انخفض معدل الخصوبة العالمي، وهو متوسط عدد الأطفال الذين يولدون للمرأة في حياتها، من 4.84 في عام 1950م إلى 2.23 في عام 2021م، وسيستمر في الانخفاض إلى 1.59 بحلول عام 2100م، وهو أدنى من مستوى الإحلال البالغ 2.1 طفل لكل امرأة للحفاظ على أعداد سكانية مستقرة. هذا ما جاء في دراسة عالمية واسعة شارك فيها مئات الباحثين من مختلف بلدان العالم، ونشرتها مجلة “لانسيت” في 20 مارس 2024م. وتتوقع الدراسة أن الأشخاص الذين يعيشون في 155 من أصل 204 دول ومناطق مدرجة في الدراسة، سينجبون في عام 2050م عددًا أقل من الأطفال. ويعود سبب هذا الانخفاض إلى عاملين أساسين: التغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت في الربع الأخير من القرن العشرين، وتراجع خصوبة الرجال. وسيكون لذلك تأثيرات على الأنماط السكانية العالمية والتوزع الديموغرافي وشيخوخة المجتمعات.
للمرة الأولى في تاريخ البشرية، أصبح عدد الأطفال الذين هم دون الخامسة من أعمارهم عام 2020م، أقل من عدد الأشخاص الذين تفوق أعمارهم 65 سنة. ووفقًا لتقرير “التوقعات السكانية العالمية 2022” التابع للأمم المتحدة، فإن نسبة الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فما فوق تتزايد بمعدل أسرع من أولئك الذين تقل أعمارهم عن ذلك. وهذا يعني أنه من المتوقع أن ترتفع النسبة المئوية لسكان العالم الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا فما فوق من 10% في عام 2022م إلى 16% في عام 2050م. ومن المتوقع أيضًا أن يتضاعف عدد الأفراد الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر في جميع أنحاء العالم بحلول عام 2050م؛ ليصبح تقريبًا مساويًا لعدد الأطفال دون 12 عامًا.
التغير الديموغرافي المتوقع
يؤدي هذا الأمر إلى تحول ديموغرافي عميق على الصعيد العالمي. إذ ستتضاعف حصة المواليد الأحياء في العالم في المناطق منخفضة الدخل من 18% في عام 2021م إلى 35% في عام 2100م. وسوف تمثل منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا وحدَها طفلًا واحدًا من كل طفلين يولدان على هذا الكوكب بحلول عام 2100م. وبحلول هذا العام، سيرتفع عدد الدول ذات معدلات المواليد الأقل من معدلات الوفيات إلى 198 دولة. وفي بوتان وبنغلاديش ونيبال، ستنخفض المعدلات إلى أقل من طفل واحد لكل امرأة. وبحلول ذلك الوقت، فإن البلدان الوحيدة التي من المتوقع أن تتجاوز معدلات المواليد فيها المستوى المطلوب للحفاظ على السكان، هي: ساموا والصومال وتونغا والنيجر وتشاد وطاجيكستان.
وتقول عالمة الديموغرافية الدكتورة جنيفر سكيوبا، تعليقًا على نتائج دراسة مجلة “لانسيت” المذكورة آنفًا: “إن ما نشهده الآن، ونعيشه منذ عقود، هو شيء لم نشهده من قبل في تاريخ البشرية، وهو تحول واسع النطاق وعابر للحدود الوطنية والثقافات”.
“الاتجاهات المستقبلية في معدلات الخصوبة والمواليد الأحياء ستعيد تشكيل الاقتصاد العالمي وتوازن القوى الدولية بالكامل، وستتطلب إعادة تنظيم المجتمعات”.
ناتاليا بهاتاشارجي
وفي المملكة العربية السعودية، بعد أن كان عدد الولادات لكل امرأة 7.6 عام 1960م، انخفض هذا العدد بشكل متسارع ليصل إلى 2.4 عام 2021م، وذلك بحسب “مؤشرات التنمية العالمية” 2021م، التي يصدرها البنك الدولي. وقال في هذا الصدد عضو هيئة التدريس واختصاصي طب الأسرة والطب المهني بجامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، الدكتور حاتم القحطاني، إن معدل انتشار العقم وتأخر الإنجاب في المملكة يصل إلى 18%، وذلك وفقًا لدراسة علمية أجراها مستشفى الملك فهد الجامعي بالخبر، مشيرًا إلى أن هذه النسبة مرتفعة وتتطلب الاهتمام.
هناك عوامل متنوعة أدَّت إلى تراجع الخصوبة على الصعيد العالمي، أهمها العامل الاقتصادي والاجتماعي الذي أثَّر بشكل خاص في خصوبة النساء، بالإضافة إلى تراجع خصوبة الرجال. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ظهرت سابقًا دراسات حول تدهور كروموزوم Y الموجود عند الرجال وخسارته كثيرًا من جيناته بدءًا من التاريخ السحيق، وقد يستمر ذلك حتى المستقبل البعيد. وقد أثارت هذه الدراسات مخاوف كثيرة، لكن ظهرت أيضًا آراء مناقضة، ودار نقاش بين العلماء حول ذلك بات يُعرف بـ”الجدال القديم”. وأثبتت الدراسات اللاحقة أنه حتى لو كان ذلك صحيحًا، فبالإمكان معالجته، خاصة من خلال الطب الجيني. ومع ذلك، تراجع الاهتمام كثيرًا بهذا الموضوع اليوم، على عكس موضوع تراجع خصوبة الرجال الذي يحظى باهتمام علمي واسع في الوقت الحالي.
عوامل اقتصادية واجتماعية
اختلف حجم العائلة بعد الثورة الصناعية عمَّا كان عليه قبلها، خاصة بعد دخول المرأة سوق العمل خارج البيت، وكان ذلك عاملًا مهمًا لتراجع الخصوبة لدى النساء. ويُلاحظ من بداية القرن التاسع عشر وجود علاقة عكسية بين ارتفاع نسبة النساء اللاتي يعملن وانخفاض خصوبتهن. ووفقًا لمعظم تقديرات التعداد السكاني، كان لدى المرأة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، في المتوسط، سبعة إلى ثمانية أطفال في عام 1800م. وبحلول عام 1900م، انخفض العدد إلى حوالي 3.5، وقد انخفض هذا الرقم حاليًا إلى ما يزيد قليلًا على اثنين.
فعلى سبيل المثال، كانت نسبة النساء اللاتي يعملن خارج البيت في الولايات المتحدة الأمريكية 10%، ولكنها ارتفعت في بداية القرن العشرين إلى 20%، و5% منهن فقط كنَّ متزوجات، وذلك وفقًا لبيانات معهد بروكينكز (مايو 2020م). لكن هذه النسبة وصلت اليوم إلى 76% أكثرهنَّ متزوجات. وبحسب بيانات مؤسسة “ستاتيستا” (18 ديسمبر، 2023م)، فقد وصلت حصة المرأة من إجمالي الناتج العالمي إلى 34%.
استقلالية المرأة
يقول مدير “معهد القياسات الصحية والتقييم” الأمريكي، الدكتور كريستوفر موراي: “هناك كثير من الأسباب لهذا التحوُّل، من بينها زيادة الفرص المتاحة للنساء في التعليم والتوظيف وتحسّن فرص الحصول على خدمات منع الحمل والصحة الإنجابية”.
ويُضيف مؤرخ جامعة ولاية نيويورك بينجهامتون، ج. ديفيد هاكر: “هناك سببان وراء انخفاض معدلات الخصوبة. أحدهما هو أن الزواج يتراجع، فكثير من النساء يخترن ألا يتزوجن، وإذا تزوجن فإنهن يتزوجن في سن متأخرة، بحيث يكون هناك وقت أقل لإنجاب الأطفال. والسبب الثاني هو أن الناس يحاولون بشكل واعٍ الحد من إنجاب الأطفال”. وترجع أسباب هذا الانخفاض في معدلات المواليد إلى تطورات اجتماعية مثل زيادة الاستقلال المالي للمرأة والتحكم في صحتها الإنجابية.
كيف يُفسّر ازدياد سكان العالم حاليًا؟
مع هذا الانخفاض الكبير في الخصوبة استمر التعداد السكاني في العالم بالارتفاع بشكل كبير؛ إذ ارتفع من حوالي مليار عام 1800م إلى 2.52 مليار عام 1950م، وإلى 8 مليارات اليوم، فما هو سبب هذا الارتفاع؟
بحسب موقع متخصص في الإحصاءات (Our World in Data)، فقد كانت نسبة الأطفال الذين يموتون دون عمر 15 عامًا على الصعيد العالمي، قبل القرن التاسع عشر، نحو 50%. وقد انخفض هذا الرقم، مع انتشار الطب الحديث والرعاية الصحية، إلى 27% عام 1950م، ثم انخفض إلى 4.3% عام 2020م. وأثَّرت الرعاية الصحية في الزيادة الكبيرة في متوسط العمر المتوقع عند الولادة على مستوى العالم من حوالي 28 عامًا في 1800م إلى 46.5 عامًا في 1950م، وإلى 72.4 عامًا في 2020م.
لكن العامل الطبي الإيجابي لم يعد كافيًا للتعويض عن انخفاض الخصوبة والحفاظ على استقرار السكان، الذين ستبدأ أعدادهم بالتناقص بدءًا من عام 2050م؛ إذ ظهر عامل مهم جديد لم يكن في الحُسبان خارج الأوساط الأكاديمية.
تراجع خصوبة الرجال
هذا العامل الجديد هو تراجع خصوبة الرجال. فقد أشارت دراسة نُشرت في مجلة علمية (Human Reproduction Update) في 15 نوفمبر 2022م، واعتمدت أيضًا على 223 دراسة سابقة حول عيّنات من الحيوانات المنوية لرجال من أنحاء مختلفة من العالم، إلى أن متوسط تركيز الحيوانات المنوية انخفض من 101.2 مليون لكل مل إلى 49.0 مليون لكل مل، بين عامي 1973م و2018م؛ وهو ما يمثّل انخفاضًا بنسبة 51.6%. وانخفض إجمالي عدد الحيوانات المنوية بنسبة 62.3% خلال الفترة نفسها، وهذا الانخفاض في تزايد في الفترة الحالية. وأكَّدت هذه الحقائق دراسة نشرتها مجلة “العلوم البيئية الأوروبية” (Environmental Sciences Europe) في يناير 2022م، جاء فيها: “لُوحظ في السنوات القليلة الماضية اتجاه متزايد نحو العقم في جميع أنحاء العالم، مع ظهور العقم عند الذكور بوصفه مشكلة رئيسة. وذلك بسبب انتشار المواد الكيميائية داخل البيوت، والمبيدات الحشرية خارجها، التي دخلت السلسلة الغذائية وأثَّرت في الأجنة الذكور خلال فترة الحمل”، كما سنرى لاحقًا.
التعرُّض للمواد الكيميائية الضارة
يتعرض البشر في جميع أنحاء العالم لمجموعة واسعة من المواد الكيميائية في حياتهم اليومية. وكثير من هذه المواد الكيميائية لها آثار سيئة، خاصة على الأعضاء التناسلية التي تؤدي إلى العقم عند الذكور، كما جاء في دراسة نُشرت في مجلة “جيندر آند جينوم” (Gender and Genome) في 12 أغسطس 2019م. وكشفت دراسة استقصائية مقطعية كبيرة أخرى أجرتها عدة مؤسسات سويسرية وفرنسية، ونُشرت في مجلة “هيومان ريبرودكشن” (Human Reproduction) في يوليو 2021م، عن تأثير التعرض المهني للأمهات للمواد الكيميائية التي قد تسبب اختلال الغدد الصماء أثناء الحمل، وخاصة المبيدات الحشرية والمعادن الثقيلة والفثالات (مجموعة من المواد الكيميائية التي تدخل في صناعة اللدائن والعديد من السلع الاستهلاكية والصناعية)، وتؤثر على جودة السائل المنوي لأبنائهن الذكور في مرحلة البلوغ.
المبيدات الحشرية
ويمكن أن يُحدث التعرض للمبيدات الحشرية أيضًا خللًا في تكوين الحيوانات المنوية، وهو ما يؤدي إلى انخفاض تركيزها وحركتها، وزيادة عدد تلك غير الطبيعية منها، ومن ثَمَّ ضعف جودة السائل المنوي وانخفاض خصوبة الذكور، كما جاء في دراسة نُشرت في مجلة “لانسيت” (Lancet) في 23 يناير 2021م. وأفادت دراسة أخرى حول تأثير مبيدات الأعشاب في المختبر على حركة الحيوانات المنوية البشرية وميتوكوندريا خلاياها، بأن التعرض المباشر لعينات السائل المنوي للمكوّن النشط لمبيد الأعشاب هذا، حتى بتركيز منخفض جدًا (1 ملغم/ لتر)، يمكن أن يؤدي إلى ذلك.
وأخطر من كل ذلك، ما جاء في دراسة كانت قد نُشرت في مجلة علمية (Environmental Science and Pollution Research) في 6 مايو 2014م، أن التعرض لمبيد حشري آخر شائع الاستخدام هو الـ “دي.دي.تي” خاصة لمستقلبه الرئيس، يرتبط بقوة بعدم قدرة الحيوانات المنوية على الحركة، ويؤدي إلى خلل في الميتوكوندريا. وعلى الرغم من مُضي 49 عامًا على حظر المواد الكيميائية العضوية الكلورية مثل الـ “دي.دي.تي” وثنائي الفينيل متعدد الكلور في معظم دول العالم، فإن ذلك لا يعني أنها اختفت. فهي تظل في البيئة سنوات عدة بعد استخدامها، وتُعرف باسم “المبيدات الحشرية القديمة”، ولا تزال قادرة على إحداث تأثيرات ضارة على خصوبة الرجال. كما أنها لا تزال تستعمل في بعض المناطق، وخاصة في إفريقيا.
التحولات الاجتماعية المرتقبة
تعليقًا على نتائج دراسة مجلة “لانسيت” المذكورة آنفًا، قالت الباحثة في معهد القياسات الصحية والتقييم في جامعة واشنطن، ناتاليا بهاتاشارجي: “التداعيات هائلة، فهذه الاتجاهات المستقبلية في معدلات الخصوبة والمواليد الأحياء ستعيد تشكيل الاقتصاد العالمي وتوازن القوى الدولي بالكامل، وستتطلب إعادة تنظيم المجتمعات”.
وبالفعل، سيخلق هذا التحوُّل في توزيع المواليد الأحياء عالمًا منقسمًا ديموغرافيًا؛ إذ تواجه البلدان ذات الدخل المرتفع عواقب شيخوخة السكان وانخفاض القوى العاملة. في حين تحافظ المناطق منخفضة الدخل على معدل مواليد مرتفع يستنزف الموارد المتاحة.
وسيجعل هذا الأمر شيخوخة السكان أحد أهم التحولات الاجتماعية في القرن الحادي والعشرين، مع ما يترتب على ذلك من آثار على جميع قطاعات المجتمع تقريبًا. فابتداء من منتصف هذا القرن، ستشهد البلدان ذات الدخل المرتفع، التي تعاني انخفاضًا كبيرًا في معدلات الخصوبة، تحولًا نحو ازدياد نسبة كبار السن لإجمالي عدد السكان. وهذا ما سيؤدي إلى إجهاد التأمين الصحي الوطني وبرامج الضمان الاجتماعي والبنية التحتية للرعاية الصحية، بالإضافة إلى أسواق العمل والأسواق المالية. وستواجه مختلف القطاعات العامة والخاصة أيضًا نقصًا في القوى العاملة.
وعلى الطرف الآخر من الطيف، فإن زيادة الولادات الحية في البلدان منخفضة الدخل، واستمرار هجرة العمال المهرة إلى الاقتصادات ذات الدخل المرتفع وانخفاض معدلات الخصوبة فيها، يمكن أن يكون لها أيضًا آثار سيئة على الاقتصادات التي يتركها هؤلاء العمال وراءهم. وسيؤدي ذلك إلى تهديد أمن الغذاء والمياه والموارد الأخرى، وستجعل تحسين معدل وفيات الأطفال أصعب.
اترك تعليقاً