التعاون الثقافي السعودي التونسي
الثقافة تتحدى الجغرافية
وليد بن أحمد
المملكة العربية السعودية والجمهورية التونسية بلدان شقيقان يجمعهما التاريخ واللغة والحضارة، ولا تفرّقهما الجغرافية، إذ نجحت الثقافة في هذا الصدد في الحطّ من سقف عوائقها إلى حد كبير، فالتعاون والتبادل الثقافي بين البلدين في أوج عطائه، ويشهد تطورًا مستمرًا وفقًا لبرنامج تنفيذي مدروس يكرّس الإرث الثقافي المشترك ومفهوم التعاون في شتى المجالات الثقافية.
تسعى الإسهامات المتبادلة بين وزارتي الثقافة في البلدين لتكرّس هذا التعاون في مختلف المجالات الثقافية، وبمشاركة واسعة في مختلف الفعاليات والمهرجانات المنتظمة في كلا البلدين. وإيمانًا من المملكة بالموقع الثقافي والحضاري الذي تتميز به تونس، فقد تم اختيارها كضيف شرف بمعرض الكتاب الدولي بالرياض في دورته الأخيرة لسنة 2022م، ومنحها دورا فعالًا في تأطير المشاركات والمساهمات في إحياء التراث العالمي والاهتمام بالكتاب وأدواته المتعددة.
وقد مثّلت تونس إضافة لمعرض الرياض من خلال البرنامج المعدّ والوفد المشارك وتنوّع المحتوى ليشمل جميع أوجه النشاط الثقافي، بداية بعرض الكتاب التونسي الذي لاقى إقبالًا منقطع النظير من قبل زوار المعرض، ومرورًا بإقامة ندوات فكرية عالية المستوى أثثها خيرة المبدعين والمثقفين من تونس، اهتمت بالرواية التونسية وبقضايا الترجمة وتجربة المسرح التونسي والنقد والفكر التنويري وغيرها من المحاور الهامة. كما تضمنت المساهمة فقرات مستقلّة ضمن البرنامج العام للمعرض، ومنها ندوة “الفكر التنويري التونسي وأثره في الثقافة العربية”، ولقاء عن “التراث والثقافة والتنمية المستدامة”، وآخر عن “التراث الثقافي غير المادي” وعن التراث الثقافي المغمور بالمياه. وتمّ إحياء وصلات موسيقية وغنائية راقية على هامش فعاليات المعرض، إلى جانب إقامة احتفال بمناسبة مئوية السينما التونسية. وقد شكّلت التظاهرة فرصة للقارئ السعودي النهم للاطلاع على آخر الإصدارات التونسية بواجهة وزارة الثقافة وثلة من دور النشر التونسية التي بلغ عددها 17 ناشرًا.
ومن ناحية أخرى حلّت المملكة ضيف شرف في مهرجان سيدي بوسعيد بتونس، الذي احتفى بالأصوات الشعرية السعودية الحديثة مبرزًا المكانة العالية للشعراء السعوديين ودورهم الفعّال في مدّ جسور التواصل الثقافي بين البلدين. كما تمت ترجمة “أنطولوجيا الشعر السعودي” تشريفًا للأصوات الشعرية السعودية التي مُنحت صفة ضيف شرف لأول مرة في تاريخ المهرجان، وأرست بذلك سنّة حميدة جديدة.
ولأن السينما، إلى جانب الكتاب، أداة على قدر من الأهمية تمكّن من تقريب وجهات النظر وتكريس التعاون الثقافي، فقد حلّت المملكة ضيف شرف على الدورة الثالثة والثلاثين من تظاهرة أيام قرطاج السينمائية التي تأسست في الستينيات. والسينما في المملكة ليست وليدة اليوم إذ يعود إنتاج أول شريط إلى الخمسينيات، وعليه فإن الحضور السعودي في المهرجان كان فرصة لتكريس الانتعاش الكبير الذي يعيشه القطاع السينمائي السعودي على مستوى التمويل والعرض والإنتاج. وعلى هامش المعرض، تم تدارس مشاريع سينمائية كبرى في ظل تعاون ثقافي سعودي تونسي يجمع كثافة ومراكمة للنشاط السينمائي في تونس من ناحية، وقدرة القطب الثقافي السعودي على الإنتاج والتسويق من ناحية أخرى.
إلى جانب هذه التظاهرات المتميزة، ثمة أيضًا مشاريع شراكات طويلة المدى في شتى مجالات الثقافة، مثل التعاون بين البلدين فيما يخصّ عمليات ترميم المعالم التاريخية وصيانتها، والعمل على إحداث المركز الإقليمي للتراث المغمور بالمياه بالمهدية، ضمن فريق مشترك بين تونس والمملكة، الذي سيمكّن من إطلاق شبكة متاحف عربية تحت مائية. يُضاف إلى ذلك مشروع تبادل المخطوطات بين المكتبة الوطنية التونسية ومكتبة الملك عبدالعزيز العامة، وإنشاء المركز العالمي لفنون الخط «اقرأ» بمدينة الثقافة التونسية. وكانت المملكة قد تعهدت أيضًا بترميم مسجد عقبة بن نافع والمدينة العتيقة في القيروان.
إن ما تعيشه المملكة اليوم من نهضة فكرية وإعادة اعتبار للثقافة والفنون في تاريخها الحديث والمعاصر، يجني الواقع الثقافي العربي المشترك ثماره الدانية، لأن المساعي الثقافية السعودية واقع ملموس يتعدى الشعارات، وما التعاون والتبادل المثمر الذي يشهده المجال الثقافي بين المملكة العربية السعودية والجمهورية التونسية إلا خير دليل عل فاعلية هذا الإشعاع الثقافي، ونجاحه في مد جسور التواصل بين البلدين الشقيقين.
اترك تعليقاً