مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

جماليات “قناع بلون السماء”

الرواية بوصفها تجريبًا وبحثًا

نبيل سليمان

حظيت رواية “قناع بلون السماء” لباسم خندقجي باهتمام كبير منذ أن صدرت في مطلع العام الماضي، وتضاعف الاهتمام بها بعد إعلان فوزها بالجائزة العالمية للرواية العربية في دورة العام الحالي 2024م. وفسَّر البعض هذا الاهتمام بكون مؤلفها أسيرًا في السجون الإسرائيلية. وقد طلبت “القافلة” من رئيس لجنة التحكيم التي منحت الجائزة، الروائي نبيل سليمان، كتابة مقالة يشير فيها إلى ما رآه في “قناع بلون السماء”، بعيدًا عن بيان لجنة التحكيم الذي يمثّل ما هو مشترك بين أعضائها.

“قناع بلون السماء” تحصد الجائزة العالمية للرواية العربية 2024 .

تطرح رواية باسم خندقجي “قناع بلون السماء” قضية العلاقة الشفيفة الحساسة والمعقدة أيضًا بين البحث والسرد. وأول العلاقة بين الرواية والبحث هو الحاجة إلى المراجع والمصادر. فالرواية، حتى السيرة منها، لا تكفي فيها تجارب الكاتب الحياتية وخبرته وذكرياته. فإذا شاءت الرواية أن تكون حفرًا في التاريخ، أو أن تكون من قبيل روايات الخيال العلمي، أو أن تكون فيها شخصية طبيب أو موسيقار أو عالمة آثار؛ فلا مناص عندئذٍ من أن تكون للرواية مصادرها ومراجعها، وإن كان من النادر أن تذكر رواية هذه المصادر أو المراجع.

لعبة المصادر والمراجع

منذ البداية، تتحدث رواية “قناع بلون السماء” عَن المخيّم الفلسطيني الذي عاش فيه نور مهدي الشهدي، وهو راوي الرواية وشخصيتها المحورية. فيبدأ الحديث برواية إلياس خوري “أولاد الغيتّو”، ورواية أليف شافاق “قواعد العشق الأربعون”، وكتاب ميشيل بيجنت “الدم المقدس الكأس المقدسة”، وكتاب نايجل سي. غبسون “فانون والمخيلة ما بعد الكولونيالية”.

من جمالياتها تعدد لغاتها؛ إذ تجمع في مقطع واحد بين لغة الصحافة ولغة الباحث، ولغة الحكواتي، ولغة الشاعر، وشخصياتها لا تُنسى حتى ولو كان حضورها محدودًا.

“نور” باحثٌ مختص في التاريخ والآثار. وقد شرع يكتب الرواية بعدما أخفق في أن يعدَّ البحث المأمول عن مريم المجدلية. وهو يعلن أن دافعه إلى ذلك البحث، ومن بعدُ إلى هذه الرواية، هو ما فعلته رواية “شفرة دافنشي” لدان براون من تشويه لسيرة المجدلية. وفي استرجاعه الروائي والعلمي للمجدلية تتواتر المتناصات من مختلف الأناجيل، وكذلك دراسة إلين بيجلز حول الأناجيل الغنوصية، وكتاب سيجمونت باومن “الحداثة والهولوكوست”. وإن كان باسم خندقجي قد اكتفى بذكر عدد محدود من المراجع أو المصادر، فالعودة إلى كثير من المراجع غيرها لا تفتأ تعلن عن نفسها. وهذا كله واحد من ملامح التجريب والحداثة في “قناع بلون السماء”؛ أي من جماليات هذه الرواية. يبدأ الكاتب لعبته الروائية الكبرى بصيرورة ملامح نور مهدي الشهدي الأشكنازية قناعًا يرتديه، وهو الثلاثي اللغات: العربية لغة القلب، والإنجليزية لغة العقل، والعبرية لغة الظلّ. وهنا نقرأ أن العبرية صارت للرجل غنيمة حرب تحصَّل عليها، مستعيرًا قول الكاتب الجزائري كاتب ياسين.

“الاسم مناعة والقناع حصانة”

في الرسائل الصوتية التي يسجّلها نور على الهاتف الجوّال مخاطبًا صديقه السجين “مرادًا”، ومحدثًا إيـاه عن مشروعه الروائي، يتحدث عن صاحب بطاقة الهوية الزرقاء؛ أي الإسرائيلية، التي عثر عليها، ويعتزم الإفادة منها بالتنكر بها. واسم صاحب البطاقة أور، ونقرأ: “والاسم مناعة يا مراد وللقناع حصانة.. وأنا عثرت على قناع واسم لأتسلل من خلالهما إلى أعماق العالم الكولونيالي”. ويردف نور أن اسم أور شابيرا مذهل و “القناع يمنحني اكتفاءً تامًا”. ونور في مسعاه القناعي، ندر أن استخدم الهوية التي جرى تزويرها بوضع صورته مكان صورة أور. أمَّا المفارقة الساخرة، كما يكتب نور لمراد، فهي أنه حين يتسلل من رام الله حيث يقيم إلى القدس، فهو يتسلل بلا قناع، لكنه حين يتجول فيها يصير أور شابيرا. أمَّا المفارقة الساخرة والدامية، فهي حين ينفي نور أن يكون في مدينته رام الله أقنعة، لماذا؟ لأن رام الله هي القناع!

