مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
مايو – يونيو | 2019

تقنية “بلوكتشين”
ما هي، كيف تعمل، وآفاقها


د. أبوبكر سلطان

ازداد الحديث في الآونة الأخيرة عن تقنية “بلوكتشين” والعملة الرقمية المُشفرة “بيِتْكوين” التي استولت على اهتمام الأسواق لارتفاع أسعارها وتقلباتها الكبيرة. وارتباط شهرة “بلوكتشين” بالعملات الرقمية ليس مستغرباً، نظراً لأن هذه العملات كانت التطبيق الأكبر والأول لهذه التقنية، على الأقل حسبما راج في وسائل الإعلام، حتى إن اسم “بلوكتشين” أصبح مرادفاً للعملات المشفّرة، وهذا غير صحيح.
فما هي هذه التقنية؟ كيف تعمل؟ وما هي تطبيقاتها المحتملة؟

تعتمد تقنية “بلوكتشين” على التشفير لتأكيد المصداقية والأمن، وتتميز بإجراءات غير مركزية ومقاومة للعبث ورفع الإنتاجية، الأمر الذي يتيح تطبيقات واعدة في مجالات استراتيجية، مثل الخدمات المصرفية والرعاية الصحية والزراعة والتصويت وسلاسل التوريد المعقدة والطاقة والملكية الفكرية والإدارة والهويات الرقمية وينطبق ذلك على القطاع الحكومي أيضاً. وتقضي طريقة التشفير هذه إنشاء رموز تحمي سرية البيانات فيُحوّل التشفير البيانات إلى صيغة يمكن قراءتها وفك رموزها بواسطة المستخدمين المصرح لهم فقط. ويمكن أن تنتقل البيانات بأمان من دون فك تشفيرها وانتهاكها من جهات غير مصرح لها. ويجوز للجهات المعتمدة فك تشفير البيانات باستخدام “مفتاح”، وهو رمز خاص مناظر للرموز ومعروف فقط للمستخدم المصرح به.

تقنية “بلوكتشين” قد تكون أحد أكثر الابتكارات “الإلغائية” منذ اختراع الإنترنت. بمعنى أنها ستلغي تماماً التقنيات والأساليب السابقة لها، مثل الذكاء الاصطناعي و“إنترنت الأشياء” وكاميرات الموبايل.

ويزعم كثير من المراقبين أن تقنية “بلوكتشين” قد تكون أحد أكثر الابتكارات “الإلغائية” منذ اختراع الإنترنت. بمعنى أنها ستلغي تماماً التقنيات والأساليب السابقة لها، مثل الذكاء الاصطناعي و”إنترنت الأشياء” وكاميرات الموبايل. ويشير التقييم المبدئي لحالات الاستخدام الحالية إلى إضافة قيم اقتصادية كبيرة، تُقدر ما بين 70 و85 بليون دولار، إلا أن جدوى التأثير وفرص التنفيذ تختلف بشكل كبير بين التطبيقات، الرسم (1).

ويوجد حالياً حوالي 60 حالة استخدام ناشئة في عديد من الصناعات، بموازاة التركيز الأساسي على الخدمات المالية (حوالي %40). واكتسب الاستثمار في “بلوكتشين” زخماً (حوالي بليون دولار خلال الـ 24 شهراً الماضية)، ومن المتوقَّع أن يستمر هذا النمو باطراد. وهناك حوالي %70 من المؤسسات المالية في مراحل تجربة هذه التقنية. ويُقدر أن ينمو الإنفاق العالمي على تطبيقات تقنية “بلوكتشين” من حوالي 1.5 بليون دولار في عام 2018، إلى أكثر من 12 بليون دولار في عام 2022. كما أن القيمة السوقية لهذه التقنية التي كانت نحو 228 مليون دولار عام 2016، سترتفع إلى 5,340 مليون على عام 2023 بمعدل نمو مُركب يصل إلى %57.6، الرسم (2).

من أبرز العثرات التي واجهت تقنية “بلوكتشين” تراجع الثقة بالقدرة على حل المشكلات الفنية الناجمة عن تبني هذه التقنية، وقابليتها للتوسع والاستخدام.

