دشّن مركز الملك عبدالعزيز الثقافي العالمي (إثراء)، يوم الأربعاء 18 ديسمبر 2024م، كتاب “الأمثال العربية لجيل الألفية” بالتزامن مع احتفالات اليوم العالمي للغة العربية، حيث نظّمت مكتبة “إثراء” جلسة حوارية بهذه المناسبة تشرفتُ بإدارتها، وشارك فيها كل من محمد طحلاوي ود. سمير محمود وكيت ديلون ومعجب الشمري.
افتتح الجلسة الحوارية رئيس مكتبة إثراء، عبدالله الحواس، الذي سبق أن أشار في مقدمة الكتاب إلى أن الهدف منه هو المحافظة على الموروث العربي الأصيل وتبسيطه، بتقديم شروحات عصرية للأمثال تخاطب الجيل الجديد من الشباب والفتيات العرب. كما يهدف الكتاب إلى “استكشاف عالم الأمثال، من خلال تقديم مجموعة مختارة من الأمثال العربية الأصيلة والشعبية يزيد عددها على 150 مثلًا، مع ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية”.
بعض هذه الأمثال من أقوال العرب ويتداوله الناس منذ 1500 سنة، فهو عابر للأجيال، وبعضها مستلهم من الشعر العربي، والنوع الثالث مستمدٌ من الموروث الشعبي والثقافة الدارجة في زمننا، يتداولها الناس بلهجة عامية ومنها ما هو شبه فصيح. وقد ذكر الحواس أن “الهدف من هذا العمل يتجاوز مجرّد نقل الكلمات، إلى تفسير المعاني والسياقات الثقافية التي تعكسها هذه الأمثال. والمأمول أن تلهم أشخاصًا مؤثرين من حول العالم لاستخدامها مثلما نستشهد نحن العرب أحيانًا بمقولات وحكم من شعوب وثقافات أخرى. ونحن نؤمن بأن الحكمة التي تحملها الأمثال العربية قادرة على تجاوز الحدود اللغوية والثقافية، وأنها تظل صالحة للتطبيق في حياة الناس في مختلف بقاع الأرض … لذا نأمل أن يُسهم هذا الكتاب في تعزيز الفهم المتبادل بين الثقافات، وأن يكون جسرًا يربط بين العالم العربي والناطقين باللغة الإنجليزية من الثقافات المختلفة في هذا العالم الشاسع”.
وقد عايشتُ تجربة العمل في هذا المشروع بكل مراحلها وتفاصيلها، حيث عملت ضمن فريق من المراجعين للكتاب، وأرى أن كتاب “الأمثال العربية لجيل الألفية” عمل مميز، وخطوة وإن كانت صغيرة، إلا أنها مهمة في إتاحة الثقافة والأمثال العربية للعالم. فالأمثال هي خلاصة تجارب وخبرات الأفراد والمجتمعات، وتساعد في إيصال المفاهيم الحياتية والأخلاقية والتنمية الذاتية والتأملات العميقة في الحياة وفي طباع البشر بين أفراد المجتمع الواحد، كما تعزز التفاهم والتواصل بين الثقافات المختلفة. والكتاب يثير قضية مهمة تتعلق بمدى إمكانية ترجمة الأمثال والحكم العربية، بمعانيها ومبانيها، إلى لغات أخرى مع الحفاظ على معناها الثقافي وإيقاعها اللغوي. فالترجمة الممتازة هي التي تستطيع تجاوز حواجز اللغة والثقافة والمكان والزمان وتحقق عنصرين مهمين: أولهما ترجمة دقيقة للمعنى ليكون واضحًا ومحتفظًا بدلالته في اللغة والثقافة التي ينتقل إليها، وثانيهما صياغة قالب لغوي مؤثر من حيث الإيجاز والإيقاع في اللغة المنقول إليها.
وقد خرجت شخصيًا من هذه التجربة ببعض التأملات والدروس والملاحظات، التي أراها مهمة ويجدر الالتفات إليها قدر الإمكان عند ترجمة الحكم والأمثال، أستعرضها في هذه المقالة.
تعدد الصيغ لبعض الأمثال في مصادر اللغة
هناك إشكالية في اختيار ألفاظ المثل العربي، فكثير من الأمثال يأتي على عدة صيغ بالعربية تختلف فيما بينها. مثلًا: مقولة “إذا أخذت عملًا فقع فيه، فإنما خيبته توقيه”. فهناك صيغ أخرى لنفس المثل المنسوب إلى علي بن أبي طالب، كرم الله وجهه، منها: “إذا هبت أمرًا فقع فيه، فإن شدة توقيه أعظم مما تخاف منه”. مثال آخر مقولته كرم الله وجهه: “السعيد من وُعظ بغيره”، فله صيغة أخرى مشهورة “السعيد من اتعظ بغيره”.
قدرة المعنى على تجاوز الحواجز
بعض المعاني ذو طابع محلي وبعضها ذو طابع عالمي. بعضها صالح في زمن ما وبعضها صالح لكل زمان. مثلًا الحكمة القائلة: “السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة”، ترجمتها جيدة ومعبرة حينما تقول: The sky doesn’t rain gold or silver. وكذلك “الحاجة أم الإختراع” ترجمتها سهلة وجيدة Necessity is the mother of invention ، وهو مثل شائع في عدة لغات وأصله يُنسب إلى أفلاطون. بينما المثل العامي “سَوّ خير وقِطَّه في البحر” نموذج على أن الترجمة يمكن أن تصبح مفرغة من المعنى Do good and throw it in the sea، فليس من السهولة فهمه من خارج الثقافة المحلية، ولا يتماشى مع المنطق السائد لدى شعوب أخرى إلا بشرح مفصّل.
أما عبارة “غيض من فيض” A drop from a flood، فإنها تصبح غامضة وتفقد جزءًا من معناها عند نقلها للإنجليزية. وكذلك مثل “وافق شن طبقة”، أو “أبصر من زرقاء اليمامة” With more foresight than Zarqa Al-Yamamah، فكلاهما يتطلب نقل القصة التاريخية المرتبطة به. أيضًا، المثل “فاقد الشيء لا يعطيه” يفقد كثيرًا من إيقاعه عند ترجمته One who lacks something cannot give it، وكذلك المثل العامي “شدة وتزول”Hardship, then it passes، لا يحتفظ بجماله العربي عند الترجمة.
وبالنسبة لحواجز الزمان، أحيانًا تكون الكلمة المُترجمة غير معروفة أو مستعملة لدى الجيل الحالي. مثلًا، “آخر العلاج الكيّ” The last treatment is cauterization، فقليلٌ من جيل الألفية ممن لغتهم الأم الإنجليزية اليوم يعرفون كلمة الكي cauterization. وأحيانًا لا يوجد للكلمة رديف جيد في الإنجليزية، مثل “أول الغيث قطرة”، فكلمة “غيث” لا يوجد لها ترجمة سوى rain، وهي قاصرة عن نقل المعنى بتمامه.
وبشكل عام فإن الأمثال التي تكون مرتكزة بشكل أساس على المعنى القابل لتجاوز حدود المكان والزمان وحاجز الثقافة، بحيث تقبل الانتقال خارج إطار الثقافة المحلية إلى الثقافة الإنسانية الأوسع، فعندها تكون ترجمتها أسهل نسبيًا من الأمثال التي ترتكز على المعاني والإيقاع اللفظي. أما الأمثال ذات المعاني المحلية البحتة فقابليتها منخفضة للترجمة المؤثرة.
كيف تُترجم “كما تدين تُدان”؟ أو “درهم وقاية خير من قنطار علاج”؟ أو “لكل مقام مقال”؟ وهل يمكن نقل معاني ومباني مثل هذه الأمثال عبر الثقافات من خلال الترجمة؟
ترجمة الأمثال بين المعنى والمبنى
لا شك أن المعنى في الأمثال والحكم أهم من المبنى، ولكن المباني المحكمة ذات الألفاظ الموجزة والإيقاع الرنان هي ما يمنح المعاني الشهرة والانتشار، ويعزز استحسان الناس لها والاستدلال بها وانتقالها عبر الأجيال. فالأمثال والحكم أساسها المعاني المركزة في كلمات موجزة تتراوح عادة من كلمتين إلى خمس كلمات، ويكون فيها إيقاع لفظي مميز. فإذا كان البعض يعرّف الشعر بأنه الكلام الموزون المقفى، فإن الأمثال هي الكلام الموجز ذو المعنى العميق والإيقاع اللفظي الرنان. وغالبية الحكم والأمثال ذات صياغات نثرية، وبهذا فهي تختلف عن الشعر بعدم اشتراط الوزن والقافية، وإن كان بعض الأمثال يتضمن سجعًا.
ومع الأسف فإن ترجمة المعنى والمبنى معًا أمر في غاية الصعوبة، مثل عبارة “إن مع العسر يسرًا”، التي تُرجمت بمعناها فقط دون إيقاعها الجميل: After hardship comes ease. وليس من السهل ترجمة الأمثال بإيقاعاتها وسجعها وأوزانها. وإن كان ذلك ليس مستحيلًا في بعض الأحوال، ولكنه يحتاج إلى مستوى إبداعي فائق، مثل “الطبع يغلب التطبع”، الذي تُرجم إلى: Nature beats nurture، وهي ترجمة مقاربة ومفهومة تحتفظ بالمعنى والإيقاع اللغوي أيضًا. بينما مثل “العقل السليم في الجسم السليم” A healthy mind in a healthy body ، فهو متكافئ بين العربي والإنجليزي.
وإذا استطردنا بذكر نماذج أخرى، تُرجمت عبارة “من جد وجد ومن زرع حصد” إلى Whoever strives will find, and whoever sows will reap، ولا شك أن الفرق شاسع في “الحلاوة” اللغوية، أو “من شب على شيء شاب عليه” Who is raised in custom, matures likewise، أو “دوام الحال من المحال” The permanence of a state is impossible، أو “الدهر يومان يوم لك ويوم عليك” Time has two types of days: A day for you , and a day against you، أو “الجار قبل الدار” Choose your neighbors before choosing your home .
وكيف تُترجم “كما تدين تُدان”؟ الجناس اللغوي واضح في المثل ولا تعكسه الترجمة What goes around comes around. أو كيف تترجم “درهم وقاية خير من قنطار علاج”؟ أو “لكل مقام مقال”؟ وهل يمكن نقل معاني ومباني مثل هذه الأمثال عبر الثقافات من خلال الترجمة؟ من خلال تجربة نقل الأمثال العربية للإنجليزية في هذا الكتاب تبيّن صعوبة ذلك، وأن نحو 20% من الأمثال العربية تكون لديها قابلية انتقال المعنى بشكل موجز ومؤثر لثقافة أخرى؛ لأن المعاني المنقولة من ثقافة قد لا تكون ذات مغزى ودلالة عميقة في ثقافة أخرى. ونسبة أقل من الأمثال العربية تكون لديها قابلية الجمع بين المعنى المركز والمبنى الموجز الرنان عند الانتقال للغة أخرى.
الحاجة للتصرف عند الانتقال للغة أخرى
حين نتأمل ترجمة عبارة “السعيد من وُعظ بغيره” إلى: The wise person learns from the mistakes of others. نلاحظ هنا، أن كلمة “wise” (وتعني الحكيم) اختيرت بدلًا من الترجمة الحرفية لكلمة “السعيد” إلى “happy”، وذلك لتعميق الدلالة بما يتلاءم مع المنطق السائد والثقافة المُترجم إليها. فكلمة “wise” أكثر ملاءمة لدى من تمثل الإنجليزية لغته الأم، بحسب ما أخبرنا المراجعون الإنجليز والأمريكيون الذين شاركوا في العمل. أما “أسمع جعجعة ولا أرى طحنًا”، فتُرجمت إلى: I hear noise but see no grinding، وهي ترجمة دقيقة نسبيًا لكنها تفقد النكهة الإيقاعية، فكلمة “جعجعة” لها رنين لفظي يعزز بلاغة المعنى.
وهناك من الترجمات ما قد تكتسي بمبانٍ أجمل من الأصل، مثل ترجمة “الطيور على أشكالها تقع” Birds of a feather flock together. ولا بد هنا من الإشارة إلى أن الترجمة غير دقيقة ولكنها محتفظة بروح المعنى، فهي تقول إن “الطيور تطير مع أشباهها”. ففي المثل العربي استُخدمت كلمة “وقوع” للطيور، أما عند ترجمته فاستُخدمت كلمة “صعود” و”تحليق”.
وهناك أمثال قد تتطلب التصرف قليلًا في معناها أثناء الترجمة. مثلًا مقولة “اعقلها وتوكل”، وهي من الحديث الشريف، تُرجمت إلى Think it through, and trust God. وهي ترجمة تقترب من المعنى الاصطلاحي، لكنها تفقد الإشارة الثقافية إلى ربط الناقة. وغالبية الناس لا تفكر بشخص يربط أو “يعقل” ناقته ثم يتوكل على الله عندما تقول هذا المثل، بل ما يتبادر إلى الذهن هو أخذ الأسباب ومن ثم التوكل على الله عند الإقدام على عمل. وأتذكر أن محمد عبدالحميد طحلاوي (رئيس تحرير مجلة القافلة سابقًا)، وهو متخصص في اللغة الإنجليزية في الدراسة الأكاديمية ولديه براعة في اللغة العربية ومطلع اطلاعًا واسعًا على الثقافتين العربية والإنجليزية، تساءل لماذا لم يُترجم المثل إلى Do the right thing, and trust in God ؟
ويمكن القول إن هناك ثلاثة أنواع من الترجمة للأمثال. أولها ترجمة التطابق، عندما ينجح المترجم في نقل المثل من لغة إلى أخرى بصورة متطابقة تمامًا. وهناك ترجمة التماثل، وهي عندما ينجح المترجم في نقل المثل إلى لغة أخرى بنسبة عالية جدًا لكنها لا تصل إلى حد التطابق. وهناك ترجمة التشابه، وهي نقل المثل إلى لغة أخرى بحيث يحتفظ بأساسياته ولكنه يفقد أجزاء ملحوظة من أصله.
أمثال تعتمد على ألفاظ عربية غير مألوفة
إذا تأملنا المثل العربي “بلغ السيل الزُبى”، نجد كثيرًا من الناس يذكر المثل ولا يعرف معنى كلمة “الزُبى”، ولكن اللفظ من الغرابة بحيث يتذكره الناس، وكأن التكرار أكسب السامعين فهمًا سياقيًا دون الحاجة لمعرفة معاني الكلمات. وإذا ترجمت المثل حرفيًا بمعاني الكلمات دون المعنى الاصطلاحي، فينبغي تفكيك معنى “الزبى” وهي جمع زبية، فتقول ما معناه “بلغ السيل مصيدة الأسود في أعالي الجبال”. ولكن القصد من المثل أن “الأمر بلغ حدًا لا يُطاق”، ومن يستخدمه على الأرجح لا يفكر في مصيدة ولا في أسد ولا في جبل. أمّا ترجمة المثل إلى: The torrent reached the highest mountain، أي “بلغ السيل أعلى الجبل”، فتُفقده البعد البلاغي. ومن الأمثلة المشابهة أيضًا “لا يعرف كوعه من بوعه”، فكثير من الناس لا يعرف معنى كلمة “بوع” (عظم يلي إبهام الرِجل)، ولكن يتكون لديه فهم سياقي من تكرار سماع المثل في سياقات متشابهة.
ترجمة الحكمة في الشعر
يدخل في ترجمة أبيات الحكمة الشعرية عامل إضافي وهو ضرورات الوزن والقافية إذا كان الشعر عموديًا. ومن الصعب عمليًا اشتراط أن تكون الترجمة بوزن شعري. ولكن من المهم للمترجم أن يعرف أن بعض مفردات البيت الشعري في صيغته العربية من ضرورات استقامة الوزن وليست ضرورية للمعنى، وبالتالي ليست ضرورية للترجمة وإنما اختيارية. مثال: “إذا غامرت في شرف مرومِ.. فلا تقنع بما دون النجومِ”، كان يمكن ترجمته إلى If you dare to dream of honored glory, do not settle for less than the stars ولكن بوسعنا الاستغناء عن كلمة “مروم” (honored) في ترجمة هذه الحكمة. وقد افتقدت الترجمة هنا الوزنَ الشعري كما افتقدت إيقاع كلمتي “مروم” و”نجوم”. كذلك ترجمة “ولا يُصلحُ العطار ما أفسد الدهرُ” No perfumer can fix what age has ruined، افتقدت الإيقاع الشعري.
وفي المقابل، قد يتصرف المترجم أحيانًا لبث روح شعرية في الترجمة تحاكي الأصل، ويبتدع كلمات لها معانٍ قريبة ولكنها مختلفة شيئًا ما. مثال ذلك “ويأتيكَ بالأخبارِ من لم تزودِ” تُرجمت إلى Tidings arrive, borne from shores beyond your view، وهي ما يمكن ترجمتها عربيًا إلى “تأتي الأمواج المحمولة من شواطئ بعيدة عن حد النظر”. وعندما يقترن البيت الشعري بمعانٍ دينية فإن نقله للغة أخرى ذات ثقافة ليس فيها المشترك الديني يُصبح معقدًا. مثل ترجمة “دع الأيام تفعل ما تشاءُ.. وطب نفسًا إذا حكم القضاءُ”، Let days unfold as they be ordained. Make peace, my soul, when destinies obtained.
أمثال لها نظائر في الإنجليزية
بعض الأمثال لها مكافئات لغوية في لغات وثقافات أخرى. المثل العربي “عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة” يتشابه كثيرًا في المعنى ويختلف جزئيًا في اللفظ مع المثل الإنجليزي: A bird in the hand is worth two in the bush. وهناك مثال “البعيد عن العين بعيد عن القلب” Out of sight, out of heart ، إذ يوجد له مثل مشابه جدًا في الإنجليزية وهو Out of sight, out of mind، ومثله المثل العربي “الصديق وقت الضيق” A true friend in the time of distress ، الذي يقابله المثل الإنجليزي A friend in need is a friend indeed.
ختامًا، ترجمة الأمثال العربية عملية معقدة تحتاج إلى توازن بين المحافظة على المعاني الثقافية وإيصالها بسلاسة إلى المتلقي في لغة وثقافة أخرى. ومن الضروري إدراك أن كثيرًا من الأمثال تتطلب تفسيرًا سياقيًا أكثر من مجرد ترجمة نصية، مما يجعلها نافذة لفهم الثقافة العربية الغنية، وهذا بحد ذاته قيمة مهمة في التواصل بين الثقافات.
اترك تعليقاً