في منتصف التسعينيات الميلادية، كتبتُ عن طليعية التحديث المبكرة للتجربة الشعرية النبطية المجددة للشاعر الراحل الحاضر الأمير بدر بن عبدالمحسن، رحمه الله، وذلك عبر مقال من سلسلة مقالاتي “قراءة ذاتية لتيار جماعي” المتبادلة مع الشاعر علي الدميني. وقد تكون هذه أحد الأسباب، التي حدت بمجلة القافلة أن تطلب مني المشاركة بمقال عن تجربته الشعرية، حرصًا منها على استحضار هذه التجربة الفذّة، والكتابة عنها بروح الإبداع وليس بروح الحزن أو الرثاء، والتفجع على جمال ووجع تلك الكتابات، التي شهد رحيل الشاعر سيلًا غير عادي منها.
من الصعب بالنسبة إليَّ ادعاء قدرة الكتابة عن تجربة الشاعر بدر بن عبدالمحسن في مقال، فذلك كمن يريد أن يصبَّ نهرًا لا نهاية له في كأس، أو من يريد أن يكتب بحبة رمل واحدة صحراء شاسعة. ولهذا سأحاول الكتابة باختصار مُخلٍّ جدًا عن محاور من تجربته الشعرية بوصفه شاعرًا نبطيًا “حداثيًا” بامتياز. مع أن شعره كان من المكر الإبداعي والمنعة الاجتماعية والحصانة، بما لم يسمح بنعت الشاعر بالحداثي ولا في أحلك لحظات الهجمة على الحداثة بوصفها مشروعًا ثقافيًا مجددًا على الساحة الثقافية السعودية.
التفاعل الحر مع التجربة “الرحبانية”
المحور الأول، من خلال معايشتي وقراءتي لتجربة البدر الشعرية، يتمثّل في تجديدها للقصيدة النبطية، وفي إضافتها النوعية للقصيدة المغناة وارتباطها بها عبر خيطين هما: خيط الموسيقى، وخيط التواصل مع طيف بشري عريض.
وهي تجربة تتماهى في “تأثيرها الاجتماعي” وفي “وقعها الثقافي” سعوديًا، ولاحقًا عربيًا، مع التجربة “الرحبانية”، وذلك من ثلاث نواحٍ. أولاها ناحية تجديد القصيدة المكتوبة باللهجة المحكية نفسها تجديدًا متجاوزًا لما سبقه، ولكن باللهجة المحلية السعودية. والثانية ناحية خلق حالة تعالق خلاق بين القصيدة النبطية الحديثة والموسيقى بإيقاعاتها وأدواتها الحديثة بما أضاف على الأغنية شرطًا جماليًا مجددًا تمثّل في تمازج الشعر والموسيقى تمازجًا حيويًا مشتقًا من روح اللحظة المعاصرة. أما الناحية الثالثة في تماهي هذه التجربة مع التجربة الرحبانية، فتتمثّل في قدرتها على التسلل بسهولة ويسر، رغم اختلاف اللهجات العربية، إلى أسماع وقلوب قطاعات واسعة من الناس، لا تنحصر في أي من النخب المتعارف عليها عادة، ولا تقتصر على الذائقة القطرية.
هذا، مع ملاحظة مهمة وجذرية لا بدَّ منها، وهي أن تماهي تجربة البدر الشعرية مع التجربة الرحبانية، جاء دون أدنى تبعية لتجربة البدر على الإطلاق للتجربة الرحبانية على الفارق العمري بينهما. كما أن مضاهاة تجربة البدر لتجربة الرحبانية جاءت دون أي ارتهان لمحدداتها وخصوصيتها، بل إن البدر قد تماسّ مع التجربة الرحبانية بوصفها ظاهرة شعرية موسيقية وحالة ثقافية جماهيرية فريدة من نوعها (كما استوحيتُ ذلك من مقابلة له مع نرفانا إدريس من إعداد قاسم عبدالقادر الميع وإخراج علي الريس ونواف الشمري، وعُرضت على قناة التلفزيون الكويت عام 1997م وشاهدتها عدة مرات).
وإن شكّلت التجربة الرحبانية بطبيعة الفارق الزمني وفوارق موضوعية أخرى، مدرسة أولى عظيمة لهذا النوع من المزاوجة التجديدية بين الشعر الشعبي الحديث المكتوب باللهجات المحلية، وبين الموسيقى والغناء والتفاعل الجماهيري الواسع غير النخبوي في عمل إبداعي عميق وغير شعبوي. غير أن تماس البدر معها، أو حتى استلهام جوانب منها في تجديد القصيدة المكتوبة باللهجة المحكية قد جاء، فيما أرى، مستقلًا تمامًا بما مكّنه من السير في مشروعه الشعري التجديدي في مجال القصيدة النبطية المغناة نحو آفاق بعيدة وسماوات عالية خاصة به وبتطوير الشعر النبطي في السعودية والخليج.
ولا أظن أن التماهي بين التجارب المؤثرة إلا فعل تفاعل إنساني طبيعي وجميل، خاصة في ضوء ما بينهما من تباعد زمني ومناخي، وإن جمعتهما مشتركات الحبر والحلم. فقد جاء تفاعل تجربة البدر الشعرية التجديدية وأفقها وارتباطها بالموسيقى مع التجربة الرحبانية بذلك الشرط الإبداعي الجوهري، وهو شرط حرية واستقلال كل تجربة بذاتها وبمشروعها الشعري الخاص.
تعدد الطيف الوطني وتنوعه
المحور الثاني في تجربة البدر الشعرية هو محور غاية في الحساسية، وأرى أنه قد تطور تطورًا تصاعديًا عبر مراحل تجربة الشاعر بدر بن عبدالمحسن في تجديد القصيدة النبطية، وهو محور تعدد اللهجات المحلية السعودية التي كتب بها البدر قصيدته النبطية الجديدة، وخاصة المغنّى منها. والحقيقة أن هذا المحور يُحسب له في ميزان المواقف الوطنية الشريفة بوصفه شاعرًا، وليس أميرًا وحسب، في وعيه ليس فقط بأهمية الوحدة الوطنية، بل بأهمية تمثيلها لكل أطياف الوطن على قدم المساواة. فالأغنية السعودية مرَّت بمرحلة، وإن لم تطُل، كان يغلب على شعرها الغنائي اللهجة النجدية، فصار بعض كتاب الأغنية يكتبون أعمالهم بها وإن كانت ليست لهجتهم المحكية، وذلك مجاراةً اجتهادية منهم؛ إذ لا أظن أحدًا طلب منهم ذلك. فجاء البدر ليخرج على سلطة التوقعات ويكتب للأغنية السعودية شعرًا يعدل بين جميع لهجات المناطق ويمثل تنوعها الجمالي.
ففي قصيدة “عطني المحبة”، التي غناها طلال مداح وكتبت أول أقدار البدر بوصفه شاعرًا مجددًا نبطيًا وغنائيًا، فاجأت القارئَ القصيدةُ كما فاجأت المستمعَ الأغنية بالمزج بين لهجات المملكة في تخلقها الجديد من نسيج المجتمع السعودي في تكوينه الوحدوي بعد تأسيس دولة المملكة العربية السعودية. ففي هذه القصيدة نجد عبارة “عطني المحبة” مثالًا على لهجة نجد، وعبارة “أبغى وجودي” مثالًا على لهجة الحجاز:
عطني المحبة.. كل المحبة.. عطني الحياة
عطني وجودي.. أبغى وجودي.. أعرف مداه
وما لبث البدر حتى كتب القصيدة التي خطفت القلوب والأسماع داخل المملكة وخارجها بالعالم العربي، بما صار مضاهيًا في فترة متقاربة من السبعينيات الميلادية لوهج قصيدة “قارئة الفنجان” (الفصحى التفعيلية) للشاعر الكبير نزار قباني التي غنَّاها عبدالحليم حافظ. فقد جاءت قصيدة “زمان الصمت” (النبطية التفعيلية) للشاب المتوهج توًّا، حينذاك، الشاعر بدر بن عبدالمحسن، مغناة بصوت طلال مداح تمثّل قصيدة ما يسمَّى “اللغة البيضاء”، أو ما أسميه “اللهجة السعودية البيضاء”، التي تطورت تطورًا أخاذًا في تمثيل تمازج متفرد لجميع لهجات مناطق المملكة المتعددة والمتنوعة.
ومن كلمات قصيدة “زمان الصمت” التي كانت بحد ذاتها علامة فنية فارقة في الشعر الشعبي المُغنّى:
حبيبي يا حبيبي
كتبت اسمك على صوتي
كتبته في جدار الوقت
على لون السما الهادي
على الوادي
على موتي وميلادي
غير أن تجربة البدر في تجديد القصيدة النبطية في هذا الجانب بالذات، لم تكتفِ بالممازجة بين الفصحى واللهجة النجدية كما في “زمان الصمت”، بل ذهب لاجتراح كتابة القصيدة النبطية بلهجات أخرى من لهجات المملكة. ومنها تجربته التجديدية في إعادة كتابة قصيدة “يا مركب الهند”. من قوله: “يا ليتني كنت ربانه.. لكتب على دفتك سطرين”، إلى أن يكتب: “طال انتظاري وقلبي جريح وأبحر بشوقي لنور العين.. بحر الأماني.. ما له مواني.. ضيع زمانك.. وضيع زماني.. وضاع المركب بربانه”. ومن الواضح حضور اللهجة الحجازية في تجديدية هذه القصيدة التي تعود نسختها الأولى إلى مطلع القرن العشرين.
شاعرية البدر الأوبرالية
وعلى الرغم من أنه ليس لدي من التعمق في قراءة الأوبريتات الوطنية التي كتبها الأمير بدر بن عبدالمحسن ما يكفي لأقدم رأيًا وافيًا في هذا الموضوع، فإنه يصعب الحديث عن تجربته الشعرية دون إفراد حيز ولو رمزيًا لهذا الجزء العزيز على قلبه، كما صرح مرارًا وتكرارًا. وفي الوقت نفسه، أجد أيضًا أنه من الصعب عدم المرور بهذا الجزء من تجربة الشاعر ولو مرور الفراشة بغابة، نظرًا لتفرُّد التجربة واهتمامها النوعي بكتابة قصيدة الأوبريت الوطنية.
تلك الأوبريتات لم تكن عملًا شعريًا فقط، بل كانت عملًا فنيًا متعدد الأعمدة والأبعاد. فبطبيعتها الأوبرالية تشمل الموسيقى والغناء والأداء الفلكلوري الحركي من الرقص إلى الإيماء، إضافة إلى كونها عملًا مسرحيًا، من الكلمة الشعرية الأولى وتعدد المشاركين وأدوارهم الأدائية في الأوبريت، إلى تدرّجات الإضاءة واستدارة الكاميرا والأزياء والمكياج، ومن أرضية المسرح إلى الديكور وتفاصيل المونتاج والإنتاج والإخراج الأخرى.
إن تجربة الأمير بدر في هذا المجال غير مطروقة كثيرًا في فضائنا العربي والسعودي. ولهذه التجربة تميُّزها حتى بالمقارنة مع الفضاء الفلسطيني الذي يشكّل فيه الشعر الوطني، سواء بمعناه الجمالي المطلق أو بمعناه السياسي الخاص، الحبل الشوكي لحالته الشعرية وتحولاتها منذ اشتهاره كشعر مقاومة وحتى الآن. فصحيح أن مارسيل خليفة قد لحّن وغنّى شعر محمود درويش وشعر سواه من القصائد الوطنية، إلا أن ذلك لون وخط مختلف. وإن كان بينهما تقاطعات الهاجس الشعري بغض النظر عن التمايز والمفارقات.
وباختصار مُخل مرة أخرى، ما أريد أن أشير إليه مجرد إشارة تحتاج إلى تعميق. وهي أن تجربة الشاعر بدر بن عبدالمحسن في كتابة قصائد الأوبريت الوطنية على وجه الخصوص، تُعدُّ جزءًا عضويًا وملمحًا بارزًا من ملامح تجربته الشعرية، وأنه في هذه التجربة قد كتب قصائد تجاور وتمازج بين اللغة العربية الفصحى وبين اللهجة المحلية في كتابة قصيدة نبطية مجددة في صورها، وفي تركيبها ومزاجاتها وبلاغيتها، وفي نضارة لغتها وبعدها عن الصور والتعبيرات المستهلكة أو المرهقة جماليًا من كثرة تكرار استخدامها في القصائد النبطية العادية.
والأهم في إشارتي هذه، أنه بكتابة ذلك النوع من الأوبريت الوطني فقد انحرف عن قصد أو عن غير قصد عن معتاد الشعر عمومًا، والشعر النبطي خاصة، “انحرافًا إبداعيًا محددًا”، سمح له بهز موروث “شعر المديح”. فلم يأتِ شعره تمجيدًا بلاطيًا كمعتاد ذلك الغرض من أغراض الشعر، مقتصرًا على علاقة أحادية بشخص الممدوح تبالغ في تعديد ووصف مزاياه وأفضاله؛ بل إن ما كُتب في هذا المجال، وأشدد هنا على هذا القول، قد جاء بلغة عصرية جديدة قادت إلى إنتاج أوبريت شعرية في تمجيد الأرض والانتماء والهوية (بمفهومها المعاصر)، بما نجح في إعطاء شخص “الممدوح” حيزًا رمزيًا في مجمل العلاقة بالوطن، وليس حيزًا مطلقًا أو طامسًا لعناصر التكوين الوطني الأخرى. ومن أمثلة ذلك أوبريت “فارس التوحيد”.
فمع أن الشاعر يذكر بطبيعة الحال ثلاثة من أسماء قادة المملكة في الأوبريت، إلا أنها تأتي ختامًا لقصيدة تميزت بالتغني بحب الوطن في المطلق الشعري، وفي هاجس الشاعر الشخصي بالهوية والانتماء. وأختم بمقاطع من قصيدة تلك الأوبريت:
“صوت النوارس غاب … طير ورحل لأرضه
وفي الجناح عقاب … طير ورحل لأرضه
وداعتك يا طير … لا من رجعت بخير
جب للغريب تراب … من الوطن وأرضه”
“قُم وارفع الأذان … لا بد أن نصلي
في القدس أن نصلي … في المسجد القديم
ينساب في عروقي … نهر من النخيل
يفيض في المآقي … حزن على الخليل”
“قرن مضى بلادي … إذ تهطل السنين
كالغيث في البوادي … ويعشب الحنين
قرن مضى وأنت … عزيزة كريمة
في المجد والمعالي … جديدة قديمة
عظيمة بلادي …. في روحها عظيمة”
اترك تعليقاً