مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مارس - أبريل 2023

جدة التاريخية، معالم تقاوم النسيان


محمود تراوري

حين صدح طلال مداح مغنيًا: “ومن طاقة مبيت أمي .. أغني وأنت بتغـــني”، كأنما كان يشير إلى مفردة من مكونات ما عُرف بـ “العمارة الحجازية”، التي هي بالضرورة شكل من أشكال تنوع العمارة الإسلامية التي كانت تراعي الظروف المناخية للمكان، ناهيك عن السياقات الاجتماعية والثقافية، فـ “الطاقة” هي نافذة تطل على الشارع من “المبيت” وهو غرفة نوم الأم. 

محمود تراوري

مع التحولات الاقتصادية التي عاشتها المملكة منذ الطفرة الأولى في نهايات السبعينيات الميلادية من القرن الماضي، وفي ظل الحاجة الماسة لتوسعة المدن وشق الطرق استجابةً لتزايد عدد السكان، تغير “المبيت” واتخذت “الطاقة” معنى وشكلًا مختلفًا عن تلك التي كان يصدح بها طلال على لسان الحبيب الذي يغني لمن “عرفها وهما لسا صغار”، كما في الأغنية الجميلة المعبرة عن روح تلك المرحلة.

تداعت كثير من المباني التي أُنشئت بنمط العمارة الحجازية القديمة، حتى لم يتبقَ منها شيء تقريبًا، خاصة في مكة المكرمة والمدينة المنورة، سوى مباني ما عُرف بـ “المنطقة التاريخية” بجدة، أو “البلد” أو “جدة القديمة”، التي تكونت من الحارات الأربع التاريخية أو التأسيسية، وهي: الشام والمظلوم والبحر واليمن، التي كانت محاطة بالسور قبل هدمه عام 1367هـ .

حين كلّف السلطان قنصوة الغوري في العهد العثماني أحد قواده، وهو حسين الكردي، ببناء سور حول مدينة جدة في القرن العاشر الهجري، وتمكن المعلم الكردي من إتمام البناء في أقل من عام مستعينًا بعسكر من الأتراك والمغاربة لصد تهديد البرتغاليين لمدينة جدة، لم يكن يعلم أنه سيأتي يوم تلفت فيه هذه المنطقة أنظار العالم، وتتحول إلى معلم ينضم إلى قائمة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو عام 2014م.

أما السور الذي كان يحيط بالحارات الأربع التي شكّلت مدينة جدة، إن كان قد حمى سكانها من أطماع البرتغاليين قبل مئات السنين، فقد ملأ أيضًا ساكنيها بالوجد وصبابات العشق والفن، على نحو ما يتجلى في بيوتها التي تستعيد الآن رونقها وتسترد جمالياتها وتزدهي بـ”رواشينها”، من خلال مشاريع الترميم التي انطلقت مع ضم المنطقة لقائمة التراث العالمي، ولا تزال أعمالها مستمرة مع حرص وزارة الثقافة على إنجاز هذه المهمة؛ كي يستعيد المجتمع الروح الحجازية التاريخية التي تحتضنها المنطقة وتعبر عن المدينة في بعديها التأسيسي والجمالي، حيث مواسم الجدب والبحر والمطر ومناخات المعادي وسقيفة الهنود وزقاق الخراطين وسوق الندى وبحر الأربعين وبرحة العيدروس وقوز الهملة ومسجد عكاش وباب البنط الخاسكية المتعالقة مع حارات جدة الأربع التاريخية. وفي مقدمة هذه الحارات الأربع حارة “المظلوم”، التي تختزن  بين أرجائها “فانتازيا” مميزة، وتستثمر أسطورة تسميتها من واقعة إعدام “البرزنجي”، أحد شخصيات المنطقة في العهد القديم، الذي قرأ سكان جدة في دمه المراق لحظة إعدامه أنه مظلوم، لأنه ثار على الأجانب الذين كانوا حاضرين في المدينة عبر القنصليات الدبلوماسية في العهد الهاشمي.

هذه الحكاية الأسطورية تتداخل مع حكايات كثيرة حول نشأة المدينة، تذكر إحداها أن مدينة جدة وُلدت من “تزاوج الصحراء بالبحر”، ثم حمل سكانها “الحجر المنقبي” الذي كانوا يقدّونه من البحر لبناء بيوتهم، لتأتي بعد ذلك أجيال تتأمل جماليات تلك البيوت بـ”رواشينها”، وتستوحي منها أحلامها. ولا يتردد الكاتب محمد صادق دياب، وهو أحد أبناء جدة، في تدوين شيء من تلك التأملات حين يقول: “من فضة الموج جدل أهلها. ومن رحابة الصحراء نسجوا خيام قلوبهم، فاتسعت لتقلبات الأزمنة، فهذه المدينة الأنثى تعودت إذا ما انطفأ النهار، وتثاءبت النوارس على صواري المراكب الراسية أن تدوزن أوتار قلبها على مقام العشق، وتستـوي على الشاطئ جنية حسناء تغازل البحارة والغرباء وعابري السبيل وتنثر ضفائرها فنارًا فترحل صـوبها أشواق المواويل وأحلام النواخـذة”.

