مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

جيل الألفية الصيني يقرأ المعلَّقات


أ. د. لين فنغمين (عامر)

خلال مشاركة المملكة في الدورة الثلاثين من معرض بكين الدولي للكتاب في يونيو الماضي 2024م، أطلق مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء” المرحلة الأولى من الترجمة الصينية لكتاب “المعلقات لجيل الألفية”، التي ضمت ثلاث معلقات لامرئ القيس والأعشى والنابغة الذبياني. هذه الترجمة التي يُتوقع أن تستوفي كل المعلقات العشر عام 2025م، يعمل عليها المركز بالتعاون مع قسم اللغة العربية والثقافة بجامعة بكين، ويُشرف على فريق المترجمين أ. د. لين فنغمين (عامر)، الذي طلبت “القافلة” منه هذا المقال حول قصة هذا المشروع الثقافي الكبير والتحديات اللغوية والثقافية التي واجهت وتواجه فريق الترجمة.

ذات يوم، وقبل سنتين، كنت في اجتماع مع عميد كلية اللغات الأجنبية بجامعة بكين ورئيس قسم اللغة العربية الأسبق في الكلية الدكتور أمين فو تسىمينغ. وبعد الاجتماع، كنا نتحدث في شؤون القسم والكلية والجامعة، وفجأة سألني الدكتور أمين: “هل ترغب في أخذ زمام المبادرة في ترجمة المعلَّقات إلى اللغة الصينية؟”. ذُهلت حينذاك. وتساءلت لماذا سألني الدكتور أمين مثل هذا السؤال. ثم أخبرته أن الأستاذ تشونغ زيكون (صاعد) الذي غادر دنيانا في عام 2020م، قد ترجم المعلَّقات. وفي الواقع، لم تكن ترجمة الأستاذ تشونغ زيكون هي الوحيدة، فقد اكتشفت فيما بعد أن هناك ترجمة أخرى للمعلقات أنجزتها السيدة وانغ فو (فريدة) بالتعاون مع السيد لو شياوشيو، وقد نُشرت بوصفها جزءًا من مشروع تبادل الترجمة بين الصين والدول العربية.

طبعًا، قيمة المعلَّقات العشر معروفة بأنها جزء لا يتجزأ من التراث الثقافي  العربي، وتُعدُّ من أعظم إنجازات الأدب العربي والعالمي. إنها الجذور الأساسية لإبداع الشعر العربي وتحفيز النشاط الإبداعي في الكتابة العربية حتى يومنا هذا.

بعد أيام، جاء نائب الرئيس للشؤون العامة في شركة أرامكو آسيا آنذاك، هيثم الجهيران، إلى جامعة بكين، والتقينا الدكتور أمين في قاعة كبار الزوار التي زارها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز خلال افتتاح فرع لمكتبة الملك عبدالعزيز العامة بجامعة بكين. وفي هذه القاعة الجميلة، التي تزينها الزخارف العربية، أخبرنا الجهيران أن مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، قد نشر كتابًا بالتعاون مع مجلة القافلة، وهو كتاب “المعلَّقات لجيل الألفية” باللغتين العربية والإنجليزية، وأتى بالكتاب ذي التصميم الجميل والمكوّن من 488 صفحة.

مكوّن مهم لإلهام الجيل المعاصر

تصفّحت الكتاب الكبير، وقرأت بعض الصفحات، فوجدته كما يُشار إليه مختلفًا عن النسخ الأخرى للمعلقات السابقة؛ إذ إنه موجَّه للجيل الجديد، فقد جدَّد ترتيب الأبيات بحسب لوحات، وجاءت شروح الأساتذة الخبراء الجديدة مناسبة للقرّاء الشباب، ومناسبة لجيل الألفية.

كنت أفكِّر في أن المعلَّقات العشر تُجسِّد الاعتزاز بالقيم الإنسانية الجمالية والفلسفية، وتُعدُّ مكونًا لهذه القيم في إلهام عقول أبناء الجيل المعاصر ووجدانه. إذ تفتح هذه القصائد آفاقًا جديدة في الأفكار والتعبيرات الثقافية، وتُظهر جماليات الألفاظ والتركيبات النحوية في اللغة العربية، فيما يشبه النافذة المُطلَّة على ثقافة الجزيرة العربية وتاريخها، وحياة إنسانها منذ آلاف السنين.

