” و”معمل نوثيّا”، لتتم بذلك ثلاثيته التي أُطلِق عليها “مشروع نوثيّا”، وهو مشروع طموح في تطلعه الفني والجمالي. تميزت الثلاثية بالمزج بين الواقع والتخييل، وتبادل الأدوار بسلاسة في سرد ينصهر فيه العبث بالحلم والخيال. واتّبع مايو نفس تقنية الحكايات القصيرة المتناثرة، في الرواية الأولى والثانية، واستعارة النصوص العلمية من الفيزياء بالذات، وهو مجال تخصصه، التي رأى فيها بُعدًا شعريًا ليطوِّر بها حكاياته. ويتفق هذا التجديد مع تصوره الفني الذي يكشفه في حوار له، إذ يقول عن أدبه: “سرد يتجاوز الشعر ويخلق روابط بين العلم وما نُسمِّيه تقليديًا بالأدب”.
يأتي اسم الرواية، والمشروع ككل، من نوع من النوتيلا الإسبانية يُسمَّى “نوثيّا”. يحكي فرناندث مايو في الجزء الثالث من الثلاثية عن لحظة الإلهام هذه، فيقول: “ذات يوم، وجدت نفسي أتناول شريحة من الخبز بالنوثيّا، وفكَّرت في الافتتان الذي تمارسه بداخلي تلك العجينة التي تتحجَّر في فمي، كل الميتافيزيقا المضادة التي تمر عبر تلك الكتلة من دون مركز ثقل محدد في فمي، كل ذلك اللون البني الذي كان مجرد جلد سميك على شريحة… وعلى الرغم من أنها بقايا وفضلات ومواد حافظة ومنكهات، فإنها كانت تُولِّد نوعًا من الحياة. كان ذلك كل شيء، بفضل شريحة من النوثيّا، رحتُ أنكر الميتافيزيقا، ووصلت إلى قفزتي التطورية، القفزة الحقيقية”.
يكشف هذا النص القصير العملية السردية عند مايو، إنه يحوِّل الأحداث العادية إلى أحداث مفارقة، ويبحث في كل شيء يومي عن مغزى، ويأتي التأويل العلمي والفيزيائي ليساعده في فهم العالم، ولكن البُعد العلمي يأتي منصهرًا في رؤيته الشعرية، إذ يرى أن الفيزياء شعرٌ.
نظرة إلى كتابات الجيل
إلى جانب أغوستين فرناندث مايو، يظهر عدد من الكُتَّاب الذين يتفقون معه في المنطلق الجمالي، ومنهم بيثنتي لويس مورا، وهو روائي وشاعر وأكاديمي ومنظِّر، وله إسهاماته المتعددة في النقد الأدبي وقراءة مشهد الكتابة الإسبانية. وفي عام 2007م، صدرت لمورا رواية “دائري 7″، وهي رواية كورالية تتألف من مئات الحكايات التي تدور في مدينة ما بعد حداثية في القرن الحادي والعشرين، حكايات تتطوَّر عبر توسل كل الأنواع المتخيلة (من الرواية المكثفة إلى الرسالة القصيرة على الهاتف الجوال)، وبنبرة قريبة ومعروفة للقارئ الذي يسافر عبر المشاعر إلى المركز الجغرافي والعاطفي لطريقة سرد جديدة.
تبع هذا العمل “دائري 22″، وهو عمل متعدد الأصوات ومفتوح، معمل تنصهر فيه كل الأنواع الأدبية والأساليب والشخصيات والأصوات والتقاليد والحكايات. وبهذه الطريقة يفتح مجالًا لقراءة أزمة الإنسان المعاصر ومحيطه المديني كشرط للحياة، والبداوة (الثقافية والواقعية) كأفق جمالي. ويختار مورا كوكب الأرض كفضاء سردي، ليعبّر عن القلق المعاصر وصعوبة الحياة، مستخدمًا الفنتازيا والواقعية واللاواقعية والممكن والمستحيل.
لا يجمع المؤلف الحكايات المتناثرة، بل يسمح للقارئ بأن يجمع قطع “البازل” حتى يصل إلى النهاية.
ويمثِّل خورخي كاريون عمودًا رئيسًا في هذا الجيل، وتعدُّ ثلاثيته “اليتامى” و”السياح” و”الموتى” أعمالًا مهمة وممثلة لكتابة الألفية الجديدة. تدور “الموتى” في إحدى حارات نيويورك، وتنطلق من جسم رجل عارٍ لا يتذكر من هو ولا يعرف أين يكون في هذه المدينة الجحيمية، حيث الواصلون حديثًا “من هناك” يُعاملون بوصفهم مهاجرين غير شرعيين. فيضطر البطل إلى البحث عن هويته، وسريعًا ما يجد نفسه غارقًا في عالم من الأكاذيب والعنف والجنس، ومُحاطًا بأشخاص من كل نوع.
يعمل كاريون بمنطق التحرر من المكان؛ إذ لا يعنيه أن تكون روايته “إسبانية” ولا أبطاله من مدينة يسكنها. إنه يسعى إلى عالمية الفن وحرية تجواله، وعبر هذه العالمية يشارك سؤالًا إنسانيًا: أحوال المهاجرين وضياع هويتهم. لكن إذا كان هذا هو المضمون، فالشكل الذي اختاره هو بنية متشظية وحكاية يطوّقها الغموض، ولغة تشبه الميلودراما من دون أن تتخلى عن أدبيتها، وراوٍ يعرف نسبيًا ويخمّن كثيرًا ويطلّع على الأحداث مع القارئ، ويُفاجأ بما يحدث. هذا التصوُّر الفني يتكرر في “اليتامى” و”السياح”.
ففي “اليتامى” مجموعة من الباقين على وجه الحياة بعد الحرب العالمية الثالثة، أفراد قادمون من بقاع مختلفة بعد أن قضوا 13 عامًا منعزلين في سجن ببكين. يتكفل مارثيلو بقصِّ حكايتهم لنا، لكنه راوٍ غير موثوق فيه، موسوس خاصةً فيما يخص اللغة. تنطلق الأحداث من يوم هرب أنطوني المجنون والخطير من الزنزانة؛ ليخترق بذلك انسجام الجماعة. في هذا المناخ، يلي البؤس والخيانات والاكتشافات تقارير تسرد كيف أن متلازمة الإنعاش التاريخية قادت إلى فناء البشرية. وتعدُّ “اليتامى” رواية خيال علمي إنسانية بعمق، إنها ضوء مسلَّط على مخاطر الذاكرة التاريخية كأداة سياسية، ورهان على أدب طموح.
وأخيرًا، في “السُيّاح”، يحكي كاريون قصة بيثنت الذي يقضي أيامه في مطار هيثرو على مدار عشر سنوات، يدرس الناس ويخمّن حيواتهم. وفي أحد الأيام يلتفت إلى سيدة طاعنة في السن وغامضة جدًا فيقرر تتبعها في كل الوجهات السياحية، من أمستردام إلى هافانا، ومن برشلونة إلى جنوب إفريقيا. وفي رحلاته يكتشف ويتعرف على كل أصناف البشر، بدءًا من جورج بوش الشاب حتى أندريا المعذبة، مرورًا بكاتيا المثيرة وهاريسون فورد نفسه. يدور العمل على حافة القرنين العشرين والحادي والعشرين، ليستعرض المسافرين وهم يبحثون عن هوياتهم، وكيف أن الخيال لا ينقذنا، لكنه يخفف عنا.
لا للهوية
في النهاية، يتفق كُتَّاب جيل نوثيّا، على اختلاف أساليبهم، في معاداة الهوية الواحدة. فالإنسان متعدد الهويات ومنفتح على العالم. هذا الانفتاح هو الابن الشرعي للتطوُّر التكنولوجي، بما فيه الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. نحن أبناء عالم نعرف كل ما يحدث فيه في لحظتها، ولسنا أبناء حدود معلومة لا يمكن تجاوزها. بهذا المنطق، لا تدور أحداث رواياتهم في مكان سرد محدد، لكنهم لا يتخلون عن الزمن: نعيش في هذه اللحظة، ونعبّر عن آلامها وحيرة ساكنيها. والراوي ليس عليمًا بكل شيء، إنه مجرد فرد أتيحت له فرصة الحكي، فهو يعرف ولا يعرف، يخمِّن ويستنبط، يُخطئ ويُعيد تصحيح أخطائه، يجمع الحكايات من أماكن وأشخاص. والبنية المتشظية تعبِّر عن تشظي العالم نفسه، وتشظي الهويات. فحتى لو استعار جيل نوثيا عناصر من “ما بعد الحداثة”، إلا أنه مشغول بالقضايا الكبرى.
اترك تعليقاً