مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
سبتمبر – أكتوبر | 2024

ثمانية وجوه لمقدِّمي الورشة


محمد آيت حنا
روائي وأكاديمي ومترجم

قد تبدو وِرش تعلُّم الكتابة حاملةً كل أسباب معارضة الكتابة. الورشة ضدّ الكتابة، من حيث إن الكتابة حريَّة والورشة تقييد؛ الكتابة فكرٌ والورشة عملٌ يحيل ما هو يدويّ، على الصناعة أكثر ممَّا يحيل على الصنعة؛ الكتابة فردانية والورشة عمل جماعي؛ الكتابة استعداد والورشة تكوين؛ الكتابة قديمة والورشة مستحدثة، فهل احتاج الكتَّاب إلى ظهور الورشة لكي يكتبوا؟ غير أن كل هذا التعارض الظاهر، لا يُلغي حقيقة واقعية: “الورشة باقية وتتمدَّد”، الورشة حقيقة وواقع، ينخرط فيه كتَّاب متمرِّسون. والورشة واقعة لها حضور، ولا أدلّ على ذلك من عدد الورش التي ما انفكَّت تتناسل وتتطوَّر، ومعظم المواقف منها هي إمَّا انخراط أو رفض، وكلاهما موقف منفعل، لا يصاحبه نقد فاعل للممارسة.


صور بعض مقدِّمي الورشات

من يحق له أن يقدِّم الورشة؟ هذا هو السؤال الأهم: أهو الأكاديمي، أم المبدع، أم البيداغوجي؟ قد يكون الجوابُ من البداية معروفًا. أفضل من يقدِّم الورشة هو الذي يجمع بين الصفات الثلاث: عُدَّة نقدية أكاديمية، وحِسٌّ إبداعيٌّ صقلته الممارسة، وتمرّسٌ على التعليم والتدريب. بيْدَ أن أي إجابة لن تكون مقنعة إلا إذا عُضِّدت بدراسة “علمية” إحصائية تبيِّن ما الذي حقَّقته الورش طوال عقود من ممارستها.

قد يصعب التفصيل في رسم ملامح مقدِّم الورشة كما ينبغي، لكننا نقترح صورًا لمقدِّم الورشة، استنادًا إلى نماذج من تاريخ الإبداع.

ثمَّة دلائل قديمة على لجوء عدد من الكتَّاب إلى ورش لتعليم الكتابة أو تعلُّمها، وقد يكون أقدم نموذج الخطيب الرّوماني ماركوس كينتيليان، معاصر القيصر نيرون. فقد خلَّف وصفة للكتابة الخطابية، كان يعلِّم الخطباء المبتدئين والأدباء إيَّاها، ولا تزال سارية إلى اليوم وهي وصفة المراحل الخمس:

الاختراع: إيجاد فكرة للكتابة.

الاستعداد: تنظيم الخطاب بحيث يتطوَّر الموضوع تطوُّرًا مُهَيكلًا.

الفعل: الكتابة، لكي يتحوَّل القول إلى فعل.

الذَّاكرة: حفظ الخطاب، لإلقائه دون الاستعانة بالمكتوب.

البلاغة: اختيار طريقة قول الخطاب، بحيث يجذب انتباه المستمع.

قد يكون هذا النموذج، هو النموذج السائد الذي صارت تسنده تقنيات العرض، وبرامج التصميم. إذ يعرض مدير الورشة على المستفيدين بضع لقطات تحمل وصفات جاهزةً للكتابة والتأليف.

خلال تسعينيات القرن الماضي، قدَّم غابرييل غارسيا ماركيز في كوبا سلسلة من الورش في الكتابة السينمائية والروائية، نُشرت لاحقًا في كتاب بعنوان “ورش كتابة: كيف تحكي حكاية؟”. والغاية المُعلنة من تلك الورشات هي تعليم جيل جديد من مؤلِّفي الأعمال التخيلية للتلفزيون. تجنَّب ماركيز في الورشة إلقاء محاضرات أو دروس، تاركًا الحرية للمشاركين في أن يعبِّروا كيفما شاؤوا.

ومع ذلك لم يخلُ الأمر من وصاية تجلَّت في منحهم مفاتيح ما يسمّيه روح الإبداع؛ ولنقُل إنه عمل على اختزال المسافة. ما الذي نقصده من اختزال المسافة؟ إنها تلك الرغبة التي تدفع المعلِّم (المؤلِّف أو المفكِّر) إلى تجنيب المتعلّم الطريق الطويلة التي مرَّ منها هو، حتى وصل إلى ما وصل إليه من نضج. إنها محاولة إنضاج البيضة قبل أوانها؛ إذ يكون مدار الورشة تجنيب الكتَّاب المستجدِّين مزالق الكتابة وأخطاء الشباب.

وهي قضية واحدة، قضية أن الإبداع يمكن أن يُعلّم، عكس أولئك الذين يرون أن الفنَّ موهبة غير قابلة للتعلُّم، والكتابة على وجه التخصيص لا إمكان فيها للمحاكاة أو لنَقْل التجربة. تيوفيل غوتييه، شأنه شأن عدد من الكتَّاب، كان يؤمن بأن الإبداع مسـألة تعلُّم، وأن ثمَّة جملة من القواعد الأساسية للكتابة يمكنك أن تتّبعها وستصير كاتبًا. لهذا قرَّر أن يتحوَّل من كاتب إلى معلِّم كتابة، وظلَّ على هذه الحال حتى وفاته. يقول: “سوف أحيط نفسي بالشباب، وأطلعهم على أسرار الشكل وألغاز الفن. كلُّ شيء في هذا العالم قابل للتعلُّم، ولا يُستثنى الفنُّ من القاعدة”. قد يكون نموذج غوتييه هو النموذج الأكثر احتذاء من طرف مقدِّمي الورش، مع فارق في درجة الإيمان بالقضية. إيمانٌ قد يكون نابعًا من تجربة شخصية. فمعروف أن غوتييه قد بدأ حياته رسامًّا، ولم ينتقل إلى الكتابة إلا عقب لقائه فكتور هوجو، وربَّما كان اللقاء سببًا في قناعة غوتييه بأن الجميع قادر على أن يصير فكتور هوجو، بمن في ذلك هو نفسه.

كانت تجربة “جماعة الأوليبو” بمنزلة “انطلاقة للأدب الممكن”، وكانت ثمرة لقاء جمع عام 1960م الكاتب ريمون كونو بعالم الرياضيات فرنسوا ليوليوني، وقد شكّلت نموذجًا فريدًا لمعنى ورشة الكتابة. فمنذ البداية، سعت الجماعة إلى تعريف نفسها بالنفي، فجزمت القول بأنها ليست حركة أدبية، وليست مجمعًا علميًا، وليست أدبًا عشوائيًا. فما هي إذًا؟ هي مختبر يسعى إلى الكشف عن إمكانات اللغة والكتابة، عبر إخضاعها لتجارب ما يُسمَّى بالكتابة تحت الإكراه. فكان يُطلق تحديات ينبغي لجماعة الكتَّاب المنتمين إلى “الأوليبو” أن يضطلعوا بها. مثلًا، الكتابة دون استعمال حرف من أحرف اللغة، أو كتابة مشهد واحد بتسعة وتسعين أسلوبًا مختلفًا. وذلك ما فعله ريمون كونو في كتابه “تمرينات في الأسلوب”. إن هذا النوع من الوِرش يتميز بخاصيتين اثنتين، أولاهما أن المشاركين جميعهم كتَّاب، ومن ثَمَّ تنتفي أي تراتبية بين مدير الورشة والمتدرِّبين؛ بل إن مدير الورشة نفسه جزء من الاختبار، فهو أيضًا يجرِّب إمكانات لغته، ويحاول ابتكار شيء لا يعلمه مسبقًا. الغاية من هذا النوع من الوِرش هو تجاوز التعليم والتلقين، إلى التغيير في أنماط الكتابة وتقصي حدود اللغة.

قد يكون جورج بيريك أشهر كاتب في “جماعة الأوليبو”، فهو الذي استطاع من بين أفراد الجماعة كلهم الذهاب باللغة إلى حدودها القصوى، ووصل بالتجريب إلى أبعد مداه. على سبيل المثال كتب رواية صارت من كلاسيكيات التجريب الفرنسي، وتحمل عنوان “الاختفاء”، لم يستعمل فيها مطلقًا حرف E، مع أنه الحرف المركزي في اللغة الفرنسية. غير أن بيريك لم يكن يشتغل في تعاضد أو تنافس مع أعضاء المختبر سعيًا إلى إنتاج شيء ما، بل كان يخوض تجربة الورشة منفردًا، بعد أن يُطلق التحدي على نفسه، ويُشهِد عليه المتلقّين. كان يحوِّل الجميع إلى متتبّعين لمراحل الورش، وإلى جمهور يتابع عزفَه المنفرد.

في روايته “قانون الحالم” يقدِّم دانيال بيناك نماذج للكتابة في إطار ورشة. نماذج من المؤكد أنه استعملها مع متدرِّبين ومتعلِّمين: كيف تكتب انطلاقًا من تدوين حلم؟ كيف تتخلَّص من ثلثي ما تكتبه؟… إلخ. إنه نموذج حيٌّ للدهاء والذكاء الأدبي، للكاتب الذي يأتي إلى الورشة وفي نيَّته أن تتحوّل الورشة نفسُها إلى موضوع للكتابة.

لعلَّ إحدى مفارقات البيداغوجيا الأساسية أنها دائمًا ما تذهب عكس الممارسة. أعظم المدرِّسين هم أولئك الذين لا يدَّعون تنظيرًا كبيرًا في مجال التدريس، وحتَّى إن ادّعوه فإنهم في تدريسهم غالبًا ما يسيرون عكس تنظيراتهم. والأمر نفسه ينطبق على معظم الكتَّاب. ولنا مثل في إيريك إيمانويل شميث، وهو أحد أكثر الكتَّاب الفرنسيين الذين يقدِّمون ورشات كتابة، لكن كتاباته أصلًا ضد القواعد وضد اتباع منهج مسبق. ربَّما ينطلق هذا النوع من الورشات من إيمان بأن ثمَّة فصلًا ضروريًا بين تعلُّم الكتابة وبين الكتابة نفسِها؛ ذلك أننا إمَّا نعلِّم المُقبلين على الكتابة القواعدَ الأساسية التي لن يستطيعوا الكتابة إلا بتكسيرها وتجاوزها، أو ربَّما يَنطلق مقدِّم الورشة من مسلَّمة أن الورشة غير موجَّهة إلى الكتَّاب، بل إلى من يسعون إلى أن يكونوا كذلك، ولن يكونوا أبدًا!

قد يكون تعسّفًا منا إضافة راينر ماريا ريلكه إلى قائمة كتَّاب الوِرش. لكن يشفع لنا أن الورشة قد تُؤخذ أيضًا بمعناها المفتوح؛ ورشة لا يحدُّها مكان، موجّهة إلى عموم الكتَّاب. ونقصد في هذا الجانب تحديدًا، الكتَّاب الذين يخلِّفون كتبًا هي أشبه بوصايا تختزل تجاربهم، يريدون من المؤلفين أن يتقفَّوها. وقد يكون كتاب “رسائل إلى شاعر شاب” لريلكه، أشهر الكتب من هذا الصنف. والجميل مع هذا النّوع من الكتب أو الوِرش، أنها أقل خنقًا للإبداع، لا سيَّما أنها سرعان ما تتحوَّل من وصايا أدبية إلى كتب إبداعية تُقرأ للمتعة والتأمل!


مقالات ذات صلة

تطرح “القافلة” قضية ظاهرة الورش الإبداعية وجدواها على الأرضية السليمة للنقاش.

مُقاربة المسألة من زاوية التجربة الشخصية في موقعين: موقع المتدرّب، وموقع المدرّب في ورشة.

قد يبدو مفهوم “الورشة” غريبًا عن اللغة العربية والثقافة العربية. لكن مفهوم التدريب العملي على حرفة الأدب غير دخيل علينا. ففي ذاكرة الأدب العربي واقعتان تقولان عكس ذلك.


0 تعليقات على “ثمانية وجوه لمقدِّمي الورشة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *