يمثل المتحف الوطني السعودي من خلال معروضاته نموذجًا لنجاح المتاحف في إبراز ثقافة المجتمع، وليكون بذلك مرآةً صادقةً للخلفية الفكرية والثقافية التي يمثلها.
د. عبدالرحمن بن محمد السري
تصوير: يوسف حمزة السري
يقع المتحف في حي المربع، في الجزء الشرقي من مركز الملك عبدالعزيز التاريخي وسط مدينة الرياض، حيث افتُتح في العام 1999م، وهو يعرض اليوم مسارًا فكريًا عميقًا يبدأ من خلق الكون، مرورًا بالحضارات التي تكونت على أرض شبه الجزيرة العربية، وعبر العهود الإسلامية المختلفة، وصولًا إلى الدولة السعودية بمراحلها الثلاث.
ويتميَّز المتحف على وجه الخصوص بوجود “جسر الهجرة”، الذي يحكي قصة هجرة الرسول الأكرم، صلى الله عليه وسلم، بحرفية فنية عالية تخاطب العقل والوجدان، وتتيح للزائر تكوين تجربته الخاصة من خلال التأمل في العمل الفني الذي يمثِّل الحدث، في رحلة لا تتعدَّى مدتها ثلاث دقائق.
من البعثة إلى الهجرة
في قاعة البعثة النبوية، يتعرّف الزائر على السيرة العطرة لصاحب البعثة النبيّ محمد، صلى الله عليه وسلم، منذ ولادته إلى بدء هجرته. ثم ينتقل إلى قاعة الإسلام والجزيرة العربية عبر جسر الهجرة، الذي يربط بين طرفي الطابق الثاني من المتحف، ليأخذ الزائر في رحلة بصرية مشوِّقة تنقله من أحداث ما قبل الهجرة إلى ما بعدها.
عبر هذا الجسر الممتد على طول 45 مترًا وبارتفاع مترين، يعيش الزائر تجربة فكرية فريدة؛ ينطلق بجميع حواسه عندما يستغرق متأملًا اللوحة التي تعبّر عن الهجرة النبـوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة. وقد أُضيء الجسر بالإضاءة الطبيعية بشكل تدريجي، حيث يبدأ الضوء خافتًا ثم يزداد شيئًا فشيئًا حتى الوصول إلى النهاية، في محاولة للتعبير عن الانتقال من الظلمات إلى النور.
وعن يمين السائر على الجسر تمتد اللوحة المصنوعة من السيراميك الملون؛ للوهلة الأولى تشعر أنك تنظر إلى لوحة فنية جميلة تنتقل من الغموض إلى الوضوح، بينما تتخلّلها عبارات بخط الثلث الأنيق. ثمّ لا تلبث حتى تنظر إلى ما وراء اللوحة، لترى أنك تعيش عالم الهجرة لحظة بلحظة، وأنت تستمع إلى المؤثرات الصوتية التي تذكرك بالرحلة الخالدة التي غيَّرت مسار التاريخ، وتشاهدها أمامك من خلال رموزها لتستدعي من ذاكرتك تفاصيل تلك الوقائع.
ويعكس هذا العمل الفني أحداث الهجرة من خلال عدة مستويات، حيث تبدأ اللوحة بالألوان الداكنة والملامح غير المحددة التي تعبّر عن مرحلة الدعوة في مكة المكرمة قبل الهجرة عقب انبثاق نور النبوة. بعد ذلك تُظهر اللوحة ألوانها تدريجيًا إلى أن تشرق في نهايتها بألوان زاهية تحكي مرحلة الوصول إلى المدينة المنورة التي أشرقت بنور الرسول، صلى الله عليه وسلم.
تفاصيل الأحداث والأماكن
وعلى مستوى آخر، تعكس اللوحة مجموعة من الأماكن والأحداث التي مرَّ بها الرسول، صلى الله عليه وسلم، وصاحبه أبو بكر الصدّيق، رضي الله عنه، حيث يمكن للزائر أن يلحظ ما يدل على غار ثور، الذي آوى رسول الله وصاحبه عند الهجرة إلى المدينة. كما يمكنه أن يلحظ إشارة إلى خيمة أم معبد الخزاعية، واسمها عاتكة بنت خلف بن معبد بن ربيعة بن أصرم، حيث قصدها رسول الله بعد نزوله من الغار، فبارك شاةً كانت لديها فدرّ حليبها مرارًا.
كما يمكن أن تلمح في التفاصيل سِوَارَي كسرى، اللذين يرمزان إلى قصة سراقة بن مالك حين جاء يطلب النبي وصاحبه أثناء الهجرة، فانغرست قدما فرسه في الرمل، فطلب من النبي أن يسامحه ويدعو له على أن يرجع عن غايته، فدعا له النبي الأكرم، ثمّ قال له: “كيف بك إِذا لبست سِوَارَي كسرى ومِنْطَقَتَه وتاجه؟”، فقال سراقة متعجبًا: “كسرى بن هرمز!” وكان الأمر كما قال النبي، صلى الله عليه وسلم، حين فُتحت المدائن فأرسل سعد بن أبي وقاص سِوَارَي كسرى وتاجه ضمن الغنائم إلى الخليفة عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، فألبسها سراقة.
كل تلك المحطات تمرّ كشريط سينمائي أمام المُشاهد، وهو ينتقل فوق الجسر ويمر باللوحة. سطوع الإضاءة الطبيعية باتجاه نهاية الجسر، وتدرّج تفاصيل العمل الفني من الغموض إلى الوضوح، والتفاصيل الدقيقة والألوان الداكنة والتعبيرات الغامضة، وكذلك الألوان المشرقة والتفاصيل الدقيقة، من إشارات مباشرة وغير مباشرة لأحداث الهجرة؛ كلّ هذا يشكّل تحفيزًا ذهنيًا للزائر، ليعيش أحداث الهجرة ويتفاعل معها، وهو ينتقل من أول الجسر إلى آخره.
كما يمتد في وسط اللوحة خيطٌ ذهبي من أولها لآخرها يعبّر عن استمرارية الإسلام بنصاعته وإشراقته وخلوده. ولإضفاء مستوى آخر من الانغماس في التجربة، يستمع العابر على الجسر إلى مؤثرات صوتية متعددة توحي له بالمكان أو الحدث الذي يمر به؛ لينتهي الصوت بأهازيج استقبال الأنصار للحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم: “طلع البدر علينا من ثنيات الوداع”.
ولا يرافق اللوحة الفنية أي شروحات، وإنما تُرك ذلك لتمعن الزائر ليعيش لحظات الهجرة مستدعيًا ما عنده من معلومات تذكره بها الإشارات المنثورة في اللوحة. وهكذا، قد يستمتع زائر ما باللوحة بوصفها عملًا فنيًا مجردًا، بينما يقرأ زائر ثانٍ العبارات فتذكره بأحداث الهجرة التي يعرفها، ويستحضر ثالثٌ معلوماته الغزيرة عن أحداث الهجرة التي استدعتها له مفردات العمل الفني، وآخر تجذبه المؤثرات الصوتية لاستشعار أعمق للأحداث.
اترك تعليقاً