ابتداء من يونيو 2024م، بدأت وزارة السياحة في فنلندا تقديم دورة تدريبية لتعليم السعادة، وهو ما يبدو ملائمًا في بلد لطالما احتل المراتب الأولى بين أكثر البلدان سعادة في العالم.
لكن هذه الخطوة، تقود إلى طرح أسئلة جديرة بالبحث، مثل: هل يمكن تعليم السعادة؟ وهل يمكن تحديد معايير قابلة للتطبيق من كل مَن ينشد الشعور بالسعادة؟ وهل الشعور بالسعادة يعدُّ مهارة يمكن ممارستها مثل الرياضة أو العزف الموسيقي؟
السعادة.. تواصل وامتنان
أعتقد أنه يمكن تعليم السعادة وتعزيزها من خلال جوانب عديدة من شأنها أن تُسهم في تحسين شعور الأفراد بها. ويمكن القول إن أحد أبرز هذه الجوانب، هو الوعي بمفهوم السعادة وإدراك حقيقتها. وفي رأيي أنها حالة ذهنية تجمع بين الرضا والامتنان.
ويُسهم التفكير الإيجابي أيضًا في تحويل الأنماط السلبية إلى إيجابية، وهو ما يعزِّز بدوره الشعور بالسعادة. كما أن ممارسة عادة التدوين والكتابة للأمور التي نشعر بالامتنان تجاهها، من شأنها أن تدعم هذا الإحساس. إضافة إلى ذلك، فإن التواصل الاجتماعي يؤدي دورًا كبيرًا في ترسيخ المشاعر الإيجابية ويجلب الطمأنينة النفسية؛ إذ تُعدُّ العلاقات القوية والداعمة إحدى أهم ركائز السعادة.
ممارسة رياضة التأمل أيضًا، بجميع صورها وأشكالها، تساعد على تقليل التوتر وزيادة الوعي الذاتي، بينما يمنح تحديد الأهداف والعمل على تحقيقها شعورًا بالإنجاز والرضا.
أمَّا المرونة العقلية، فهي مهارة أساسية للتكيف مع التغيرات ومواجهة التحديات، وهو ما يعزِّز القدرة على مواجهة الحياة بشعور إيجابي. كما أن العمل على تحييد المشكلات أو حلِّها، وتطوير التفكير النقدي، أمران يُسهمان في التغلُّب على الصعوبات بشكل أكثر فاعلية.
ومن ثَمَّ، فإنه يمكن اعتبار السعادة مهارة يمكن تعلمها وممارستها، من خلال تطبيق إستراتيجيات محددة، ومن خلال التركيز على التطوير الشخصي، وقد يصبح من الممكن تعزيز الشعور بالسعادة لدى الفرد، وعيشه حياة أكثر رضًا وإشباعًا.
السعادة ليست بالمعايير الزائفة
السعادة أمر فطري وغاية نهائية للنفس البشرية، بحيث إننا لو تتبعنا غاياتنا واحدة تلو أخرى لوجدنا أن طلبنا للسعادة هو غايتنا البشرية النهائية. فمثلًا، تجد الإنسان يقاوم ليصحو صباحًا في الجو البارد، ويجاهد للوصول لعمله ويسعى وراء رزقه، وربَّما الغاية وراء كل ذلك هو الشعور بالإنجاز، وعندما نتتبع الهدف من الشعور بالإنجاز نجد السعادة وراءه! أو لنفرض أنه يسعى للمال الذي سيفتح أمامه فرصة السفر والزواج وشراء سيارة الفارهة، وكلُّ ذلك أيضًا لو فتشنا وراءه لوجدنا السعادة! ولن تجد إجابة واقعية عندما تسأل أحدهم: لماذا تريد السعادة؟
إذًا، فإننا لو اتفقنا على أن السعادة فطرية، فإنه لا داعي لتعليمها مثل المهارات الأخرى. لكن يمكن في الوقت نفسه تعليم الطرق التي تجعلك تكتشف هذه الفطرة التي دُفنت تحت كثير من المعايير الزائفة، أو جرى تشويهها بالكثير من المفاهيم المعلبة.
ففي العصر الذي تتسيَّد فيه مواقع التواصل الاجتماعي، نجد الترويج للماديات والتجارب المؤقتة بوصفها طريقًا حتميًا للسعادة! فما يحصل هو الشعور بالتعاسة عند قليلي الوعي، فهم ربَّما لا يتمكنون من ركوب موجة “الترند”، وشراء الكوب الشهير، أو تجربة المطعم الجديد، بينما في حقيقة الأمر قد يصلون إلى ذلك ولا يشعرون بالسعادة أيضًا، وإذا حصل لهم ذلك فستكون سعادتهم مؤقتة، وسيسعون بعدها للبحث عن المنتج أو التجربة التالية، وهكذا. لكن السعادة الحقيقية هي شعور عميق وداخلي بحت، ولا يمكن الوصول إليه بطرق سطحية ومادية فقط من دون أن نعرف أنفسنا ونرتب دواخلنا ونمضي في الطريق لسعادتنا الحقيقية.
الصدق مع النفس هو البداية
أُوِمن بأن السعادة تعتمد على أساس قوي وعقلية تتطلب جهدًا مستمرًا لتطويرها. السعادة ليست في تجنب الحزن أو التوتر، بل في اختيار النظرة الإيجابية، وهو أمر مشجِّع في ديننا. في الإسلام، يُعدُّ الحفاظ على التفاؤل عملًا صالحًا، واللجوء إلى الله في أوقات الحاجة يُمكِّننا من تسليم همومنا لنجد السلام في هدايته.
ومع ذلك، اختيار السعادة ليس سهلًا، ولا سيما في ظل هذه الأوقات التي نعيشها. السعادة ليست حالة نصل إليها بسهولة، بل هي حالة نسعى جاهدين لتحقيقها. من المهم ألا نسمح لأنفسنا بأن نُربَك أو نتأثر سلبًا بكل ما يحيط بنا من تحديات وضغوط في حياتنا اليومية.
من وجهة نظري، تُقاس السعادة بمدى صدقنا مع أنفسنا. السعادة الحقيقية تأتي من العيش بصدق وتجنب المقارنات السامة أو السعي وراء رضا الآخرين. عندما نعيش بما يتوافق مع قيمنا ونكون راضين عن أنفسنا، فإننا نبني سعادة دائمة.
في جوهرها، تنمو السعادة من خلال الصبر والتأمل الذاتي والممارسة المتعمدة لتعزيز العقلية الإيجابية. من خلال تنمية الامتنان والإيمان، نبني حياة مليئة بالمعنى والسلام الداخلي.
معادلة طويلة ومعقَّدة
كثيرًا ما يحمل وصف المشاعر طابعًا معقدًا، فهو قد يبدو واضحًا في بداية الأمر، ولكن بمجرد التعمق فيه، يصبح التعبير عنه بشكل دقيق أمرًا في غاية الصعوبة.
بالنسبة إليَّ، فإن السعادة كانت من أكثر المشاعر التي واجهت ارتباكًا في تعريفها، بحيث انشغلت في البداية بالتمييز بينها وبين المتعة، ثمَّ تطوَّر لدي المفهوم ليشمل الرضا، ومع مرور الوقت ظهرت متغيرات جديدة جعلت فهمي للسعادة أشبه بمعادلة طويلة ومعقدة، مليئة بالعناصر والمتغيرات التي هي بحاجة إلى استكشاف مستمر.
وعلى الرغم من أن السعادة شعور نسبي يختلف من شخص لآخر، فإنني أعتقد أن مكوناتها الأساسية متقاربة بين الجميع، مع اختلاف نسب تأثيرها وفقًا لكل شخص وخبراته وتجاربه في الحياة. يمكن تقديم أدوات وأساليب تُسهِّل اكتشاف بعض هذه المكونات، وهو ما يجعل رحلة البحث عن السعادة أقصر وأقل تعقيدًا. ومع ذلك، تظل السعادة تجربة فردية لا يمكن اختزالها في خطوات محددة.
مثلما يمكننا التنبؤ بالألم استنادًا إلى تجارب سابقة، يمكن أيضًا استنتاج بعض متغيرات السعادة عبر الخبرات. وعلى الرغم من أن معادلة السعادة تتغير بين الأجيال والأشخاص، فإن مكوناتها الأساسية ثابتة إلى حدٍّ بعيد. لذلك، يمكن تحفيز رحلة السعادة عبر تسليط الضوء على النقاط العمياء في معادلة كل فرد، وهو ما يساعده على تحقيق حياة أكثر رضا واتزانًا.
اترك تعليقاً