في حياة كل منا أسرار؛ قد نبوح ببعضها ضمن دائرة صغيرة نثق بأنها لن تخرج بها إلى العلن، وقد نحتفظ ببعضها الآخر في خزائن مخبأة في أعماق النفس خلف أبواب مغلقة بإحكام. فالأسرار هي “ثوبنا البشري الذي نرتديه بإتقان كي نخفي ظلمة طبيعتنا الحقيقية”، على حدّ قول الشاعر الإنجليزي الشهير وليام بليك. ورغم أن بليك لم يقصد أي إطراء في مقولته هذه، فمن المؤكد أن السرية تشكل جزءًا غير مرئي من نسيج العلاقات البشرية. وبشكل عام، فإن الغاية من توضيب أي معلومة أو قصة وإلقائها في أعماق النفس بعيدًا عن أعين الآخرين ومسامعهم، يكون في غالب الأحيان لحماية الذات أو الآخرين، بالمعنى الأوسع لكلمة “حماية”.
مهى قمر الدين
في كتابه “الحياة السرية للأسرار: كيف تشكل عوالمنا الداخلية رفاهيتنا وعلاقاتنا وشخصيتنا” الصادر في 2022م، استطلع مايكل سليبيان على مدى عدة سنوات آراء أكثر من 10000 شخص حول أسرارهم. وخلص هذا الباحث وهو أستاذ القيادة والأخلاق في جامعة كولومبيا الأمريكية إلى أن %97 من الناس يحتفظون بسر مهم في أي وقت من حياتهم، وأن الشخص العادي يحتفظ إجمالًا بحوالي 13 سرًا، ومن بينها ثلاثة أسرار لا يشاركها مع أي شخص آخر على الإطلاق.
ويميّز سليبيان بين السرية والخصوصية، فيوضح أن السرية هي بمثابة نية لحجب معلومات معينة، في حين أن الخصوصية هي حدود ما يمكن للمرء أن يكشفه للآخرين من معلومات شخصية. وفيما يتعلق بالسرية، فعادة ما يحفظ الناس الأسرار عن أصدقائهم وأفراد أسرتهم وزملائهم في العمل وحتى عن شركاء حياتهم. يبقونها في قلوبهم ويقفلون عليها بشفاههم، ويحرصون على ألا تفشي بها ألسنتهم، ما يذكرنا بما يُنسب للخليفة عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه حين قدم نصيحة بضرورة حفظ الأسرار فقال: “القلوب أوعية الأسرار، والشفاء أقفالها، والألسن مفاتيحها، فليحفظ كل امرئ مفتاح سره”.
أما الأسباب التي تدفعنا إلى الاحتفاظ بالأسرار فهي عديدة ومتشعبة، ولكننا عادة ما نتعمد كتمانها لحماية أنفسنا وعلاقاتنا مع الآخرين، حتى أن هناك من يقول إن الحياة الاجتماعية ستكون مستحيلة من دون الاحتفاظ بالأسرار.
ضغوطها النفسية والجسدية
بعض الأسرار قد تكون مرهقة، إلا أن بعضها الآخر قد لا يكون كذلك، إذ لا شك في أن بعضًا من أسعد المناسبات في حياتنا يبدأ كأسرار نحتفظ بها من أجل الكشف عنها في الوقت المناسب، مثل الهدايا التي نقدمها، وحالات الحمل، وعروض الزواج، وغيرها. ولكن غالبًا ما يكون الاهتمام من قبل علماء النفس والاجتماع والفلاسفة بالأسرار المتعبة التي قد تكون ذات تأثيرات سلبية على حياتنا. وفي استكشاف سر هذه الأسرار وتأثيرها علينا، تبيّن أن كتمان الأسرار عملية مرهقة من الناحية العقلية. فوفقًا لدراسة أجريت عام 2014م ونشرت نتائجها في مجلة “علم النفس التجريبي”، يمكن أن يكون التفكير المستمر بما نخفيه في دواخلنا سببًا في إضعاف قدراتنا المعرفية بشكل ملحوظ وكذلك قدرتنا على ضبط النفس، وربما كان عاملًا يؤثر سلبًا على قوتنا البدنية أيضًا. ولطالما كان هناك تأكيد على أن كتمان الأسرار عملية متعبة من الناحية النفسية، فهي بمثابة عبء يتسبب في ضيق الصدر، هذا الضيق الذي تحدث عنه الشاعر بقوله:
إذا ضاق صدرُ المرءِ عن بعضِ سرِّه
فصدرُ الذي يُستودعُ السرّ أضيقُ
ورغم أن الأضرار النفسية التي تأتي نتيجة لكتمان الأسرار واضحة تمامًا، إلا أن الأبحاث الحديثة تشير إلى أن تأثير إخفاء المعلومات أثناء المحادثات ليس إلا قصير الأجل. فمع العلم بأنه من غير المريح بالنسبة للمرء أن يراقب ما يقوله خلال إجراء أي محادثة آنية حرصًا على عدم إفشاء ما تكتمه النفوس، إلا أن اللحظة تمر بسرعة، لا سيما أن الهدف من السر هو إخفاء المعلومات عند الحاجة وعادة ما يكون هناك استعداد جيد إلى حد ما لمثل هذه اللحظات.
لكن أكثر من 12 دراسة حديثة وجدت أنه كلما زاد تفكيرنا في أسرارنا خلال اللحظات التي لا نضطر فيها لإخفائها، أدى ذلك إلى زيادة تأثيرها السلبي على رفاهيتنا وصحتنا النفسية. ولسوء الحظ يفكر الناس كثيرًا في أسرارهم، ويرتبط تكرار التفكير في الأسرار بإلحاح مشاعر العار والقلق وعدم الراحة، بحيث أن الضرر الحقيقي لا يكمن في وجوب إخفائها، ولكن في عملية التعايش معها والتفكير فيها عندما نكون بمفردنا. وبمعنى آخر، فإن ما هو ضار بشأن كتمان الأسرار ليس محتواها بقدر ما هو حاجة العقل إلى إعادة النظر فيها وتقليبها، أو بالأحرى ليس القتل نفسه، ولكن النبضات المستمرة للقلب الواشي، إذا ما أردنا استمداد التشبيه من الرواية الشهيرة للكاتب الأمريكي إدغار ألان بو “القلب الواشي”، التي تحكي قصة الراوي الذي قتل رجلًا عجوزًا، فصار يسمع باستمرار أصواتًا غريبة اعتقد أنها كانت نبضات قلب الرجل الميت التي كانت تنبض في لحظات الصمت لتشي بجريمته الشنيعة.
إن الجهود التي تُبذل لقمع هذه الأفكار هي نفسها التي تزيد من ميلنا إلى اجترار أسرارنا، فيصبح عقلنا مثل “الكاروسيل” أو دوامة الخيل التي تدور باستمرار لتكرر الحركات والأفكار نفسها والشعور بالأسف نفسه، وهذا ما يؤدي بنا إلى العزلة الاجتماعية. فإذا كنا لا نتحدث مع أشخاص آخرين عن سر لدينا فالمكان الوحيد للاحتفاظ به هو عقلنا. وكلما كان السر مهمًا ازداد التفكير فيه ومعالجة جوانبه المتعددة. لذلك نجد أن مجرد التفكير في سر معين يثير شعورًا بالعزلة الاجتماعية مما يضع حافظ السر في مأزق. وإذا كان السر مهمًا جدًا بحيث لا ينبغي تجاهله، فإن التفكير فيه أمر ضروري، ولكن من المحتمل أيضًا أن يكون ذلك مؤلمًا، وهكذا تؤدي بنا الأسرار إلى أن ندور في حلقة مفرغة من الضغط والإرهاق النفسي والعزلة عن الآخرين.
هي التي تحدد تفردنا وتميّزنا
كل ما تقدم يؤكده عالم النفس السويسري الشهير كارل يونغ في كتابه “الإنسان الحديث ورحلته في البحث عن الروح” الصادر في 1933م، حيث يشبه الأسرار بـ “السم النفسي الذي ينفر حافظها من المجتمع”. إلا أنه في الوقت ذاته يدرك أن الاحتفاظ بالأسرار جزء من “التفرّد”، أي أن يصبح الإنسان فردًا مستقلًا عندما يحتضن كل أسراره، فيكون على طبيعته ويصبح قادرًا على تطوير ذاته. وهكذا قد يكون تجرع مقدار صغير من “سم الأسرار” بجرعات صغيرة علاجًا لا يُقدر بثمن، بل إنه قد يكون ضرورة تمهيدية لتميز الفرد، وفقًا ليونغ نفسه.
إن الاحتفاظ بسر من الأسرار يعني إنشاء عالم بديل، عالم لا يستطيع الآخرون الوصول إليه. فتجاربنا السرية تشكل شخصياتنا وتكون بمثابة النسيج النفسي أو الحمض النووي لتنمية الشخصية. وبكلام آخر، إذا كنا نريد أن نفهم السلوك البشري فعلينا أن نفهم التجارب السرية وكيفية تأثير الأسرار على حياتنا؛ فهي تشكل شخصيات الأطفال والكبار، وتحدد إلى جانب أمور أخرى “فردانية” الشخص وتميّزه. وعلى المستوى البدائي، يذكر يونغ أن الإنسان شعر بحاجة لا تقاوم لاختراع الأسرار؛ لأن حيازتها تنقذه من الذوبان في اللاوعي في حياة المجتمع المجردة.
وإذا ما أردنا استكشاف طبيعة الأسرار من الناحية الاجتماعية، يمكننا الرجوع إلى عالم الاجتماع الألماني جورج سميل الذي يقول في كتابه “علم اجتماع السرية والجمعيات السرية”، الصادر عام 1906م، إن السرية هي أحد “أعظم إنجازات الإنسانية”. لماذا؟ لأن الأسرار تخلق تجربة حياة أكثر تعقيدًا. فقد لاحظ سميل أنه بمجرد أن يتمكن الناس من الاحتفاظ بالأسرار يمكنهم العيش في عالمين مختلفين بحيث تسمح لهم أسرارهم بالتفكير بأفكار ليسوا ملزمين بالتصرف بناءً عليها أو يمكنهم رعايتها والاحتفاظ بها حتى يحين الوقت للتصرف على أساسها. فالأسرار تخلق مساحة للتفكير وتوجد منفذًا للخيال وتؤسس لعدد كبير من الإمكانات وتسمح بتخيل الحياة بشكل مختلف. كما أن السرية تخدم أغراضًا أكثر جوهرية فهي أداة للصداقة، إذ إنها ضرورية في تكوين العلاقات والحفاظ عليها.
تعزيز رابطة الصداقة
غالبًا ما تقوم الصداقات على المعرفة المشتركة بين الطرفين. ولذلك، عندما نشارك سرًا نحمله مع شخص آخر فإننا نخلق رابطًا خاصًا مع هذا الشخص. فمن خلال البوح بأسرارنا نكون وكأننا نخبر الطرف الآخر بأننا نثق به وأننا على استعداد لخوض تجربة مشتركة فريدة معه، بل ربما نحن سعداء بذلك أيضًا. بهذه الطريقة يمكن للأسرار أن تعزز أواصر الصداقة، فالسرية هي العملة التي تُنفَق في خلق التضمين والاستبعاد، تضمين الأشخاص الذين نختار مشاركتهم أسرارنا واستبعاد الآخرين. وقد يكون هذا هو أحد الأسباب التي تجعلنا نشعر بالرضا عندما نُسأل: “هل يمكنك الاحتفاظ بسر؟”، فهذا يعني أن مضمر السر يعتبرنا جهة يمكنه الوثوق بها، ويرغب في أن يشاركنا شيئًا حصريًا دون الآخرين. ولهذا السبب، ولأن الأسرار تدخل في أساس تكوين الروابط البشرية، تؤكد الدكتورة كاتي غريناواي المختصة بعلم النفس في كلية ملبورن للعلوم النفسية، ولها دراسات عديدة في خبايا عالم الأسرار وتأثيراتها النفسية، بأن الأسرار تقدم فكرة رائعة عن كيفية تواصلنا وتفاعلنا مع الآخرين.
أخيرًا، سواء أكانت مصدرًا للإرهاق النفسي والضغط العصبي، أم سببًا من أسباب العزلة الاجتماعية، أم مصدرًا لمجموعة من العناصر الإيجابية كوسيلة لتحديد فرادتنا وتميزنا، أم أداةً لتعزيز روابط الصداقة فيما بيننا، تبقى الأسرار جزءًا لا يتجزأ من مكوناتنا الداخلية وتبقى متداخلة في علاقاتنا البشرية، وتظل ترسم الحدود الفاصلة بين عالمنا الداخلي والعالم الخارجي، وتستمر في إثارة فضولنا متى ما كانت لدينا شكوك بوجودها، ولكن ربما الأهم من ذلك كله أنها كانت وما زالت جزءًا لا يتجزأ من إنسانيتنا.
اترك تعليقاً