يستذكر باحثون وثائق مهمة جدًا لتاريخ المدينة، موجودة في مكتبات أوروبية، تكشف عن علاقاتها القديمة منذ مئات السنين مع دول كالبرتغال وهولندا وإندونيسيا والهند وماليزيا والقرن الإفريقي، ناهيك عن ارتباطها الوثيق بمكة المكرمة والمدينة المنورة.

انصهار الثقافة مع الحياة

وجذبت منطقة البلد في مدينة جدة أستاذة التاريخ بجامعة برلين، الألمانية الدكتورة أولريكة فرايتاتج، التي استوقفها تعدد الثقافات وتنوعها، فقررت كتابة تاريخ مدينة جدة في القرن التاسع عشر، خاصة فيما يتعلق بالجانبين الاجتماعي والاقتصادي. فأصدرت كتابها متناولة مراحل تطور مجتمع جدة وتاريخه في القرن التاسع عشر، مبررة اختيارها جدة بقولها: “عندما زرت جدة لأول مرة عام 2000م ووجدت انفتاحها على العالم، رأيت أن هذا موضوع مهم للبحث فيه من حيث الرؤية الأوروبية للجزيرة العربية”.

تغيرت جدة القديمة من مركز مدينة يتسع ببطء إلى عوالم حضرية يميزها التنوع السكاني، وهو التنوع الذي يُعد سمة من سمات المدن الساحلية المنفتحة على البحر. وتشير كثير من الدراسات والبحوث الأكاديمية إلى  مجموعات معينة من مناطق جغرافية متعددة شكّلت لهم الهجرة إلى جدة سبيلًا للعيش، مثل الفارّين من التوسع الفرنسي في إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، إذ كانت لديهم حوافز دينية للهجرة إلى الحجاز، ما أسهم في تطور الحيّز العمراني لمدينة جدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وتوسع شرايين الحياة الاقتصادية للمدينة مثل الموانئ والأسواق بشكل منتظم، وإثراء النسيج الاجتماعي لمدينة جدة، وحدوث نوع من انصهار الثقافات وتداخلها وتعددها وتفاعلها في فضاء الحياة العامة، ولا سيما المقاهي، التي مثّلت جانبًا مهمًا للتفاعل الحضري.

وتمثّل ثقافة المقهى، كما هو الحال في معظم المجتمعات الإنسانية الضاجة بالبهجة والحياة، عنصرًا حيويًا من عناصر تفعيل العيش في جدة التاريخية، التي كانت تضم حوالي 67 مقهى كانت عنوانًا لملامح حياة اجتماعية وثقافية تعبّر عن حيوية المنطقة التاريخية، وترتادها أسماء إبداعية من عينة حمزة شحاتة ومحمد حسن عواد وأحمد قنديل، وسواهم من أدباء ومثقفين كانوا يشكّلون الإيقاع الذي يمنح المدن شخصياتها؛ فالمقهى كان جزءًا أصيلًا من روح المدينة، لا يدل على ثرائها المادي قدر ما يكشف عن طبيعة علاقاتها الاجتماعية.

وكانت المقاهي تتوزع حسب مرتاديها، فهناك مقهى للأدباء والمثقفين، ومقاهٍ أخرى بحسب المهن، فللشيالين مقهى، وللمخرجين مقهى، وللبنائين “المعلمين” مقهى وهكذا. فيما كانت “المقاعد” هي المعادل للمقاهي، وتمثل تقليدًا اجتماعيًا عريقًا في ثقافة الحجاز، وهي جلسة أشبه ما تكون بنادٍ اجتماعي يتجمع فيه ثلة من الأصدقاء يتبادلون أطراف الحديث، وينفضون عن الروح ما مسها من شوائب النهار، فالمنطقة التاريخية كانت تضم أكثر من 10 مقاعد، أشهرها مقعد باناجة ومقعد أبو زنادة ومقعد باحجري. وعادة كانت هذه المقاعد أشبه بصوالين كبيرة داخل البيوت، تتضمن تجربة بعض الألعاب كالشطرنج، إضافة إلى المسامرات الثقافية، والطرب والموسيقى، وكلها أشكال تصب في خانة الثقافة بمفهومها الإنساني الواسع، بحيث تبدو المدينة وكأنها مقهى كبير. كما أسهمت الاحتفالات الدينية المنتظمة في أوائل القرن العشرين وتطور الجمعيات الثقافية في هذا السياق، وأصبحت الرياضة، وخاصة كرة القدم، عاملًا تكامليًا مهمًا.

وكان من أبرز تلك المقاهي منذ نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات والستينيات، مقهى الفتيني ومقهى الدكة وكازينو باخشوين في حارة الشام، ومقهى محمد إبراهيم وكازينو أبو زنادة في حارة البحر، وكازينو الشاطئ، بالإضافة إلى كازينو المقصف الذي كان يقع في مكان جميل وفخم بجوار البريد. 

تمثّل ثقافة المقهى عنصرًا حيويًا من عناصر تفعيل العيش في جدة التاريخية، التي كانت تضم حوالي 67 مقهى تعبّر عن حيوية المنطقة التاريخية، وترتادها أسماء إبداعية.

عمارة جدة وأبعادها

تتكون بيوت جدة التاريخية، المعبرة عن نمط معماري متميز، في الغالب من ثلاثة أدوار: دور أرضي، ودورين علويين. الدور الأرضي  تقع فيه  “القاعة” لاستقبال الضيوف والمناسبات، وهناك “المقعد” وهو الغرفة التي على يسار المدخل، يتوسطها “الجلا” وهو عبارة عن فتحة تدخل الضوء لمدخل البيت. 

كانت ثقافة عمارة البيت في جدة تقوم على فلسفة معمارية تراعي الجوانب النفسية والاجتماعية للفرد والأسرة، فكان الرجال من ضيوف صاحب البيت، على سبيل المثال، يجلسون في غرفة واسعة مطلة بنوافذها على الشارع، ومشتملة على روشان، وبها دكة مرتفعة عن الأرض تسمى المقعد، الذي توضع على أرضيته كراسيّ خشبية، أو ربما تكون مشغولة بالخيزران. ولا يمكن لأي ذاكرة عايش صاحبها مجتمع جدة القديم أن ينسى المقعد وما يحمل من قيمة ودلالات.

وفي جوار البيت، أمامه أو خلفه، هناك “المركاز”. والفرق بين المركاز والمقعد هو أن المقعد داخلي في البيت وأكثر حميمية ويمثل مكانًا للتسلية وراحة البال والحوار الثقافي وتبادل الأفكار والمعرفة ونموها، بينما المركاز خارجي يطل على الشارع، ويتأسس بين الأزقة وتحت الرواشين.

ومن هناك في البعيد، البعيد من الذاكرة التي يحاصرها المحو والنسيان، قبل تلاشي كل شيء، يقف الآن عدد من السياح تحت رواشين تلك البيوت التي أُعيد ترميمها، يكادون يسمعون طلال مداح صادحًا:

"عرفتك وإحنا لسه صغار .. 
ولسـه في ذمة الأقدار
وفي الحارة مع الجيران .. 
كبرنا وأنتِ برضو كمان"

وفيما يغني طلال بلوعة وحنين مستعيدًا أيامًا مضت، سفح خلالها عشاق آهاتهم قبل دموعهم، في أزقة حافلة بالحكايات والأغنيات والأحلام والأشواق والخيبات، يستذكر باحثون وثائق مهمة جدًا لتاريخ المدينة، موجودة في مكتبات أوروبية، تكشف عن علاقاتها القديمة منذ مئات السنين مع دول كالبرتغال وهولندا وإندونيسيا والهند وماليزيا والقرن الإفريقي، ناهيك عن ارتباطها الوثيق بمكة المكرمة والمدينة المنورة. هذه الوثائق تكشف عن فضاء حضاري للمدينة يرجع إلى ما قبل 500 عام في التاريخ الحديث، من خلال رصد القنصليات الأجنبية والمستشفيات والمراكز الحضرية المدنية المتقدمة.


مقالات ذات صلة

خلف هذه المنشآت الرياضية الباهرة، تتكشف قصة أعمق تتعلق بالتخطيط الحضري وفنون العمارة وصناعة المكان. إذ إن الفعاليات الرياضية، حتى إن لم تصل في ضخامتها إلى مستوى الألعاب الأولمبية، تحفّز تحولات عمرانية كبيرة، وتُثير تساؤلات مهمة حول دورها في تطور المدن وعمرانها.

وعينا ومشاعرنا تشكلت من خلال التفاعل الحقيقي مع الطبيعة، وأن الابتكارات التكنولوجية وُلدت من تجارب حية مع العالم الطبيعي..

موسكو مدينة تترك بصمة لا تُنسى على زوَّارها. مدينة نابضة بالحياة، نظيفة، آمنة، ودودة، وتستقبل العائلات والسيَّاح بحرارة.


0 تعليقات على “جدة التاريخية، معالم تقاوم النسيان”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *