شكل اختراع التلسكوب منذ تقديم أول براءة اختراع له عام 1608م في هولندا، قفزة استثنائية في الرصد الفضائي. وقاد إلى معارف جديدة في فهمنا للمجموعة الشمسية وموقع الأرض بالنسبة إلى الكون. وتقول الدكتورة أمبر سترون، عالمة الفيزياء الفلكية في وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا): “ستمكننا آخر إنجازاته من النظر إلى المجرّات الأولى التي ولدت قبل 13.5 مليار عام – أي كل شيء يتعلق بالوقت والفضاء والكون”.
منذ الاختراع الأول، أخذت التلسكوبات الأرضية تتطور تدريجيًّا، لكنها واجهت تحدياتٍ كبيرةً بسبب الغلاف الجوي الذي يمنع طيفًا واسعًا من الأشعة الكهرومغناطيسية من الوصول إلى الأرض. ومع انطلاق الإنسان إلى الفضاء، مكّنت أبحاث العلماء خلال القرن العشرين من تجاوز تلك التحديات بتطوير التلسكوبات الفضائية. وأهم هذه التلسكوبات هو أحدثها: تلسكوب جيمس ويب الفضائي، الذي يعمل في نطاق الأشعة تحت الحمراء.
لماذا الأشعة تحت الحمراء؟
الأشعة تحت الحمراء هي جزء من الموجات الكهرومغناطيسية، وسرعتها هي نفس سرعة الضوء، أي حوالي 300 ألف كيلومتر في الثانية، وتتميز بطول موجي أكبر من الضوء المرئي مثلًا. ومن المعروف أن ضوء النجوم والمجرات الذي يأتي إلينا من مسافات بعيدة، نتيجة التوسع الكوني، ينزاح إلى الأطوال الموجية الأكبر؛ وهو ما نسميه بالانزياح نحو الأحمر (Redshift ). ولهذا السبب بالذات، تحتاج رؤية النجوم والمجرات البعيدة، التي تشكلت في بدايات الكون، إلى تلسكوب قوي يعمل بالأشعة تحت الحمراء.
تتميز الأشعة تحت الحمراء في اختراقها للغبار الكوني بحرية أكبر من الضوء المرئي. وهذا يعني أن التلسكوب البصري، الذي يعتمد في عمله على الضوء المرئي، لا يستطيع رؤية نجم محاط بالغبار. ولهذا السبب، يستطيع تلسكوب جيمس ويب رؤية ما يقرب من 100 إلى 250 مليون سنة بعد الانفجار العظيم. إضافة إلى ذلك، فإن عديدًا من الأجسام في الكون باردة وخافتة للغاية بحيث لا يمكن اكتشافها في الضوء المرئي؛ لذلك فإن الأشعة تحت الحمراء تقدِّم حلًّا ناجعًا لاكتشاف هذه الأجسام الباردة.
تاريخ تلسكوب جيمس ويب
زُرعت البذور الأولى لمشروع تلسكوب جيمس ويب قبل إطلاق تلسكوب هابل الفضائي في سبعينيات القرن العشرين بفترة قصيرة. وتساءل علماء الفلك حينها: ما الخطوة التالية بعد تلسكوب هابل؟ ولاحقًا، درسوا هذه الفكرة من خلال ورشة عمل حول ما سموه “التلسكوب الفضائي للجيل القادم”، عقدت في شهر سبتمبر من عام 1989م، في معهد علوم التلسكوب الفضائي وبمشاركة ناسا، شارك فيها أكثر من 130 من علماء الفلك والمهندسين. وبعد ذلك بفترة زمنية قصيرة، وضعت التصاميم الأولى للتلسكوب. وفي عام 2002م، أُعيدت تسميته إلى تلسكوب جيمس ويب الفضائي، وذلك تقديرًا لمدير ناسا في ستينيات القرن العشرين، الذي قاد برنامج أبولو. وفي عام 2004م، بدأ العمل على بناء هذا المشروع الضخم بتكلفة مالية بلغت عشرة مليارات دولار، ويمثل شراكة دولية بين ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية ووكالة الفضاء الكندية.
الأجزاء الرئيسة
يحتوي التلسكوب على مرآة مقعرة يبلغ طول قطرها 6.5 أمتار، تتألف من 18 مرآة سداسية. ويعود سبب ذلك إلى أن الشكل السداسي يملأ الفراغات ولا يسمح بوجود الفجوات بين المرايا، كما أنه أقرب ما يكون إلى شكل الدائرة. وقد صنعت المرآة من مادة البريليوم خفيفة الوزن جدًّا، وتم طلاؤها بالذهب بسبب قوته في عكس الأشعة تحت الحمراء. إضافة إلى ذلك، يحتوي تلسكوب جيمس ويب على مرآة ثانوية مستديرة ومحدبة يبلغ قطرها 0.7 متر. فعندما تسقط الموجات الكهرومغناطيسية على المرآة الأساسية تنعكس وتصطدم بالمرآة الثانوية الأصغر، التي بدورها توجهها إلى الأدوات الحساسة.
قفزة عملاقة في فهمنا للكون أدهشت العالم، وحفّزت الحكومات على مزيد من الانخراط في أنشطة استكشافه
كما يحتوي هذا التلسكوب على واقٍ شمسي بمساحة ملعب التنس، وهو عبارة عن درع حماية له من ضوء وحرارة الشمس والأرض والقمر. ويتألف هذا الدرع من خمس طبقات رقيقة مفصولة بالفراغ، ومكوّن من مادة خفيفة الوزن ذات خصائص حرارية مميزة تسمى الكابتون (Kapton)، مغطاة بالألمنيوم والسليكون بهدف عكس أشعة الشمس إلى الفضاء. ويعمل الواقي الشمسي على توفير بيئة شديدة البرودة تصل إلى 332 درجة مئوية تحت الصفر؛ إذ يجب أن تكون حرارة تليسكوب ويب ناقص 223 درجة مئوية على الأقل. وبالتالي، فإن الفرق بين درجتي الحرارة على جانبي التلسكوب الساخن والبارد كبير جدًّا، حتى ليمكنك غلي الماء تقريبًا على الجانب الساخن وتجميد النيتروجين على الجانب البارد.
ويحمل تلسكوب جيمس ويب الفضائي أدوات مهمة مثل هوائي الاتصالات وجهاز الكمبيوتر والأدوات والأجهزة الأخرى اللازمة. كما تم تزويده بمصفوفة من الألواح الشمسية تحوّل ضوء الشمس إلى كهرباء. وبالنظر إلى حجم التلسكوب الكبير، فقد صُمّم هيكله بشكل يجعله قابلًا الطي، حتى يسهل تحميله في مقدمة الصاروخ الذي سيضعه في مداره المحدد.
تم إطلاق صاروخ أريان 5 الذي يحمل تلسكوب جيمس ويب بتاريخ 25 ديسمبر 2021م، باتجاه نقطة لاغرانج الثانية ( L2)، التي تتعادل فيها جاذبية الشمس والأرض مع قوة الطرد المركزية للتلسكوب، وتبعد 1.5 مليون كيلومتر عن الأرض. وما يميز هذا المدار هو أنه يتيح للتلسكوب البقاء على نفس الخط مع الأرض أثناء دورانها حول الشمس، بحيث تحدق المرآة الأساسية في ظلام الفضاء السحيق. وهذه النقطة كانت موقعًا مثاليًّا لعديد من التلسكوبات الفضائية الأخرى مثل تلسكوب هيرشل الفضائي التابع لوكالة الفضاء الأوروبية، الذي أطلق في عام 2009م.
صور مدهشة
مع أن عملية إطلاق تلسكوب جيمس ويب حدثت في شهر ديسمبر من عام 2021م، إلا أن وصوله استغرق عدة أشهر تم خلالها إجراء عمليات معقدة؛ حتى يصل إلى حالة الاستقرار ويكون جاهزًا لبدء مهمته العلمية. ففي شهر يوليو من العام الجاري، وبعد ستة أشهر من إطلاقه، أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية عن الصور الخمس الأولى التي التقطها هذا التلسكوب. فكان ذلك إيذانًا بدخولنا حقبة جديدة في علم الفلك.
1 – العنقود المجري المعروف باسم ( SMACS 0723)، الذي يحتوي على آلاف المجرات، بعضها يبعد 13.1 مليار سنة ضوئية، أي بعد الانفجار العظيم بـ 700 مليون سنة فقط! وتُعدُّ هذه الصورة أعمق وأدق صورة حتى الآن.
2 – طيف ضوئي يحتوي على معلومات حول الغلاف الجوي لكوكب غازي عملاق اسمه (WASP-96 b)، يدور حول نجم ويبعد عن الأرض 1150 سنة ضوئية. ومن الملاحظ وجود بخار الماء في غلافه الجوي، وهذا يمثل قفزة نوعية في السعي للبحث عن الكواكب التي يحتمل أن تكون صالحة للحياة خارج كوكب الأرض.
3 – السديم الكوكبي (NGC 3132) الذي يعرف باسم سديم الحلقة الجنوبية، ويبعد حوالي 2500 سنة ضوئية. وهو عبارة عن سحابة كبيرة من الغاز والغبار تحيط من جميع الاتجاهات بنجم يحتضر. فعندما تصل النجوم إلى نهاية حياتها فإنها تطلق الغاز والغبار الذي يشكِّل السدم، وسوف يساعد تلسكوب ويب الباحثين إلى معرفة أدق لطبيعة السدم الكوكبية.
4 – خماسية ستيفان، وهي مجموعة من خمس مجرات تبعد عن الأرض 290 مليون سنة، اثنتان منها في طور الاندماج. وحيث إن الصورة التُقطت بالأشعة تحت الحمراء فقد أظهرت تفاصيل غير مسبوقة في هذه المجموعة من المجرات، من بينها النجوم الشابة وحديثة الولادة وأماكن ولادة هذه النجوم.
5 – سديم كارينا، ويُعدُّ حاضنة للنجوم، ويبعد عن الأرض 7600 سنة ضوئية. ويُعدُّ سديم كارينا أرضًا خصبة لعلماء الفلك في دراسة المواليد النجمية.
ناسا والمملكة العربية السعودية
بالتزامن مع هذه التطورات المذهلة، وقَّعت المملكة العربية السعودية بتاريخ 14 يوليو من العام الجاري مع ناسا اتفاقية أرتميس في مجال الاستكشاف الفضائي. فقد انبهرت الصروح العلمية وجميع دول العالم بهذه المكتسبات الكبيرة التي تحققت في مجال علم الكونيات؛ مما انعكس إيجابًا بارتفاع وتيرة الاهتمامات من قبل حكومات العالم باستكشاف الفضاء والاستثمار في هذا القطاع الواعد.
تم توقيع الاتفاقية في مدينة جدة، وقد مثّل الجانب السعودي الرئيس التنفيذي للهيئة السعودية للفضاء الدكتور محمد بن سعود التميمي، بينما مثّل الجانب الأمريكي مدير ناسا السناتور بيل نيلسون، الذي عبَّر عن سعادته الغامرة بالاتفاق مع المملكة. وعبرت ناسا عن أملها في أن تنضم العديد من الدول خلال الأشهر والسنوات المقبلة إلى هذا البرنامج الطموح، الذي يسعى إلى التوسع السريع للبشرية في الفضاء والانطلاق نحو القمر والعوالم الأخرى.
وسيشكل تلسكوب جيمس ويب الفضائي قفزة عملاقة في سعينا لفهم الكون بشكل أفضل، وسيقدم لنا رؤية عميقة لتشكل النجوم والمجرات الأولى بعد ولادة الكون. وربما يفاجئنا خلال المستقبل القريب في الإجابة عن أحد أهم الأسئلة في العلم: هل هناك حياة خارج كوكب الأرض؟
إن علم الفلك مدهش حقًا، فمنذ اللحظة التي أدار فيها جاليليو تلسكوبه لرؤية أقمار المشتري وحتى أيامنا هذه، ونحن نرى باستمرار ما هو مدهش أكثر من كل ما سبقه.
مقال جميل جداً ، شعرت فيه بأن المجرات لها لغة في التواصل و ربما يكون *تلسكوب جيمس ويب الفضائي* هو المتحدث الرسمي عن مجرتنا بلغة الأشعة تحت الحمراء ..
شكراً للقافلة
شكراً للكاتب أ. حسن الخاطر
“…على توفير بيئة شديدة البرودة تصل إلى 332 درجة مئوية تحت الصفر”
أقل درجة حرارة هي ٢٧٣ مئوية تحت الصفر او صفر كلفن، ولذا وجب التنويه.