وتبحث مؤسسات كثيرة في تبني نماذج “بلوكتشين” خاصة بها، غير العملات المُشفرة (التي بلغ الفاعل منها حوالي 25 الآن)، إذ شكَّل القطاع المالي أكثر من %60 من القيمة السوقية العالمية لتقنية “بلوكتشين” في عام 2018. لكن هذه التقنية امتدت إلى الجهات الحكومية -التي تتميز بالمركزية الشديدة والبيروقراطية على العكس من نموذج “بلوكتشين” – من أجل التعاون داخلها وفيما بينها، ولتقليل عمليات الاحتيال والأخطاء وتكاليف الهوس بالعمليات كثيفة الأوراق. وارتفعت التوقعات إلى درجة أن البعض يترقب انتهاء دور الحكومات في المستقبل، إذ توفر هذه التقنية الناشئة إمكانية إعادة هندسة الاقتصاد والأعمال وتمكين أسواق ومنتجات، كانت خاسرة من قبل، من رفع الإنتاجية. كما تقدِّم هذه البنية الفريدة تعاوناً سلساً بين أعضاء الشبكة، أكانوا بشراً أم أجهزة ذكية على “إنترنت الأشياء”، مما يتيح لهم تبادل معلومات أو قيم من دون الحاجة إلى وسيط مركزي. ومع ذلك، ما زالت “بلوكتشين” في وقت مبكر من مراحل النمو، وسوف تحتاج من 3 إلى 5 سنوات للتغلب على التحديات والمخاطر الفنية والتنظيمية، قبل أن ينضج تأثيرها وقابليتها للتنفيذ. لذلك ظل نصف المؤسسات تقريباً في حالة “انتظر وراقب”.

متوسط فرص “بلوكتشين” حسب القطاعات
الرسم (1): فرص استثمار إمكانات تقنية “بلوكتشين” في قطاعات مختلفة أبعد من العملة الُمشفرة، وتفاوت مستويات التنفيذ والتأثير.

مسار هذه التقنية إلى النضج
لاحظ استطلاع لآراء مديرين تنفيذيين عام 2019، أن %5 فقط منهم صنفوا “بلوكتشين” بأنها تقنية فاعلة لتغيير مؤسساتهم. وهذا أقل بكثير من التقدير الذي ناله الذكاء الاصطناعي، أو حوسبة السحابة، أو البيانات الضخمة. وقال %11 منهم إنهم قاموا أو سيقومون بتطبيق “بلوكتشين” في الأشهر الاثني عشر المقبلة. ويبين الرسم (3) منحنى الضجيج حول توقعات تطبيقات “بلوكتشين” في القطاعات المختلفة عبر الزمن، من الابتكار حتى الاستواء على هضبة الإنتاجية، مروراً بقمة التوقعات الضخمة، ثم انخفاض التوقعات، ثم مرحلة التنوير والاستبصار.
وفي الرسم نفسه، يُشير تطبيق النقود الخضراء إلى استخدام “بلوكتشين” لتمويل المساعي الإيكولوجية في تعزيز الاقتصاد البيئي الأخضر منخفض الكربون. أما نظام “غرفة المقاصة الآلي” الإلكتروني فيسمح بتبادل المدفوعات صغيرة القيمة فيما بين البنوك المحلية في دولة ما وتسوية إجمالي قيم المدفوعات بالخصم والإضافة لحسابات هذه البنوك طرف بنك التسوية، الذي يلعب دوره في أغلب الأحيان البنك المركزي للدولة. ويمكن لعقود “ريكارديان”، وهي وسيلة تسجيل مستند كعقد قانوني، ربطه بشكل آمن مع أنظمة أخرى آمنة، مثل المحاسبة. أما “الاقتصاد المبرمج” فهو رؤية ثورية للاقتصاد المستقبلي، حيث قد تحل الأنظمة اللامركزية محل الأنظمة المركزية والعكس صحيح. ويُمثل “الاقتصاد القابل للبرمجة” تحولاً هائلاً في الاقتصاد العالمي التقليدي ممكّناً بالتقانات الإلغائية (مثل “بلوكتشين” و”إنترنت الأشياء”)، أي اللاغية للتقنيات والمفاهيم التقليدية، حيث يتمكَّن الأفراد والآلات الذكية من تحديد قيمة المنتجات والخدمات وكيفية تبادلها.