وفوق هذا، تجعلنا هذه القصائد نفهم التطورات في الشعر والأدب العربي على مدى العصور اللاحقة. وهذا ما نوَّه به محمد أمين أبو المكارم (نائب رئيس تحرير القافلة سابقًا) في مقدمة الطبعة الإنجليزية، حيث كتب: “تُعدُّ المعلَّقات العشر من روائع الأدب العربي والعالمي، والجذور الخالدة لإبداع الشعر العربي، حيث تتواشج وتتشابك فروعها مع الكتابة الإبداعية العربية حتى اليوم، حاضرة في الشعر والأدب العربيين في العصور اللاحقة. مادة أصيلة بقيت قرونًا شاهدة على سليقة ومَلَكَة الإنسان اللغوية وقدرته على تطويعها وتشكيلها والتعبير عن ذاته من خلالها”.

في اللقاء، أبدت أرامكو السعودية رغبتها في التعاون مع جامعة بكين في ترجمة تلك الطبعة من “المعلقات لجيل الألفية” إلى اللغة الصينية. ورشّحني الدكتور أمين للإشراف على إدارة مشروع الترجمة؛ إذ إنه يعرف أني قد ترجمت دواوين وروايات عربية إلى اللغة الصينية، من بينها “كتاب الأمير.. مسالك أبواب الحديد” للكاتب الجزائري واسيني الأعرج، و “جسر بنات يعقوب” للكاتب الفلسطيني حسن حميد.

أصدر مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي “إثراء”، بالتعاون مع مجلة القافلة، الطبعة الأولى من كتاب “المعلقات لجيل الألفية” عام 2020م، حيث تضمنت شروحات للمعلقات تستهدف تبسيط فهمها للأجيال الجديدة، قدّمها نخبة من الأدباء والنقاد السعوديين، إلى جانب ترجمة المعلقات وشروحاتها إلى الإنجليزية. وقد استُقبل هذا الكتاب بحفاوة من قبل المهتمين والمتذوقين للشعر العربي، وهو ما دفع مركز “إثراء” إلى استكمال العمل على إصدار ترجمات أخرى للكتاب إلى اللغات الفرنسية والإسبانية والألمانية والكورية. ويُضاف إلى ذلك الترجمة الصينية التي شهد معرض بكين الدولي للكتاب 2024م إطلاق جزئها الأول.

مهمة مختلفة مليئة بالتحديات

على الرغم من تجاربي في الترجمة، فإني أُدرِك أن مهمة ترجمة “المعلَّقات لجيل الألفية” مختلفة عمَّا تُرجم من قبل. فلطالما كانت الترجمة، باعتبارها فنًا للتواصل بين الثقافات، مليئة بالتحديات. وتُعدُّ ترجمة القصائد القديمة قمة في مجال الترجمة. فالشعر القديم، بنكهته الفريدة ومعانيه العميقة ودلالاته الثقافية الغنية، لا يجعل من الترجمة مهمة تحويل لغوية فحسب، بل يجعل منها أيضًا عملية نقل ثقافي وإعادة خلق ثقافي.

وبعد تفكير، أخذت على عاتقي أن أتحمل هذه المهمة الصعبة؛ لأنني أحبُّ الأدب العربي ولا سيَّما الشعر، وأحبُّ أن أخوض التحديات بدلًا من الهرب منها وتجنبها. وأعرف أن في الأمر فرصة سانحة لأن أتعلم من الأساتذة الذين شاركوا في شرح نصوص المعلقات وتفسيرها في كتاب “المعلقات لجيل الألفية”.

استخدام العروض والقوافي الصينية!

نظَّمتُ فريقًا للترجمة يضم عددًا من الأساتذة الكبار والباحثين الشباب. ووزَّعت المهمات، وبدأنا العمل. ومع مرور الوقت، شعرنا بصعوبات كثيرة تواجه ترجمة المعلَّقات إلى اللغة الصينية، وتتطلب مهارات خاصة ومعرفة فريدة من نوعها.

في لغة المعلَّقات تتميز الكلمات بالعمق والشمولية، وهو ما يتطلب من المترجمين فهمًا دقيقًا للكلمات والسياق الذي استُخدمت فيه. فضلًا عن ذلك، تتضمن هذه الكلمات معاني متعددة وتركيبات لغوية مُعقدة، وهذا ما يزيد من صعوبة الترجمة. وواجهنا كذلك تحدي ترجمة الصوتيات والإيقاع؛ إذ تتميز قصائد المعلَّقات بجمال الصوت والموسيقى، اللذين يُعدان جزءًا لا يتجزأ من الجمال الإبداعي للقصائد في الترجمة إلى اللغة الصينية.

كان من الصعب، بالطبع، أن نحافظ على الإيقاع والبنية الصوتية التي تميز القصائد الأصلية. فالقوافي والعروض في اللغة الصينية تختلف كثيرًا عن القوافي العربية وعروضها. فتشاورنا كثيرًا، وقرَّرنا أن نستخدم القوافي والعروض الصينية؛ لأن الكتاب الجديد يواجه القرَّاء الصينيين، الذين سيفهمون معنى المعلَّقات من خلال النصوص الصينية وليس النصوص العربية، مع أن الكتاب سيكون باللغتين: العربية والصينية.

اقرأ القافلة: عولمة المعلّقات، جماليات قصة الإنسان العربي القديم بلغة الجيل الجديد

وتحدي الترجمة الثقافية

واجهنا أيضًا تحدي الترجمة الثقافية؛ إذ تتضمن قصائد المعلَّقات كثيرًا من العناصر الثقافية والتاريخية التي تشكِّل جزءًا من الحضارة العربية. لذا، كان على المترجمين أن يجدوا الطريقة الصحيحة لنقل هذه العناصر الثقافية، بحيث يمكن لقرَّاء جيل الألفية الصيني فهمها. وفي بعض الأحيان، كان من الصعب أن نترجم كلمة إلى كلمة صينية واحدة، فحاولنا أن نشرحها بالتفصيل لتسهيل فهم القرّاء الصينيين لها.

في البداية، اخترت عددًا من المترجمين والمترجمات كي نسرّع الترجمة. ولكن كثرة المترجمين أصبحت مشكلة أيضًا؛ لأن كثرتهم تعني أساليب مختلفة، فتتعدد الطرق التي يستخدمها المترجمون في ترجمة المعلقات، وهو ما يؤدي إلى وجود نسخ متعددة للكلمات المنقولة. فكل مترجم يحاول أن ينقل المعنى والروح من النص الأصلي، ولكن الاختلاف في الأساليب والتفسيرات قد يؤدي إلى تنوع في النتائج النهائية. مثلًا، اسم شاعر واحد يُمكن أن يرسمه مترجمون بأشكال مختلفة، واسم مكان واحد يُمكن أن يكتبه المترجمون بأسماء كثيرة في اللغة الصينية.

في المرحلة الأخيرة، كان لا بدَّ أن أراجع هذه النصوص المترجمة، وأن أصحِّح هذه الأسماء المتنوعة وأوحِّدها لتكون في شكل واحد. وعلى الرغم من كل هذه التحديات، لم يكن من المستحيل على المترجمين أن يتجاوزوا هذه العقبات من خلال معرفتهم الثقافية والمعرفة باللغة واتباع الأساليب الصحيحة للترجمة. وبالطبع، فإن الترجمة ليست مجرد تحويل للكلمات، بل هي أيضًا تحويل للروح والمعنى من النص الأصلي.


مقالات ذات صلة

ثمرت ظاهرة “صانع الأفلام” في السينما السعودية بعض الأفلام الناجحة من دون شك. لكن ماذا عن التجارب غير الجيدة؟ وكم عددها؟ فمن الخطأ القطع بنجاح ظاهرة صانع الفيلم متعدد المهام قياسًا على مثال واحد أو مثالين وبتجاهل إخفاقات عديدة.

ما الذي حلَّ بالبرامج الثقافية التلفزيونية؟

حجرًا حجرًا أتهدّمُ .. حبّةَ رملٍ تعانقُ حبّةَ رملٍ .. إلى جدثي أتقدّمُ .. لم أكترثْ .. برسائلَ ما فتئ الموتُ يُودِعُها جسدي…


0 تعليقات على “المعلقات لجيل الألفية الصيني”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *