أول ما لفت نظري في الفِلْم الروائي القصير «ثوب العُرس» The Wedding Dress صورته، وإضاءته، ورؤيته التشكيلية، التي دفعتني للبحث في خلفية مخرجه محمد سلمان، التي جعلته يُظهر هذه البراعة، والمهارة؛ بحيث يُحيل الشاشة إلى عالم من السحر، بل لوحات فنية تشكيلية، أقرب إلى تلك التي نراها في معارض أعظم الفنَّانين التشكيليين في العالم!
لم يطل بحثي كثيراً، وسرعان ما وضعت يدي، على السر في ما رأيت، على الشاشة، من جمال، وإبهار؛ فالمخرج الحاصل على بكالوريوس التربية الفنية من جامعة الملك سعود، امتهن التصوير التشكيلي، والتصوير الفوتوغرافي، والتصميم والرسم الرقمي، والتصميم الداخلي، ما أتاح له إبداع عالم خاص، وفِلْم عربي أصيل؛ بدءاً من العنوان، الذي كتبه الخطّاط حسن رضوان بخط عربي جميل، مروراً بتوظيف كاميرا وإضاءة شاكر بن يحمد، والاستعانة بملابس مصممة الأزياء سمية بو خمسين، وإدارته الواعية لطاقم تمثيلي: شيخة زويد وعبدالمحسن النمر، وسالي زاك وفاطمة أبو العينين. امتلك من التلقائية، والمصداقية، بفضل حُسن إدارته، ما جعله يدخل القلوب، ويخلق حالة من الاندماج، وصولاً إلى رؤيته الفكرية الرصينة، التي جعلته يتبنى كثيراً من الرسائل والأفكار، التي تبحث في قضايا جدلية؛ كالجمع بين الأصالة والمعاصرة، وقبول الآخر، وضرورة تنقية التراث من الخرافة، والدعوة إلى التغيير، ومواكبة الجديد والحديث، من دون التخلي عن عاداتنا وتقاليدنا الأصيلة، برؤية دقيقة ومحسوبة، لم تقع في فخ الخطابة، والمباشرة، وهو ما تعجز مقالات عدّة عن طرحه وتمريره، من دون أن تثير عاصفة من الانتقاد والغضب والاتهام بالانقلاب على الموروث!
«ثوب العُرس» و«الكفن»!
في «ثوب العُرس» (فِلْم قصير، 2016م) يعتمد المخرج محمد سلمان على سيناريو كتبته زينب الناصر، يؤكد على ضرورة مراجعة التراث، وتنقيته من الخرافات التي طالته، وتحوّل خلالها «ثوب العُرس»، رمز البهجة، ومناسبة الفرحة والسعادة، والتفاؤل، والتبشير بمستقبل طيب، إلى «كفن»، ومناسبة للحزن، والخوف، والقلق، والكآبة؛ عبر قصة بسيطة، عميقة المغزى، بطلتها «أسمهان» (شيخة زويد) الخياطة الأربعينية الماهرة، التي تُقاوم الاعتقاد السائد بأن ثَمَّة لعنة تُصيب الخياطة التي تخيط «ثوب العُرس»، الذي تحضر به حفل زفاف ابنتها، بعد أن اختطف الموت، من قبل، الخياطتين «خزنة» و«آمنة»!
تواجه «أسمهان» مصيرها، بقوة، وعزيمة، وإرادة حديدية، مع اقتراب موعد زفاف ابنتها الوحيدة «مريم» (سالي زاك) على خطيبها «خالد» (عبدالمحسن النمر)، وفي أجواء غرائبية، كعوالم ألف ليلة وليلة، يمتزج فيها الخيال بالواقع والخرافة، واللغة الفنية الخلَّابة بالبساطة، يعالج «سلمان» قضيته العميقة، بأسلوب أخَّاذ، يواجه فيه الخرافة، لكنه يؤكد على أهمية احترام قناعات الآخرين، وتفنيدها، بهدوء وروية وحكمة، من دون اللجوء إلى القوة، ويخوض معركته الشرسة، موظِّفاً الجمال لمقاومة القبح؛ عبر الأضواء التي تتسلَّل من خلال الزجاج المعشق، والغلالات الرقيقة، التي تخلق شفافية، ورومانسية، والملابس الناصعة، والألوان الزاهية، التي تُشيع البهجة، وتبعث على التفاؤل، مع استثمار حارات وأزقة وسوق مدينة القطيف؛ حيث صور مشاهد الفِلْم، لإضفاء جمالٍ، وأصالة، على الأحداث، فضلاً عن استخدام الموسيقى العذبة، بحيث تُضفي شجناً على قضيته.
فِلْم كبير لمخرج فيلسوف
امتلك سلمان موهبة حلقت بالفِلْم في عالم من الخيال الجميل (مشهد الحلم / الكابوس للبطلة مريم)، ووظف مونتاج صالح ناس ببراعة، ليصنع فِلْماً متدِّفقاً في أحداثه، لاهثاً في إيقاعه، وإن أفرط كثيراً في استخدام المؤثرات الصوتية (الرعد والمطر) بشكل بدائي، وجاءت اللقطة التي استخدم فيها واجهة المبنى، الذي تقطنه «أسمهان» وابنتها، خارج السياق وزائداً على الحاجة، بينما كان يستطيع الإيجاز والتكثيف مثلما فعل في مشهد إقدام «أسمهان» على حياكة «ثوب العُرس»؛ حيث ارتفع صوت ماكينة الخياطة، وكأنها خناجر تكاد تنهش جسدها، وتدهس روحها، وتُنبِّئ بالمصير الذي ينتظرها، كما جسَّد أجواء القلق والترقب وبثها في مشاعرنا، بالاستخدام الذكي للإيقاع وصرخات الطبول، مع اقتراب ليلة العُرس، ووصول المواجهة إلى ذروتها؛ بدخول أسمهان إلى مكان حفل زفاف ابنتها، وقد ارتدت الثوب الذي ابتاعته من السوق، وكذلك الثوب الذي خاطته لنفسها، وكأنها توصلت إلى المعادلة الناجعة التي تقهر بها الخرافة وتهزم بها الموت، وهي الرسالة التي لم يكن المخرج في حاجة لأن يقدِّم شرحاً لها؛ عن طريق صوت «الراوية»، التي استعان بها لتُعين المشاهد على فهم ما يرى أمامه!
«الفن طريقك»
في أحد مشاهد فِلْم «ثوب العُرس» ارتدى «خالد» قميصاً كُتب عليه «الفن طريقك»، والواضح جلياً أن المخرج محمد سلمان، الذي ولد عام 1976م في المنطقة الشرقية بالسعودية، عرف طريقه إلى الفن الجميل الذي يلامس الأحاسيس، ويمس المشاعر والقلوب، بعد ما نجح في الاقتراب من المشاعر الأنثوية لبطلته / المرأة، وامتلك قدراً من الوعي بكيفية تناول قضايا حداثية مثيرة للجدل، وهو ما كان سبباً في تهافت كثير من المهرجانات؛ مثل: مهرجان دبي السينمائي الدولي عام 2016م، مهرجان “أفلام السعودية”، ومسابقة الأفلام القصيرة في الرياض، ومهرجان مالمو السينمائي للفِلْم العربي في السويد، ومهرجان صانعي الأفلام والفنون السينمائية في برلين، ومهرجان “رود آيلاند” السينمائي 2017م، على التسابق لعرض فِلْمه العذب، وترشيحه لجوائز عدة؛ أهمها جائزة أفضل مخرج بمسابقة الأفلام القصيرة بالرياض 2018م. وإن بدت الحاجة مُلِحَّة لمشاهدة أفلامه السابقة: «الخامس والعشرون» (2010م)، و«السيكل» (2012م)، و«شارع خلفي» (2014م)، و«مخيال» (2014م)، و«قاري» (2015م) وفِلْمه الوثائقي «أصفر»، لنتعرَّف أكثر على موهبته، وتطور أسلوبه، وما طرأ عليه من نضج، ووعي.
اترك تعليقاً