إنه القناع الأبيض والأزرق الذي سيكشفه نور في نهاية الرواية لزميلته في التنقيب سماء إسماعيل الفلسطينية: “أور شابيرا مجرد قناع، مثل هويتك الزرقاء التي تحملينها”. لكن سماء التي تستولي على كيانه لا تصدق ما يكشف لها من سر أنه فلسطيني، وتناجزه بأنها تنتظر عمرًا بأكمله من أجل الخلاص من الهوية الإسرائيلية، بينما ترى أن نور خسر عمره ليرتدي هذا القناع، “هذه الهوية التي نكبتني”. وإذا كانت سماء ستقتنع أخيرًا بحقيقة نور الفلسطينية، فقد سبق ذلك ما توّج لعبة القناع، فيما كتب نور لمراد، عن المقابل العبري لكلمة قناع، والذي يشبه الرديف بالإنجليزية: ماسك (Mask) التي تلفظ بالعبرية (مسخ)، ونقرأ: “وأنا لا أرتدي قناعًا، أنا أرتدي مسخًا، بل أنا هو المسخ الذي وُلِد من رحم النكبة (…) أنا المسخ يا صديقي، فهل من رحم تلدني مرة أخرى إنسانًا؟”.

الرواية تفكّر بنفسها، أو ما يمكن أن نسميه: وعي الرواية لذاتها، أو: كتابة الرواية على المكشوف، في العراء، أمام القراء. هذا كله هو اللعبة أو التقنية الكبرى لرواية “قناع بلون السماء” التي أبدع الكاتب في لعبها، منذ أن افتتحها بالبطاقة الصوتية الثانية عشرة تحت عنوان “في سبيل الرواية”، حيث يعلن فشله بوصفه باحثًا في إثبات تاريخية مريم المجدلية؛ لذلك “سأحاول إعادة قراءة قاعدة البيانات والمعلومات التي أعددتها في سبيل بحث علمي تاريخي”. وإزاء ذلك، سيحاول كتابة رواية “سأرتكبها بكل ما أوتيت من مرة أولى وتخيّل، سأرد على الخيال بمثله وأكثر، فما التاريخ في النهاية سوى تخيّل معقلن”.

تأثر شقيق باسم خندقجي لحظة إعلان فوز الرواية.

يتساءل نور عن كيفية كتابة الرواية، وهو الذي يدرك أنه بحاجة إلى لغة رهيفة متينة، ويضع افتراضًا تلو افتراض، ويقلب الاحتمالات المتعلقة بالمجدلية نفسها، وبشخصية محورية سيتخيلها، “سمعان الأعرج” وهو من أهم مريدي المجدلية. ويشدد على عدم الإفراط في إقحام البيانات التاريخية والدينية والغنوصية في المتن الروائي. وهذا ما تحقق غالبًا في الرواية من تسريد المعلومة أو الخبر أو الوثيقة.

الرهان على قدرة الخيال

يراهن نور على ما يسميه بقدرة الخيال الجبارة على الإطاحة بالتاريخ عن متن الحقيقة والمعقول. فالرواية، أولًا وآخرًا، هي تخييل. الرواية خيال مهما تمثّلت من الوثائق والمعارف. في الكثير من شخصية مراد في الرواية ما يشير إلى الكاتب، فمراد هو السجين، وهو الباحث في الكولونيالية. ولباسم خندقجي أبحاثه في الكولونيالية، فضلًا عن أنه بدأ شاعرًا، ثم كتب الرواية. وإذا كان أيضًا في شخصية نور مهدي الشهدي ظلال من الكاتب، فالأهم هو أن لعبة البطاقات الصوتية التي يستحضر فيها صوت مراد أيضًا ورسائله، هي المفجر الأكبر والتجلي الأكبر معًا لكتابة الرواية في العراء. من جماليات “قناع بلون السماء” تعدد لغاتها. ففي مقطع واحد تجمع بين لغة الصحافة ولغة الباحث، ولغة الحكواتي، ولغة الشاعر. لكن الرواية لم تخلُ مما ينغّص، كأن تلجأ إلى الملخص السردي؛ قصة امرأة الأب خديجة مثلًا لذلك. وثمة من التعبيرات المجازية ما يبدو ناتئًا، كأن تكون الذاكرة ما تفتأ تضاجع صاحبها لتلد له توائم ممسوخة مشوهة، وكذلك أن تكون ذاكرة نور مفترسة لا تشتهيه إلا دسمًا سمينًا “لكي تلتهمه ببطء بأنياب وقتها الوحشي”. ومن هذا القبيل ما يتصل بالقدس وبحيفا. غير أن ذلك كأنما جاء ليؤكد ألق جماليات هذه الرواية، ومنه: بناء الشخصيات التي لا تُنسى، حتى لو كان حضورها الروائي محدودًا.


مقالات ذات صلة

ثمرت ظاهرة “صانع الأفلام” في السينما السعودية بعض الأفلام الناجحة من دون شك. لكن ماذا عن التجارب غير الجيدة؟ وكم عددها؟ فمن الخطأ القطع بنجاح ظاهرة صانع الفيلم متعدد المهام قياسًا على مثال واحد أو مثالين وبتجاهل إخفاقات عديدة.

ما الذي حلَّ بالبرامج الثقافية التلفزيونية؟

أطلقت “إثراء” المرحلة الأولى من الترجمة الصينية لكتاب “المعلقات الألفية”، والتي يُتوقع أن تستوفي كل المعلقات العشر عام 2025م.


0 تعليقات على “جماليات “قناع بلون السماء””


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *