تؤدّي الجوائزُ دورًا مهمًا في عالم الأدب والثقافة، حيث تُسهم في تعزيز الإبداع، وتشجيع المواهب الأدبية، وتحفيز المبدعين لتقديم أفضل ما لديهم، كما تقوم بإبراز الأعمال الإبداعية المتميزة، التي قد تمر دون أن تحرز الاهتمام المستحقّ.
والعلاقة بين الأدب والسينما علاقةٌ قديمةٌ قِدم السينما العالمية، فمنذ البدء أدرك السينمائيون أهمية الرواية في صناعة سينما ذات أثر ثقافي ممتد. والسينما الحقيقية يجب ألَّا تكون صورةً فارغةً من المعنى السرديّ، فقد اتكأ السينمائيون على روائع الأعمال الروائية منذ بدء صناعة السينما، ومن ثَمَّ أفادت السينما من رصيد الرواية العالميّ، ونقلت التأثير ذاته إلى الشاشة السينمائية. أمّا السينما فوسَّعت قاعدة تلقي الرواية، ومدَّت نطاقها إلى متلقين لم يطلعوا على النَّص المكتوب، أو يرغبون في مشاهدة ما قرؤوه على الشاشة، فالعلاقة تبدأ من سياق التلقي. فصانع الفيلم متلقٍ هدفه تجسيد المقروء في لغة سينمائية تصل إلى جمهور مختلف.
إن العلاقة بين الرواية والسينما ليست مجرد اقتباس مباشر، بل هي عملية تحول فني عميق. فكلتا الوسيلتين تحمل قوتين إبداعيتين مميزتين؛ فالرواية تلهم بعمق السَّرد وتعدُّد الشخصيات، بينما السينما تُضفي الحياة على تلك النصوص من خلال تجسيد مرئي قادر على نقل المشاعر والحبكات إلى الجمهور بصورة جديدة.
وبقدر اتفاق الرواية والسينما في فكرة السردية أو صناعة المشهد، فإن كلَّ لونٍ منهما مستقل بوسائله الخاصة. فالرواية تجريدٌ مطلقٌ، ونصٌّ بالكلمات المجردة. وعليه، فإن دور متلقي الرواية يبدأ بتجسيد المجرد من الكلمات إلى صور ذهنية متحركة، ثم ينتقل إلى تأويل مشاهده. بينما متلقي الفيلم السينمائيّ يبدأ من المجسَّد، فيختصر الحركة الذهنية التي تصنع المشهد المتخيَّل، ومن ثَمَّ، ينتقل إلى تأويل المرئيّ.
وفي هذا السياق، جاءت “جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرًا”؛ إذ هي الأحدث بين الجوائز التي تبرز أهمية العلاقة بين الفنون والآداب، وهي فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما. وجاءت فكرة الجائزة من ضرورة العناية بالعلاقة بين الرواية والسينما، وتوفير مادة تصلح للسينما، وتمنح المنتج السينمائي عمقًا سرديًا تفتقر إليه الكتابات الأخرى.
و “جائزة القلم الذهبي” ليست جائزة فحسب، بل هي مؤسسةٌ تقوم بإنتاج أفلام سينمائية للأعمال الفائزة، وهذه خطوةٌ سبقت بها غيرها. واختيار الأعمال يأتي بناء على إتاحة الفرصة لكل المواهب وفرزها وتحكيمها. وهذا يعني أنَّ تجربة الاختيار تتجاوز الذائقة الشخصية عند منتج معين، إلى قراءة جماعية تنظر في ملاءمة العمل الروائيّ للظهور على الشاشة. هذه الممارسة تمنح الجائزة معرفة دقيقة بمدى ملاءمة العمل من زوايا مختلفة. فقد يكون العمل متميزًا فنيًا، لكن إنتاجه مكلفٌ، أو قد يكون النَّص الروائي متميزًا فنيًا، لكنه يفتقر إلى الدراما الكافية التي تناسب صناعة السينما.
وإذا كان من اهتمامات الجائزة تحكيم الأعمال القابلة لنقلها إلى الشاشة، فإنَّ الجائزة لم تهمل أعمال السيناريو أو القصة السينمائية أيضًا؛ أي الأعمال المعدَّة أصلًا للسينما، ولم يسبق أن أخذت من نصوص روائية، فجزء من “جائزة القلم الذهبي” يُخصَّص لكتَّاب السيناريو. وهذا دعمٌ لهذا اللون الفني الذي يُكتب بوعي الصورة منذ البدء.
والقصة السينمائية أو السيناريو من أقل النصوص اهتمامًا بها في ثقافتنا العربية، وفي الغالب لن نجد نصوصًا مطبوعة جاهزة للإنتاج. فالموقف من السيناريو أنه نصٌّ للتنفيذ، وإن كان الأمر لا يخلو من الصحة، فإن الغاية المرجُوَّة هي حفظه وتوثيقه ليكون مرجعًا للباحثين. وقد واجهتني صعوبةٌ عندما كنت أدرس في مرحلة الدكتوراة في الحصول على السيناريو المأخوذ من روايات نجيب محفوظ، فتواصلت مع بعض من كَتَب سيناريو أو أخرج الرواية للسينما، وكلهم لم يوثقوا هذه النصوص السينمائية.
وما تعِدُ به “جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرًا”، وما نتطلع إليه، ليس فقط دخول السيناريو إلى هذه المسابقة المختلفة، بل توثيقه وأرشفته؛ ليكون الوصول إليه ميسرًا. وهذا التوجُّه ينسجم مع طبيعة الجائزة المختلفة في كل شيء، بدءًا من التفاتتها إلى العلاقة بين الرواية والسينما، وانتهاء بوضع السيناريو على خارطة التنافس والتقدير.
هذه هي الدورة الأولى لـ “جائزة القلم الذهبي للأدب الأكثر تأثيرًا”، ولا شك أنها بدأت قويةً من حيث اختراقها لمألوف الجوائز، وكذلك تميزت بخدمتها إعلاميًا وتوسيع نطاقها العالمي. وأهم من ذلك كله، تكريسها للغة العربية؛ حيث إنَّ الأعمال المقدَّمة يجب أن تكون باللغة العربية، ولم تستثنِ من ذلك حتى الأعمال الروائية المترجمة من لغات أخرى، وكأن الدلالة هنا عالمية الخطاب الثقافي العربي، وعليه يُصبح الإنتاج المترجم من لغات وثقافات رائدة متجهًا صوب الثقافة العربية، وهذا أحد أهم المكاسب الخفية للجائزة. فالخطاب الثقافي العربي يتحرك ببطءٍ ليتبوأ المكانة المستحقة في المركز، وربَّما حان الوقت للتفكير في بدائل مغايرة لإعادة التموضع عالميًا وثقافيًا وفكريًا بالوسائل التي يتقنها العالم، ومنها صناعة المحتوى العالمي كما تُقدِّمه هذه الجائزة المختلفة.
اترك تعليقاً