شغف حبُّ الوطن وجدان شعراء المملكة وشاعراتها، فاتخذوا من الشعر منبعًا ثرًّا لهم يغذّون بمائه حبهم لوطنهم، ويتغنّون بأمجاده، ويعبّرون عن روح الانتماء له. ومن خلال ذلك، أصبح النص الشعري الوطني وسيلة مشاركة في بناء المواطنة، وفي التعبير عن هويته، ولذلك كان الفخر والاعتزاز بقادته وأمجاده وتاريخه وحضارته وقدسية المكان فيه، دعائم أساسية تؤكد من جهة سيرة الوطن الممتدة في الماضي والحاضر، ومن جهة أخرى ترسم حلمًا جميلًا باستشراف رؤية مستقبلية لما هو أجمل وأبهى.
الوطن والشاعر: علاقة وجود
بين الشعر والوطن حكاية عشق لا تنتهي، إذ شكّل الشعر ملحمة نضال بلاغية مستمرة في الارتقاء بمعناه الذي يُرسم بمختلف الألوان، ويتجلى بأطياف الوطن، فكم ذاد الشعر عن الوطن وكم سطّر الشعراء حروفًا من ذهب فداءً لهذا الوطن العظيم، وكم رقصت القوافي فرحًا بتوهج الوطن وإنجازاته، وكم أنجب هذا الوطن المعطاء من شعراء وشاعرات خلدوا أمجاده وتغنوا عشقًا بترابه، وذلك دور الإبداع الشعري حين يتجسد وطنًا، وتلك هي رسالته العظيمة. ولعل في هذا ما يؤكده قول الشاعر جاسم الصحيح، وهو يصور طبيعة العلاقة الرحمية بين الإنسان السعودي ووطنه:
وطنٌ ينامُ على يَدَيْ شُعَرائِه
طِفْلًا تُهَدهِدُ رُوحَهُ (الأوزانُ)
ف(الهائمونُ بكُلِّ وادٍ) من هُنا
طلعوا، وتشهدُ هذهِ (الوديانُ)
وقد تجلّى الوطن في شعر الشعراء السعوديين الهائمين بحبه في صور متعدِّدة وبطرائق مختلفة، أبرزتها تشكيلة من العواطف تمتد وتتكثف وتشتد وتتسع لتجسد كلها معاني الفخر بحاضر الوطن المزهر، والحنين إليه في الغربة، والاعتزاز بتاريخه المجيد، والافتخار بقدسية الأمكنة فيه، والاقتداء بزعماء الحكمة والسياسة فيه، ورصد منجزاته الكبرى وفتوحات رؤيته التحديثية 2030م.
لقد جاء تمثل الوطن في شعر الشعراء السعوديين – قديمًا وحديثًا- حبًّا متدفقًا لا ينتهي، فهذا الشاعر طاهر زمخشري يسكب أغاريد حبه للوطن في شعره، حيث صاغ مفرداته المؤثرة وصورها العميقة بما يجسِّد حرارة الحُب ومدى ما يمثله الوطن له من قيم عُليا. فهو وإن أدركته شيخوخة الآلام، فإن حُبَّه للوطن لا يزال يسري في وجدانه بالحياة، فيجعله مفعمًا بالحياة، يقول :
أنا في حبِّه سكبتُ أغاريدِي
فكانت على اشتياقِهِ شُهُودا
فإذا شِخت من تزاحم آلامي
فحبّي إليه يحبُو وليدَا
أما الشاعر حسين عرب، فيجعل من الوطن قضية كبرى، لما له من قدسية في نفوس المسلمين شرقًا وغربًا، يقتضي الولاء له سيلًا من العواطف من أجل تبيان ملامح تجربة المعايشة التي تغطي عن أي معاناة كتجربة الاغتراب التي غالبًا ما نجدها لدى الشعراء، فيقول:
شبه الجزيرة أرضها وسماؤها
حَرَمٌ على من رامَ أن يتصيّدا
أرضُ الفداءِ ومهدُهُ وغراسُهُ
أفدي بنفسي المفتدي والمفتدى
هكذا يعبّر الشاعر عن حرمة الوطن المستمدة من قداسة المكان الطاهر الذي استحق الولاء له، وهو على استعداد لأن يقدِّم نفسه فداء له ولمن يفتديه.
شعرية التفاصيل تضيئ الوطن
وإذا كان الشعراء قد تغنّوا بالوطن في كليته، فقد كان لتفاصيل المكان (المناطق والمدن والقرى … إلخ) والطبيعة (البحر والصحاري والجبال .. إلخ) وما تحويه من جمال وقيم وعراقة، دور في إبراز هذه العلاقة بينهم وبين الوطن شعريًّا، حتى أن كل عناصر المكان تتآزر وتتضام لترسم خارطة الوطن الكبرى الجميلة، وصورة بلاغية محمّلة بكل معاني العواطف التي تدفع إلى الحياة وتعزز الرغبة في البقاء. وهذا ما نجده في هذا المقطع الشعري الجميل لأحمد الغزاوي، الذي يصور الوطن/ الذكريات الجميلة التي تجسّد تشوقه وذكرياته في منتجعات الطائف في قرى وج والعقيق والجال وليه والفرع والمثناة والهدا وشهار وغيرها من الأماكن، التي يُصنع بتجميعها صورةٌ تجسّد الوطن في عناصره الأولى، التي تعيده إلى وجوده الطبيعي الأول في حالاته العذرية الجليلة. يقول الغزاوي:
ثَمَّة تشكيلة من العواطف تمتد وتتكثف وتشتد وتتسع لتجسد كلها معاني الفخر بحاضر الوطن المزهر، والحنين إليه في الغربة، والاعتزاز بتاريخه،والافتخار بقدسية الأمكنة فيه
ألا حبّذا أيامنا حول قروة
إذ الناس في حظ من البشر ذائب
بوج وفي وادي العقيق ودونه
وفي ليّة أو بين قرن النجائب
على الفرع إذ يبدو المسمى كاسمه
على القنن الشماء أمعن ذاهب
ولا أنسى بالمثناة ليلات أنسنا
وبين الهدا أو في جوار الكباكب
ولا الجال إذ نجلو كؤوس صفائه
كأن بها ما بالثنايا العواذب
ولا في شهار والمليساء ضحوة
لهونا بها عن طارقات النوائب
إن ما يوفّره اجتماع مختلف هذه المدركات المكانية الواقعية، هو قدرتها على استحضار الزمن الذي عاشه الشاعر وهو يرتع في ربوعها، ويستنشق هواءها. وهنا تتجلى قدرة الشاعر على اقتناص اللحظات البانية لمفهوم الانتماء من خلال الأماكن الواقعية، ولعلّ في ذلك ما يؤسس لقدرة الشعر على احتواء المكان والزمان معًا.
وكثيرًا ما يأتي التغني بالوطن مرتبطًا بمدح شخصياته المرموقة ورموزه وأعلامه، وبخاصة ملوك آل سعود، الذين أسهموا في توحيد هذا الوطن ورقيه وازدهاره، ولعل المثال التالي من شعر محمد علي السنوسي يوضح ويجسّد هذا المسلك الذي اتخذه كثير من شعراء الوطن وشاعراته للتعبير عن عراقة وطنهم وسطوع تاريخه وعلو أمجاده:
والفخرُ يلمعُ والأمجادُ ساطعةٌ
والنصرُ يُبهرُ والتاريخُ يُمليني
دُرٌّ تألق في تاجٍ على ملك
من وحيه كلُّ منثورٍ وموزونِ
تاريخ آل سعود في جلالته
فصلُ الفصولِ وعنوانُ العناوينِ
فالشاعر هنا منتشٍ بأمجاد الوطن ومزهو بانتصاراته الباهرة ومفعم بتاريخه إلى الحد الذي يجعله يتخير أجمل القوافي للتغني بالوطن وبملكه المكلل تاجه بالدرر، التي أخذ الشاعر في محاكاتها، وخلق درره الشعرية الجميلة التي يوحي بها هذا الملك العظيم (عبدالعزيز)، الذي تجسّد شخصيته تاريخ آل سعود، فهو عنوان كتاب المجد السعودي وفصوله. وهنا يسعى الشاعر لخلق علاقة وطيدة وآصرة قوية تكون القناة التّواصلية فيها هي معالم التاريخ المجيد برموزه التي تبدو كالجواهر والدرر في عقد اسمه الوطن.
وتتجلى صور الحنين لدى الشاعر غازي القصيبي لوطنه متمثلًا في صحرائه بما تعنيه من رحابة واتساع وثراء، إذ يصورها وكأنها الأم التي احتضنت ابنها بعد طول غياب، معبِّرًا في سلسلة من الصور الجميلة المكثفة عما يحمله بداخله من هموم وشجون. وتمثّل ذلك في صورة الوطن المحمولة في القلب بما في ذلك من ذكريات ومواقف، والحنين الشديد إليه ووصف عناصره وكل ما يميزه من معالم وصفات.
لقد انطلقت قصائد القصيبي الوطنية نحو الدهشة وكثافة الصورة عبر استلهام آلية الحضور والغياب، وهي رصد دقيق لمشاعر الحب بعد غياب. إنه الوطن بلغة القصيبي التصويرية “أجل نحن الحجاز ونحن نجد” وغيرها من النصوص التي تفيض بكثافة الدلالات التاريخية والوطنية التي استطاع أن يحولها بمهارته اللغوية إلى لوحات فنية ناطقة بالجمال والدهشة.
وطفت الكون .. لم أعثر
على أرض أحنّ علي من أرضك
إنّه الأسلوب الخلاق في التعبير عن عاطفة الانتماء، استطاع أن يوجد بها معادلًا موضوعيًّا يستمد من حنينه وتجليات الوطن في ثنايا الروح وميضًا وعلى الشفتين غناء. وهذا المعادل الموضوعيّ يرتبط بمجموعة من العناصر أو التفاصيل والأحداث أو المواقف التي يتشكل منها مفهوم الوطن لدى الشاعر تُحدث نوعًا من التفاعل الاتصالي الذي يجعل الوطن مركز الكون.
الوطن .. السكن الأبدي
وقد يُجسّد حبُّ الوطن والتغني به والتماهي معه في توظيف المرأة رمزًا للوطن فيمتزجان امتزاجًا لا يمكن فصله من منظور الشاعر العاشق. ولعل نص القصيبي التالي يكون مثالًا جيدًا على هذه الرمزية الخلاقة، وهذا الامتزاج البديع بين المرأة والوطن متمثلًا هنا في الرياض :
كأنك أنت الرياض
بأبعادها بانسكاب الصحاري
على قدميها
…
وفي آخر الليل يأتي المخاض
وأحلم أنا امتزجنا
فصرتُ الرياض
وصرتِ الرياض
لتيمة الوطن دورها في تشكيل الشعرية السعودية، وأحدثت بين الشّاعر والوطن تبادلًا وتكاملًا وتماهيًا
هنا يحاول الشاعر بناء تركيب مزجي، يشغل فيه كل طاقاته الإبداعية لكي يؤلف بين المرأة كرمز للعطاء والولادة والخصوبة، فيفعّل إدراك المتلقي من خلاله صناعة هذا المعادل الموضوعي الذي يتجسد فيه الوطن امرأة بكل عطاءاتها الكونية.
كما تتجلى في الشعر السعودي صور الحماس للوطن وافتدائه بالروح، فهما مثل الروحين اللتين سكنتا البدن، يقول الأمير عبدالله الفيصل:
أفديك يا وطني إذا عز الفدا
بأعز ما جادت به نعم الحياه
كل الوجود وما احتواه إلى الفنا
إلا هواك يظل مرفوعًا لواه !
ويتجلى الوطن في شعر علي صيقل في قصيدته المشهورة التي تغنَّى بها ونتغنى بها معه ” وسم (أو وشم) على ساعدي” إذ جعل الوطن يسكن جميع جسده ويتغلل فيه إلى درجة يصعب، بل ربما يستحيل، الفصل يبنهما :
وشم على ساعدي نقش على بدني
وفي الفؤاد وفي العينين يا وطني
ونجد الشاعر محمد الثبيتي في تقريرية مباشرة في بعض قصائده العمودية يقول في رثاء الملك فيصل – رحمه الله-:
أتانا بنعي الفيصل الفذ ناعب
وجاء بعهد خالدي مبشر
ثم يتحوَّل الثبيتي إلى القصيدة الوطنية الحديثة مفتتحًا ديوان التضاريس بـ “ترتيلة البدء”، وهو عنوان قصيدته الأولى، وفيها يبرز كاشفًا لأسرار البلاد:
من شفاهي تقطر الشمس
وصمتي لغة شاهقة تتلو أسارير البلاد
لغة متفائلة غير مألوفة تحيل إلى استشراف المستقبل منذ “أدر مهجة الصبح” بمركزيتها الأسلوبية في القصيدة وما تحيل إليه من ضرورة الإنجاز ومواصلة التغني بأمجاد هذا الوطن، “ثم هات الربابة” للتغني بالأمل المنتظر. ويتوحد الثبيتي مع سيرة النخلة التي تمثل ( التراث / اللغة / الوطن) بشكل منغرس في صميم تراب الوطن، حيث يقول:
وأنتَ الذي في عروق الثرى نخلة لا تموت
كما يوظف الشاعر من الواقع كل ما يحمل من دلالة العشق والارتباط والانتماء للمكان الصحراوي البدوي. يقول العاشق أنيق البداوة:
فلن تزيلي بقايا الرمل عن كتفي
ولا عبير الخزامى من عباءاتي
وفي سياق رؤيته لمهمة الشاعر عرافًا يستشرف مستقبل الوطن، يقول في جملة تختصر العلاقة بين العاشق الإنسان والوطن المعشوق:
جئت عرافًا لهذا الرمل
أستقصي احتمالات السواد
جئت أبتاع أساطيرَ ووقتًا ورماد
ويحضر الوطن في شعر علي الدميني في قصيدة عمودية تتناغم بين حالات الحب والفخر:
ولي وطنٌ قاسمته فتنة الهوى
ونافحت عن بطحائه من يقاتله
إذا ماسقاني الغيث رطبًا من الحيا
تنفّس صبح الخيل وانهل وابله
وإن مسّني قهر تلمسّت بابه
فتورق في قلبي بروقًا قبائله
إنه يرسم حالة خاصة، في علاقته بالوطن، بطريقة تفضي إلى استثارة المشاعر القوية في علاقة الإنسان بوطنه، فيبلغ بدرجة العاطفة مقامًا عليًّا، لا يصله إلا الشاعر العاشق، الذي يدخل للقصيدة شاهرًا سيف الحب لوطنه.
حتى حدود التماهي المطبق
ولم يكن تصوير الوطن في الشعر السعودي مجرد صور خيالية فحسب، بل كان الوطن مستحوذًا على الشاعر روحًا وقلبًا وعاطفة وفكرًا؛ فالشاعر كثيرًا ما يتماهى مع الوطن تماهيًا وجوديًّا مطبقًا مثلما أوضحنا حتى يصبح الوطن سكنًا وكينونة، وهو ما نجده لدى الشاعرة أشجان هندي في قولها:
أيا موطنَ الأزهارِ، داري، وقِبلتي، وغيمةَ أشعاري تَهِلُّ قصائدا
هو العهدُ يأتي طائعًا ومُبايعًا؛ بهيًّا إذا ما مرّ دهرٌ تجددا
في قاموس الشّاعرة، نلفي شعريّة مشحونة بالإيحاءات والعواطف والدّلالات والمعاني التي تحتشد لها كل المفردات التي تتزاحم في القصيد لتشكِّل مشهدًا احتفاليًّا وأفقًا رحبًا، ووعيًا مختلفًا بطريقة تشكيل العاطفة الوطنية في بناء تخطّى المألوف والجاهز وأسّس لوطن في القلب تجسد شعرًا.
ونقرأ اللوحة الوطنية المميَّزة نفسها التي رسمها الشاعر جاسم الصحيح بكلماته المنتقاة بحرفية عالية بدت في شكل عمودي محكم يتتبع فيها سيرة هذا الوطن العظيم من توحيده إلى رؤيته الكبرى، ثم يعقد مقارنة بين من عسكروا للدفاع عن الوطن بأسنتهم، ومن عسكروا للدفاع عنه بألسنتهم فيقول:
كثيرًا ما أتى التغني بالوطن مرتبطًا بمدح شخصياته المرموقة ورموزه وأعلامه، وبخاصة ملوك آل سعود، الذين أسهموا في توحيد هذا الوطن ورقيه وازدهاره
أنا والذينَ على (ثُغُورِكَ) عَسْكَرُوا
سِيَّانِ؛ يصهرُنا بكَ الإيمانُ
فأَخِي على (ثغرِ) القِتَالِ مُرَابِطٌ
حيثُ الرِّباطُ قنابلٌ ودُخانُ
وأنا على (ثغرِ) الجَمَالِ قصيدةٌ
تَحمِيكَ حين يَخُونُكَ الغربانُ
تلتف كلمة الثغر حول نفسها لتبدو ثغورًا حربية وتتحوَّل إلى قصيدة تقول الوطن، كما تحسن الحروب قذف سلاحها.
أما الشاعر محمد إبراهيم يعقوب فيركز في تصويره للوطن على إيقاع الحب اللامتناهي معه، وعلى تفاصيل المكان والإنسان، مستدعيًا المتلقي للسفر معه عبر أجنحة مفرداته العذبة النابعة صدقًا، وواصفًا شموخ هذا الوطن وإنجازات قادته متجسدِّة في خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، حفظهما الله، وذلك باستعمال انزياحات ومجازات واستعارات في غاية التفرد، وهي عناصر تشع جمالًا واعتزازًا وشموخًا، غارقة في ذات الشاعر، تسري فيه مسرى الدم في العروق،فيصدح صوته كاشفًا عن تجذره وأصالته واقفًا على رؤية وطنه. يقول يعقوب:
أنا السعودي رددت النشيد هوى
في المجد جذري وفي العلياء سنبلتي
سلمان هذا العلو الرحب في لغتي
به الكنايات زهوًا خارج اللغة
إلى أن يقول:
نجيّ رحلتنا الكبرى ومبدعها
محمد سيرة في شكل لؤلؤة
الرؤية/ الحلم معراجان قال لنا:
تهيئوا فابتكار الحلم فلسفتي
ويجسِّد الشاعر جاسم عساكر في نص باسق وطنه حبًّا وانتماءً موظفًا أيقونة النخل باعتبارها مكونًا شعريًّا ذا حمولة ثقافية معرفية وطنية ثرية، فيقول:
يا وطن النخل ومجلى التمر
من صَفْوِكَ أسبغتُ وضوئي
وأقمتُ صلاةَ الحبِّ على أرضك
ووقفتُ أمام النخل الشامخ حصنا
فالعودة إلى مكمن الأشياء وألفتها هو ما يمكّن الشاعر من أن ينصت إلى نداء الوطن الذي ينبع من الدّاخل لتتوزّع في الآفاق الواسعة بأشيائها وموجوداتها وهي تزهو بأن يحتويها الوطن. فالنخل هنا هو معادل للوطن، به يوصف منذ أن كان وهجًا من سعف، إلى أن أصبح محرابًا في صلاة الحب على أرض الوطن.
ويتنامى حضور الوطن في شعر حسن الزهراني حيث تتعالق الذات الشاعرة مع الوطن في نسيج لغوي وإيقاع نغمي يسيل عذوبة ومحبة، كل هذه الصور المتحركة والأفعال النشطة تدل على حبه للوطن وتعلقه به وعشقه إياه، حتى قبل أن يولد، وكذلك في افتتانه بتكرار عبارة (هذه الأرض)، التي تشير للوطن. وفي غمرة الفناء في حب الوطن تتحوَّل القصيدة التي يكتبها الشاعر عن وطنه إلى قصيدة جميلة ثرية يكتبها الوطن في أديم الشاعر، وهو تماهٍ جميل بين الكاتب والمكتوب في هذه القصيدة. يقول الزهراني في قصيدة (تقاسيم على أوتار الروح):
هذه الأرض عطر روحي هواها
أنا من قبل مولدي أهواها
كتبتني قصيدةً من خيالٍ
حارَ أهلُ المجازِ في معناها
شكلتني كما تشاءُ فقلبي
خاتمٌ في يمينها يتباهى
إنّ قوام هذه التّجربة العلائقية مع الوطن التي تحققها العناصر الثلاثة: الإنسان والعالم والشّعر، يجعل من الشاعر واضحًا كوضوح الأرض، ولذلك فأفكاره تتحرك تجاه الوطن وفق ما تمليه الأرض على جسده فيتشكل وفق مقتضيات هذه الأرض التي يتماهى معها فيصبح والأرض واحدًا تشكل من طينه ظاهرًا وباطنًا فلا يرى ولا يتكلم إلا من خلالها.
ويصبح الوطن قصيدة فاتنة تتوهج جمالًا لغويًّا وإبداعًا شعريًّا باذخًا، وببساطة تعبيرية على بحر الكامل تتجلى عبرها صورة الوطن وقيم العدل وقبلة الحرمين وخيمة البدو ورمزية السيف والنخلة عند الشاعرة تهاني الصبيح، ليغدو الوطن رمزًا للصمود يلوذ بسيفه في وجه من أراد به سوءًا:
والنخلة الحبلى تظلّ شعاره
ويظلّ همُّ نخيلهِ أن يصمدا
وطنٌ ترجّل وهو يحملُ سيفه
في وجهِ من شدّ النّبالَ وسدّدا
إلى أن تقول، مصورة قداسة المكان في هذا الوطن، الذي يؤمه المسلمون متلهفين لرؤيته من كل بقاع العالم، لكي يجدوا فيه راحتهم النفسية، ويستمطروا رحمات الخالق جلَّ وعلا في بقاعه المقدسة، وهي حاجات ورغبات لا يوفرها لهم في هذا العالم الفسيح إلا هو، ولذلك يصبح له هذا الدور في تشكيل مسار القصيدة:
تهفو له زُمرُ الحجيج تلهفًا
وأمام زمزم تستفيضُ الموْرِدا
فباختصار، لعبت تيمة الوطن دورًا في تشكيل الشعرية السعودية، وأحدثت بين الشّاعر والوطن تبادلًا وتكاملًا وتماهيًا، نشأت عنه معادلة هي نفسها العلاقة التي لا انفصام فيها بين الإنسان وروحه، عبّرت عن تلك الرّغبة الكامنة في عمق الإنسان الّذي يظلّ دائمًا مولعًا باكتشاف الوطن في ذاته ورؤية نفسه في تجليات الوطن من حوله، وهو شكل التماهي الوجودي الذي يعكس علاقة الإنسان بالوجود، ويصبح هذا التماهي مضاعفًا حين يجلّيه الشعر الذي هو وجود الشاعر، فيوقفنا الشعراء عند المثلث الذي لا انفصام لأحد أضلاعه عن الآخر والمتمثلة في الشاعر والشعر والوطن.
اقتباسات:
اترك تعليقاً