الإنفاق العالمي على “بلوكتشين”
الرسم (2): توقُّع نمو الإنفاق على تقنية “بلوكتشين” بمعدل %57.6 خلال الفترة من 2017 إلى 2022.

انطلقت تقنية “بلوكتشين” المبتكرة حين نُشرت مقالة عام 2008، باسم مستعار مجهول هو “ساتوشي ناكاموتو”، تقترح إنشاء أول نظام رقمي مُشفّر غير مركزي لعملة افتراضية جديدة تُسمى “بِتْكوين” للتبادل بين النظراء على الإنترنت، ولا تعتمد على البنوك كوسيط. وعلى الرغم من أن هذا النوع من العملة كان مثيراً، إلا أن تقنية “بلوكتشين” (التي تعمل بها هذه العملة)، كانت الفكرة الثورية في المقالة. وخلال السنوات الخمس التالية، انتشر ضجيج الحديث عن هذه التقنية وظهرت عملات رقمية مُشفّرة أخرى كثيرة.
وتضخمت التوقعات بظهور عملة ثانية هي “إيثريوم” في عام 2014، التي وصلت بقيمتها السوقية إلى مستويات مجنونة في عام 2017 حين استحوذت على هوس المضاربين. إذ إن التوقعات في الفترة الزمنية الممتدة من 2014 إلى2017 وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، فظهرت مئات الشركات، وبلايين الدولارات المستثمرة في “بلوكتشين” من دون وعود تذكر.
غير أن الغالبية العظمى من هذه المشاريع انتهى إلى الفشل، كما أن كثيراً منها كان مجرد عمليات قامت على استغلال التوقعات المتفائلة عند جمهور غير مطلع كفاية. ومع ذلك، تحققت بعض النجاحات، ووجدت شركات متعدِّدة الجنسية في قطاع البنوك والتأمين والعناية الصحية حلولاً في هذه التقنية. وتعمقت البحوث التطويرية في استكشاف إمكاناتها في العالم الواقعي. وتوسع الحديث عن الطبيعة الثورية المحتملة لتقنية “بلوكتشين” ليشمل شريحة أكبر من الجمهور ومجتمع الأعمال. وجرى النظر إلى التقنية على أنها الدواء الشافي لكل مشكلة معروفة في العالم، وأصبحت موضوعاً ساخناً في مجتمع تقنية المعلومات والأعمال.

أ‌. عثرات على طريق الانطلاقة
غير أن عام 2018 كان دراماتيكياً على صعيد الثقة بهذه التقنية. ومن أبرز العثرات التي واجهت تقنية “بلوكتشين” نذكر:

  • الشكوك التي سادت المشاعر العامة.
  • فشل المشروعات بمعدلات عالية.
  • تراجع الثقة بالقدرة على حل المشكلات الفنية الناجمة عن تبني هذه التقنية، وقابليتها للتوسع والاستخدام.
  • بقاء حالات استعمال “بلوكتشين” المتاحة للجمهور قليلة نسبياً عند مقارنتها بمستوى ضجيج الحديث عنها. ويرجع ذلك إلى انخفاض تمويل المشاريع المحفوفة بالمخاطر، والهبوط الشديد في أسعار العملات الرقمية المُشفرة بمعدلات وصلت إلى حوالي %76 من قيمتها، وفقد عدد كبير من المستثمرين أموالهم، مما أدى بدوره إلى تراجع الآمال في التقنية.
  • تراجع التمويل اللازم، بفعل شكوك واسعة النطاق حول فرص الاحتيال وطبيعة المضاربات المحفوفة بالمخاطر. وأثبتت البحوث والتطوير أن الانتقال من مرحلة ما بعد “تثبّت المفهوم” إلى “مرحلة التجريب” كان بطيئاً وصعباً بسبب وجود فجوة في المعرفة.
دورة الضجيج حول “بلوكتشين”، يوليو 2018
الرسم (3): منحنى الضجيج حول توقّعات تطبيقات “بلوكتشين”، لفهم كيف تنمو التقانات الناشئة وتتصرف في رحلتها إلى النضج والتنوير. (النقاط الملونة للتطبيقات تشير إلى المدى الزمني للتوقعات).

