أريد أن أقارب المسألة من زاوية التجربة الشخصية في موقعين: موقع المتدرّب، وموقع المدرّب في ورشة.
فقبل عشر سنوات، حضرت أول ورشة للكتابة، وكان يشرف عليها الروائيان بهاء طاهر وإبراهيم نصر الله، والناقدة زهور كرام. ذهبنا إلى ليوا، وهي امتداد لصحراء الربع الخالي. كنا عشرة كتَّاب من جميع أنحاء العالم العربي، من مسقط شرقًا إلى طنجة غربًا، وكان مكان الورشة منتجعًا في قلب الصحراء يبعد عن المدينة 200 كيلومتر تقريبًا. عندما وصلت حملوني وحقائبي الصغيرة إلى الغرفة الخاصة بي في قلب الصحراء بعيدًا عن بهو الفندق. كانت الغرف شبيهة بتلك التي قرأنا عنها في حكايات “ألف ليلة وليلة”، التلفاز وحده يربك منظر الغرفة الواسعة المبنية من طين المكان، أثاثها من الخشب والنحاس والألياف الطبيعية.
مساء، وفي الصالة التي تنعقد فيها الورشة، اجتمع أناس لم يجمعهم إلا حب الكتابة والمعرفة.
أخبرتنا المنسقة البريطانية التي تتحدث العربية أن المقصد من هذه الورشة هو العزلة والكتابة!
وفي اليوم التالي، استيقظت مبكرًا، وتناولت إفطارًا بسيطًا، ومارست الرياضة لنصف ساعة، ثم عدت لغرفتي. فتحت باب الشرفة، وصنعت الشاي، ثم جلست على المكتب للكتابة من الساعة الثامنة صباحًا إلى الثانية ظهرًا. بعد الغداء والراحة، قضيت العصر في مراجعة النص الذي كتبته، ثم خرجت لجلسة النقاش التي استمرت من المغرب إلى ما بعد العشاء.
القرب من الصمت، البعد عن الضجيج، خلق مكانًا نموذجيًا للكتابة، هو أشبه ما يكون بحلم بسيط قد يتحقق عند من يتمنى التفرُّغ يومًا.
في هذه الورشة عرفت الكبير “بهاء طاهر”، روائي أحببته كثيرًا، وكنت أحلم بلقائه، لم أتصور أن أكون قريبًا منه إلى درجة أن أجلس بجواره أقرأ عليه فصولًا مما كتبت، ويعلِّق بأنه يشعر بصدق ما كتبت ودفئه. كنت بحاجة إلى عباراته المشجعة، ولصدق انطباعاته، ولدعابته التي تبدد توتر الكتابة. وكنت بحاجة إلى رفاق الحرف، يبعثون إطراء، ملاحظة، فكرة، تصويبًا.
هذه الورشة كان أغلب مَن شارك فيها كتَّابًا سبق لهم أن أصدروا أعمالًا سردية، وكان بعضهم لديه وعي بالفن، بل بعضهم متخصص في النقد. والمفارقة أيضًا أن أغلب من تحدَّث في الورشة هم الكتَّاب. أمَّا المشرفون، فاكتفوا في بعض الأحيان بالإنصات والابتسام، وخاصة عندما يحتد النقاش!
المشاركون كانت لهم تجربة يستطيعون الانطلاق منها، ومن ثَمَّ، وفرت لهم الورشة المكان المناسب والعزلة والرفقة. بالنسبة إليَّ أتذكر أني كتبت خمسة فصول من روايتي “الفيومي”، وما زلت أرى أن هذه الوِرش هي مكان رائع للتواصل مع زملاء الكتابة، الذين أصبحوا أصدقاء.
مساندة الكتَّاب في الرواية الأولى
بعد مرور خمس سنوات على ورشة الصحراء، اتصل بي الصديق فؤاد الفرحان وتحدَّثنا عن كيفية عمل مشروع للسَّرد؛ لأن لديَّ تجربة في الكتابة، ولديه خبرة في المنصات الرقمية، التي قد نخرج عبرها بفكرة ما لخدمة السَّرد. استمرت الفكرة تحضر وتغيب، حتى كان اللقاء مع عبدالعزيز الغامدي صديقنا المشترك، ثم قرَّرنا أن نطلق مبادرة “انثيال”؛ وهي مبادرة سردية ترافق الكتَّاب الواعدين من أجل كتابة روايتهم الأولى. أسسنا المبادرة عبر منصة “إكليل”، ثم أطلقنا النسخة الأولى عام 2019م، والثانية 2020م . وصدر عن النسختين عشرة أعمال روائية تُعدُّ الأولى لأصحابها.
كنت المشرف العام على المبادرة في نسختها الأولى التي استمرت ستة أشهر، والصديق علوان السهيمي في نسختها الثانية التي استمرت سنة، حينما استثمرنا أيام الحظر في سنة كورونا. فكنا نرافق الكاتب من الفكرة مرورًا بمراحل الكتابة، ثم التحرير، إلى صدور العمل عن دور النشر التي أسهمت معنا في نشر الأعمال.
هذه المبادرة، التي هي عبارة عن ورشة كتابة مطولة، ببساطة كان لها مخرجات لأنها كانت رقمية، وأتاحت كل السبل للتواصل مع الكتَّاب في جميع الأوقات عبر البرامج الرقمية، حتى إننا كنا نتابع سير كل كاتب أثناء كتابته على برنامج “غوغل درايف”. كنا نرافقه ونتحدث معه عن كل الصعوبات والملاحظات الفنية من دون تنظير. وكانت هذه الورشة تمتاز بأمر لم أره في كثير من الورش، وهو الوقت. لقد كانت الورشة في نسختها الثانية قائمة على مدار عام كامل، وكان كل من يعمل فيها متطوعين.
جوابًا عن سؤال الجدوى
من خلال هذه التجربة في عالم وِرش الكتابة، والخاصة بالرواية، يتساءل البعض: ماذا تقدِّم ورش الكتابة للمشاركين؟ وما الأشياء التي لا تستطيع تقديمها؟
هذا السؤال محل نقاش دائم، بين مؤيد للورش ومعارض لا يرى فيها سوى الاستغلال وقبض الأموال من معدومي الموهبة. لكني أراها فعلًا أدبيًّا صحيًّا، متى ما كانت هناك اشتراطات فنية واضحة، تتوافر في المشارك والمشرف. فالمشارك إذا كان كاتبًا، فلا بدَّ من توفر أدوات السَّرد لديه، التي تمكِّنه من خوض غمار التجربة. ومن الظلم دفع بعض ممن يفتقرون إلى أبسط أدوات الكتابة إلى هذه الوِرش. حتى إن بعضهم لديه مشكلة مع القراءة، ومع ذلك تقبلهم بعض الورش خاصة تلك التي تستلزم دفع رسوم.
فبالنسبة إلى من لديهم تجربة مع الكتابة، وقد شقُّوا طرقهم في عالم القراءة من سنوات طويلة، تعدُّ الورش تجربة رائعة ومفيدة، خاصة إذا منح القائم على الورشة خبرته وتجربته بإخلاص. ولكن، ما الحدود بين ما يشاركه المدرّب مع المتدربين وما لا يشاركه؟
حتى لو أراد المدرب ألا يبخل بكل خبرات عمره في الكتابة، فحدود الاستجابة محكومة كذلك بخبرات وتوجهات مشاركين متعددين. ويبقى أن الرفقة تضيء عوالم السَّرد. ربَّما يدور حديث جانبي حول شكل الرواية، فتكون إضافته أفضل من ساعات من التنظير.
أمَّا الأشياء التي لن تمنحها الورش، فهي اللغة السَّردية التي تكتب بها، وهو الأسلوب الخاص، القدرة على خلق المتعة في النص. هذه الأشياء بيد الكاتب نفسه. وهناك روح وإحساس وجمال وسحر، لن تمنحه لك وِرش الكتابة، ولا أعظم الروائيين والمحررين في عالم الأدب. هذا شأنك أنت فقط.
بعيدًا عن المال، ماذا قدَّمت لي وِرش الكتابة بعد أن عقدت الكثير منها؟ لقد عزَّزت لديَّ روح العطاء ومشاركة المعرفة والتجربة للآخرين. وهذا ما تلبث أن ترى أثره ماثلًا أمامك عبر أعمال كانت في السابق مجرد فكرة!
اترك تعليقاً