ب. العودة المتفائلة إلى مسار تطويرها
غير أن الأشهر القليلة الماضية شهدت بوادر إيجابية تشير إلى اتجاه هذه التقنية إلى النضج. ومع ذلك، فإن المدة التي سيستغرقها النضج غير معروفة على وجه التحديد. إذ إن متوسط فترة نطاقات حضيض التوقعات للتقانات الناشئة يتراوح بين سنتين وأربع سنوات بصفة عامة، بينما تنضج بعض الابتكارات سريعة الحركة بشكل أسرع (انخفاض الفترة من ستة إلى اثني عشر شهراً). وهناك عديد من الأمثلة للتقانات التي فشلت في الانطلاق مثل “النطاق فائق العرض” و”أر.إس.إس”، وهذه الأخيرة هي وسيلة كان يعوّل عليها لتمكين البرمجيات والنظم المختلفة من استخدام المحتوى الذي تنشره غيرها من النظم والتطبيقات لتمكين المستخدمين من متابعتها من دون الحاجة إلى زيارة كل موقع منها على حدة، واستغرق البعض الآخر، مثل التعرف على الكلام، عقوداً للوصول إلى مرحلة النضج الكامل.
ولعل تقنية “بلوكتشين” أظهرت علامات مرتبطة عادةً بالتقانات الناشئة في مرحلة “منحنى التنوير”، نذكر منها:

  • قيام الشركات بتحسين المنتجات على أساس ردود الفعل في وقت مبكِّر، فأصبحت هذه التقنية مفهومة أكثر ومستخدمة على نطاق أوسع من السابق، وتحصل حالياً على تمويل متزايد للتجارب الإرشادية. للانتقال بعدها إلى مرحلة الإنتاج.
  • جذبت تقنية “بلوكتشين” شركات التقنية العملاقة ومنتجي السيارات الذكيّة ذاتية القيادة أيضاً إلى ما هو أبعد من الإنتاج التجريبي، مثل تطوير المعايير والمشاريع الرائدة والبرمجيات مفتوحة المصدر خلال العام الحالي 2019 والعام المقبل.
  • تقوم معظم شركات “فورتشون 500” الكبرى، من قطاعات التأمين والتمويل إلى البيع بالتجزئة والتصنيع، بتطوير خدمات تجريبية وحقيقية باستخدام تقنية “بلوكتشين”. ومعروف أن فورتشون 500 (Fortune 500) هي قائمة بترتيب أعلى 500 شركة مساهمة أمريكية تقوم بنشرها مجلة “فورتشون” سنوياً.
  • تتخذ الجهات التنظيمية في عديد من الدول خطوات حقيقية للقضاء على عمليات الاحتيال، كما تنشر أوراقاً بحثية ومعايير ولوائح جديدة. وكانت سويسرا واحدة من أولى الدول التي بدأت في بناء إطار تنظيمي لمشاريع “بلوكتشين”. واقترحت تقليل اللوائح إلى الحد الأدنى مع الحفاظ في الوقت نفسه على الشركات النشطة من خلال “صناديق الحماية”، و”صندوق الحماية” هو مصطلح في مجال أمن الحاسبات يشير إلى تخصيص أحد البرامج بعيداً عن البرامج الأخرى، وفي بيئة منفصلة، بحيث إذا حدثت أخطاء أو مشكلات أمنية، فلن تنتشر تلك المشكلات إلى مناطق أخرى في الحاسب. وتسمح صناديق الحماية للشركات الناشئة بالتجربة والابتكار ضمن ظروف خاضعة للرقابة. كما تقوم كل من بريطانيا وسنغافورة باستكشاف البيئة التنظيمية لتقنية “بلوكتشين” والتشفير أيضاً، حيث تتُوفر منصة تمكن الشركات من التجربة وفقاً للشروط التنظيمية والتراخيص المخففة. ونشر مجلس اللوردات في برلمان المملكة المتحدة أيضاً تحقيقاً حول التشفير كأصول.
  • قيام مجموعة العشرين، والاتحاد الأوروبي، وعديد من الهيئات الأخرى بتنفيذ اللوائح الجديدة التي ستحفز الابتكار في قطاع “بلوكتشين”. ففي الولايات المتحدة، نشر مكتب المدعي العام في نيويورك مؤخراً دراسة شاملة وإيجابية حول أسواق التجارة الافتراضية والعملات المُشفرة، ويطلب التقرير الضغط على البورصات للتحرك نحو مزيد من الشفافية وحماية المستهلك بشكل أفضل.
  • إعلان بعض البنوك متعدِّدة الجنسيات أنها ستقدِّم حلولاً للحماية التشفيرية للاستثمار بأمان في العملات المشفرة بطريقة منظمة وآمنة.
  • ظهور شركة رائدة في أمن العملات المُشفرة، تمت الموافقة عليها من قبل شركات الخدمات المصرفية العامة، مما يجعلها أول وصي مؤهل مصمم خصيصاً لأمن الأصول الرقمية. ويبزغ بسرعة الجيل الثالث من “البلوكتشين” في العملات المُشفّرة لحل بعض القيود الفنية. وتعالج هذه المنصات مثبطات الاستخدام والتوسع والتشغيل البيني وأنظمة التخزين والحوكمة.
  • ومن ناحية المعرفة، أضافت الجامعات مقررات عن “بلوكتشين” والعملات المشفرة إلى مناهجها الدراسية مع زيادة الطلب على الوظائف المرتبطة بها إلى مستويات قياسية. واتضح أن %42 من أفضل 50 جامعة في العالم تقدِّم الآن مقرراً واحداً على الأقل في “بلوكتشين” أو التشفير.

قد يرغب المستثمرون المحافظون ذوو الميول منخفضة المخاطر في الانتظار حتى تصبح التقنية الناشئة أثبت وأنضج. في حين يمكن للمستثمر المخاطر والذي يبحث عن مكافآت كبيرة، إجراء استثمارات مباشرة بعد حدوث طفرة في التقنية خلال ذروة التوقعات الضخمة. ولكن، لا أحد يعرف بالتحديد متى تنضج تقنية “بلوكتشين” وتصل إلى الاعتمادية. إذ يرى بعض الخبراء أن ذلك سيحصل خلال 2020 – 2021، بينما يتطلع آخرون إلى عام 2025 كإطار زمني أكثر واقعية. ومع ذلك، الأمر الذي أصبح أوضح من أي وقت مضى هو أن هذه التقنية تسير على الطريق الصحيح لتصبح قوة تحويلية وإلغائية لما قبلها. وما زالت هناك حاجة إلى التغلب على بعض أوجه القصور التقاني والتنظيمي، وفي المقابل، هناك مشاريع ومبادرات جيدة أيضاً في قطاعات مختلفة تمكنت من معالجة بعض المشكلات بفاعلية.

تتخذ الجهات التنظيمية في عديد من الدول خطوات حقيقية للقضاء على عمليات الاحتيال، كما تنشر أوراقاً بحثية ومعايير ولوائح جديدة. وكانت سويسرا واحدة من الدول التي بدأت في بناء إطار تنظيمي لمشاريع “بلوكتشين”.

ما هي تقنية “بلوكتشين”؟
“بلوكتشين” هي باختصار نظير “دفتر أستاذ” (Ledger) في المحاسبة الورقية اليدوية، الذي يسجل المعاملات المالية بشكل مختصر كدائن ومدين، والأرصدة الحالية. وفي الأنظمة المحوسبة، يتكوَّن الدفتر من ملفات رقمية مترابطة، ولكنها تتبع المبادئ نفسها المحاسبية مثل النظام اليدوي. وتُعد تقنية “بلوكتشين” “آلة ثقة” جديدة بسبب قدرتها على السماح للأعضاء بالتفاعل وإجراء المعاملات على الرغم من أنهم قد لا يعرفون بعضهم بعضاً، ومن دون وسيط. وعلى الرغم من كثرة المراجع حول طبيعة هذه التقنية، إلا أن القليل منها فقط يمكن استيعابه من قِبل غير المتخصصين، وبعضها يقتصر على قابلية تطبيقها في تجارة العملات الُمشفرة.
فحالياً، يستخدم معظم الناس وسيطاً موثوقاً به مثل البنوك لإجراء معاملاتهم المالية. لكن شبكات “بلوكتشين” تسمح للمستهلكين والموردين والأجهزة الذكية بالتواصل مباشرة، مما يلغي الحاجة إلى طرف ثالث وسيط. وتعمل تقنية “بلوكتشين” بمثابة سجل مفتوح وموثوق به للمعاملات التي لا تخزنها سلطة مركزية بين طرف وآخر (أو بين أطراف متعدِّدة). فبدلاً من ذلك، يتم تخزين نسخة من قبل كل مستخدِم متصل بشبكة “بلوكتشين”، الذي يُعرف أيضاً باسم “العُقْدة”. والعقدة هي ببساطة مستخدم أو حاسب (أو هاتف ذكي أو جهاز في “إنترنت الأشياء”) على شبكة “بلوكتشين” تقوم بتشغيل برمجيات “بلوكتشين”. والمهمة العامة لكل العُقد هي تخزين نسخة كاملة من دفتر الأستاذ، وتلقي البيانات من العقد الأخرى، والتحقق من صحتها، وتمريرها إلى العقد الأخرى على الشبكة طالما أنها صالحة. وتؤدي “العقد التعدينية” أداء هذه المهام، ولكنها أيضاً تنشر سجلات جديدة لبلوكتشين خلال عملية التعدين. وبدلاً من سلطة مركزية تقوم بالحفاظ على قاعدة البيانات، فجميع العقد في الشبكة لديها نسخة من دفتر الأستاذ، ويجري نشر التحديثات عبر الشبكة في دقائق أو ثوانٍ. وفي هذه الشبكات، يجب أن تقوم غالبية العُقَد بمراجعة المعاملة والتحقق من صحتها قبل تسجيلها. وبهذه الطريقة، لا يمكن لأحد العبث بدفتر الأستاذ، ويمكن للجميع فحصه، والوثوق به. وللمعاملات الفردية، تستخدم “بلوكتشين” سلاسل التشفير للحفاظ على المعاملات آمنة. ومن المهم الملاحظة أن هذه الخطوات تتم تلقائياً بواسطة برمجيات “بلوكتشين” ولا تتطلب أي تدخل يدوي.
وأحد الخصائص الأساسية في “بلوكتشين” هي شبكتها الموزعة والمشتركة، الرسم (4). ولهذا السبب، فلدى الأنظمة القائمة على “بلوكتشين” القدرة على تقليل الاحتكاك بين الأطراف وتكاليف الوسطاء، وبالتالي تحسين تكامل البيانات، وزرع الثقة من دون وساطة، وخفض التكاليف. وتختلف هذه التقنية عن قواعد البيانات أو نظم المعلومات لتقليدية في أن البيانات يتم تخزينها في الأخيرة في خادم مركزي تملكه بشكل عام سلطة مركزية.

الرسم (4): مقارنة شبكة مُوزّعة مع مركزية ولا مركزية


وثمَّة سمة أساسية أخرى لتقنية “بلوكتشين”، وهي عدم قابلية المعاملات فيها للتغيير بعد اعتمادها. وبشكل عام، بمجرد إضافة معاملة صحيحة إلى دفتر أستاذ “البلوكتشين”، لا يمكن التراجع عنها. هذا الثبات هو أحد الجوانب الأساسية التي تسهم في جدارة المعاملات. وفي المقابل، مع قاعدة البيانات المركزية التقليدية، عندما يضيف المستخدم بيانات أو يُعدّلها، يجب الاتصال بالخادم لإجراء التغيير، وتبقى البيانات على الخادم. ولأن جميع البيانات محفوظة في مكان واحد، فإذا كان أمان الخادم ضعيفاً أو الجهة التي تدير الخادم مخترقة، يصبح من الممكن اختراق البيانات من دون علم صاحبها. ونتيجة لهذه المفاهيم الأساسية، يضمن “بلوكتشين” الأمن والشفافية لجميع المستخدمين وجميع المعاملات التي تم التحقق من صحتها. وبالتالي، فإن لدى جميع المستخدمين في النظام معلومات حول جميع الأطراف، وقدرتها على تنفيذ المعاملات، وتسجيل ما حدث فعلاً.
وعلى عكس الاعتقاد الشائع، بشكل عام، تسمح تقنية “بلوكتشين” لمستخدميها بتبني اسم مستعار، لكن لا يسمح بالإخفاء الكامل للهوية.

كيف تعمل؟
لغوياً، “بلوكتشين” تعني سلسلة من الكُتل. وتحتوي كل كتلة على مجموعة فريدة من المعاملات، بحيث لا تُضاف كتل إلى السلسلة آلياً، بل من خلال عملية “تعدين” تقوم بها “عُقد التعدين”، بعد التحقق من صحة التشفير. وبمجرد إضافة الكتلة، تبدأ عُقد التعدين في نشر الكتلة على باقي الشبكة من دون الكتل غير المقبولة. ويجري التشارك في الكتلة الجديدة في جميع العُقد وتحديث المحتوى بنقلها من عقدة إلى التالية. وكل هذا العمل العويص تقوم به برمجيات “البلوكتشين” آلياً وبسهولة. وتظل معلومات الكتلة متاحة لأعضاء الشبكة لكن لا يمكن العبث بها، وكل منها تحتوي على بصمة تشفيرية تسمى “هاش”، الجدول (1).

وتعتمد الكتل على بعضها بعضاً مترابطة ومتتابعة من خلال “الهاش” الفريد الخاص بكل منها، ومن هنا جاءت “السلسلة”، و”الكتلة”. لذلك فكل كتلة لها كود “هاش” فريد خاص بها، وتُستخدم لربط الكتل في سلسلة. وتُجمع الكتل الواحدة بعد الأخرى في ترتيب خطي وزمني مع احتفاظ كل كتلة بكود “الهاش” وكود “الهاش” للكتلة السابقة أيضاً. وإذا حاول أحدهم العبث بتغيير محتويات كتلة، فسيتغير كود “هاش” المحتويات والكتلة تبعاً لذلك؛ ويصبح من السهل على الشبكة اكتشاف التغيير لأن البصمة الرقمية تغيرت. وبالتالي ترفض عُقد الشبكة أي معاملة مرتبطة بالبصمة المتغيّرة، الرسم (5).

المصادر

  1. Satoshi Nakamoto, Bitcoin: A Peer-to-Peer Electronic Cash System. Bitcoin.org
  2. Blockchain beyond the hype: What is the strategic business value?, Digital Mckinsey, June 2018
  3. Blockchain – Statistics & Facts: Statista.com
  4. Blockchain Technology in the Insurance Sector: Quarterly Meeting of the FACI, Mckinsey & Company, Jan 5, 2017
  5. BLOCKCHAIN Opportunities for Private Enterprises in Emerging Markets, Second and Expanded Edition, IFC, World bank Group, January 2019
  6. The Reality of Blockchain: Blogs.gartner.com
  7. Berryhill, J., T. Bourgery and A. Hanson (2018), “Blockchains Unchained: Blockchain Technology and its Use in the Public Sector”, OECD Working Papers on Public Governance, No. 28, OECD Publishing, Paris. Dx.doi.org

مقالات ذات صلة

ظهر مفهوم ريادة الأعمال الخضراء حديثاً، نتيجة لنمط الإنتاج والاستهلاك وطريقة الحياة التي فرضتها الثورات الصناعية المتعاقبة، التي أدَّت إلى تغيُّراتٍ جذرية على العصر الذي نعيش فيه، لم تكن موجودة عند انطلاق الثورة الصناعية وريادة الأعمال التقليدية، تمثَّلت في تغيُّر مناخي خطير يهدِّد الحياة على الكرة الأرضية، واستنفاد لمواردها الطبيعة، وغير ذلك من الآثار السلبية.وقد […]

لصناعة السفر والسياحة أهميّة هائلة في الازدهار الاقتصادي والاجتماعي، فهي تنشئ فرص عمل، وتوفِّر وظيفة فريدة للمرأة وللأقليّات والشبان أيضاً، وهي عنصر أساسي في إجمالي الناتج المحلي، تعتمد عليه الدول. كما تواصل السياحة تَصَدُّر توقعات النماء العالمي على المدى الطويل، مع دخل كبير يبلغ 1.5 بليون دولار من السياح الدوليّين في 2019م. وكان قطاع السفر […]

يُشير الذكاء الاصطناعي إلى تقنيات تُحاكي ذكاء الدماغ البشري، وأي آلة تقوم بوظائف عقل الإنسان. وظهر المصطلح في عام 1956م، ثم تبعه مصطلح “تعلم آلة” بعده بثلاث سنوات. ولأهميته، فمن المتوقع أن يتضاعف الإنفاق العالمي على تقنيات الذكاء الاصطناعي، حيث سينمو من 50.1 بليون دولار في 2020م إلى أكثر من 110 بلايين دولار في 2024م. […]


0 تعليقات على “تقنية “بلوكتشين””


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *