مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يوليو – أغسطس | 2024

بين الرمال

تجاور الحضارة والبداوة

د. أحمد الواصل

يعبِّر فيلم استفتاح العام “بين الرمال” (2024م) للمخرج محمد العطاوي، عن إحدى الصيغ التمثيلية السينمائية السعودية المقترحة في القصة والتمثيل والزمان والمكان، بعيدًا عن محاولات استنساخ أساليب واتجاهات وطرق عربية وأوروبية وأمريكية.
يقوم هذا الفيلم على سردية “مخاوي الذيب”، وهي سردية مكررة في التراث المعنوي والمادي في ثقافة شبه الجزيرة العربية، مبنية على موضوع علاقة الإنسان بالحيوان. لكن هذه السردية مجرد ذريعة للسرد السينمائي الذي يسهل اكتشاف الجهد الكبير الذي بُذل فيه، من صياغة هذه القصة في سيناريو الفيلم وإخراجه، واختيار المكان والزمان، حيث تعود إلى ما بين الحرب العالمية الأولى والثانية من القرن العشرين المنصرم، والألبسة بكل مزاياها من ستر واشتمال، كذلك الحيوانات الظاهرة في الفيلم من الخيول والطيور والذئب.

يحتشد الفيلم بالرموز والاستعارات الحاضرة بشكل مستمر، وهذا ما يرفع من عنصر الصورة. كذلك تحضر الأصوات، وأطغاها لهجة حائل، التي يشيع عنها خطأً أنها هي نفسها لهجة شمال غرب الجزيرة العربية. ومن الصعوبة غض النظر عن هذا الاختيار غير الموفق، خاصة إذا أدركنا أن قصة الفيلم بُنيت على موضوع شائع في المرويات النبطية؛ أي منقولات التراث المعنوي والمادي من نصوص شعرية وسردية. هذه المروية، أو سردية التوحش القائمة على علاقة الإنسان بالحيوان، لطالما تقلبت وتجرنا جذورها إلى آلاف السنوات إبان الحضارات السلمية ونصوص الأدب الملحمية منذ العصر الآكادي، بافتراض أوليته وتناقل ثقافاته من آداب وفنون وأفكار وقيم ومبادئ، عند الشعوب المتعاقبة في نطاق الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية من آكاديين وآشوريين وبابليين وكنعانيين وقيداريين وكلدان وثموديين، مرورًا بالآراميين والأنباط والعبران والسريان والعرب.

وإذا اقتربنا من الحضارة العربية الإسلامية، فإننا نجد علاقة الإنسان بالحيوان في حكاية حي بن يقظان، التي وُضعت في صياغات عربية عند فلاسفة الحضارة العربية الإسلامية، مثل: ابن سينا (القرن الحادي عشر الميلادي)، وابن طفيل والسهروردي (القرن الثاني عشر الميلادي)، وابن النفيس (القرن الثالث عشر الميلادي). وأُعيِد صياغة هذه السردية في العصور اللاحقة، حيث ظهرت في الثقافة الأوروبية إبان القرن السابع عشر حتى القرن العشرين الميلادي، في أعمال جون لوك (مبحث في الفاهمة البشرية، 1690م)، ودانييل ديفو (رواية روبنسون كروزو، 1719م)، وجان جاك روسو (دين الفطرة، 1761م)، وروديارد كيبلينج (الأدغال – ماوكلي، 1894م)، وإدغار رايس بوروس (طرزان، 1912م).

التمدّن في حياة البدوي

شخصية سنام (يؤديها رائد الشمري، أحد مشاهير مواقع التواصل الاجتماعية ويقول الشعر العامي الشفوي) تُمثل ذلك المتوحش في الصحراء، الذي يعيد اكتشاف علاقاته مع الطبيعة والكون. وهذا ما أتاح أو ألزم المؤلف والمخرج محمد العطاوي بحشد ما تيسّر من رمزيات على رأسها السبحة والذئب والطفل صحبة أبيه، ورِقّ الخريطة الجلدي، ثم رمزيات ثانوية، مثل: الجنازة والغليون والعطور وآلة التصوير الفوتوغرافي والعدسات المكبرة.

وهنا تنطرح جدلية أو صراعية تجاور الحضارة والبداوة، أي أن مظاهر التمدن تحضر في حياة البدوي، ليس أولها اللهجة التي غلبت في التخييل السينمائي دون الواقع، وليس آخرها أدوات وأجهزة التحضر، التي تدفع إلى أن هذه المروية السردية أساسها أبناء الحضارة لا البداوة. فالوعي القديم بتراث أسلاف المتمدن: الصياد والفلاح تختلف عن أسلاف البدوي: الراعي والغازي. إذ استطاع المتمدن أو ابن المدينة، ترويض مخلوقات الطبيعة على رأسها الخيول والبقر والثيران والحمير والغزلان والماعز والدجاج والكلاب. في حين اضطر البدوي إلى ترويض مخلوقات طبيعته بداية من الجمال وليس نهاية بالذئب، فهو في نزال مستمر معه حتى وإن تقاربا، ويخشاه في معركة الحياة والموت.

إعادة اكتشاف الطبيعة

ويقابل هذه الرمزيات الاستعارات الملزمة، إعادة اكتشاف الطبيعة، بالتعامل مع النار والصيد والرياح والرمال والطيور، وتمثّلت في مشاهد بعضها تكرر في الفيلم: حك الخشب بأعواد القش لإشعال النار، وكسر المرآة لعكس ضوء الشمس بتحريك الوميض، وذرّ الرمال لمعرفة طريق السفر المناسب، وارتقاب جهة تحليق الطيور لمعرفة أماكن الآبار، وكي راحة يده المجروحة، واشتمام الذئب، وتفحم رائحة اللحم، واقتسام غنيمة الأرنب المُصاد بين سنام والذئب.

إن هذه الاستعارات كما لو كانت تدفع جيل التسعينيات وما بعد الألفية إلى الإقرار بأن الحضارة التي يعيشها مهددة بالاندثار تحت رحمة كبسات أزرار رقمية في الألعاب ذات مواضيع نهايات العالم، أو ما بعد نهايات العالم. هذا الطوفان الرقمي جعل الإنسان يدخل في استعبادات أو إدمانات غير واعية، على أنها تتدخل في عمليات التنشئة، وتهدد التعليم والتربية، وطرق الترفيه والترويح، وتحولها في مراحل عمرية إلى طرق الهرب أو الانكفاء من متطلبات الحياة أو مسؤولياتها. وهذا ما انعكس على تأليف الفيلم الذي رشحت من ذهن مؤلفه ومخرجه أو جميع صانعيه فكرة التواطؤ على إنكار المدينة أو قتلها.

عقدة النقص إزاء المدينة

استند المخرج في كتابة قصته وسيناريو الفيلم إلى قصة “مخاوي الذيب” المتناقلة، بحسب ما يُشاع من مرحلة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية في القرن العشرين، حيث تجري تلك الحروب الكبيرة أو الصغيرة على مقربة من المدن الكبيرة، بل إن بلدات شبه الجزيرة العربية أو مدنها، وطرقها الاقتصادية والتجارية، وأنظمتها الاجتماعية والسياسية والدينية راسخة، غير أن حالة الإنكار هي المنطلق الأساس.

رأينا من قبل موضوع الإنسان والحيوان في فيلم “هجّان” (2023م)، من تأليف مفرج المجفل، وسيناريو عمر شامة، وإخراج أبو بكر شوقي، في علاقة الهجّان وناقته، وما يحيط به من مساومات ومؤامرات. وبهذا يتقاطع فيلم “بين الرمال” مع “هجّان” الذي وقف عند الحافة نفسها من عقدة النقص إزاء المدينة، فإن سباقات الاكتشاف والتأهيل لكل من الهجّانة والنوق ستتيح فرصًا لسباقات الهجن الكبرى المقامة على أطراف المدينة، من أهلها، وليس أهل البادية. ولكن فيلم “بين الرمال” يعاني بعض الخلل في عناصره، سواء من كتابة القصة أو السيناريو أو التصوير، على عكس “هجّان” الذي ركَّز على شخصية “الهجّان” بوصفه محورًا رئيسًا للفيلم.

الرموز في الصورة متنوعة بين الرموز التمثيلية والتشكيلية والفكرية. وأمَّا الاستعارات، فهي لعبة الإبدال أو الإخفاء أو الاستغناء، ومبنية على مؤثر من مؤثرات التشابه أو التناقض في المضمون التصويري، بحسب مفهوم مارسيل مارتن في كتابه “اللغة السينمائية” (1964م).

الرمزيات ودلالة التشاؤم

تنفك عن الاستعارات صور مجازية تكررت في المشاهد الحوارية حين روي لـسنام حلم منامه، بأنه رأى نفسه تحت نخلة، ثم حاول إشعال النار فاندلع شرارها ليحرق النخلة، بدلالات واضحة عن نذير الشؤم في اختياره الارتحال وحده وليس مع القافلة. وهذا الحلم عمود موضوع المتوحد أو المتوحش الذي سيضيع في الصحراء ويواجه مصيره. وأحد اختبارات العبور أو المراحل في النضج والاعتماد على النفس. كذلك استذكار تلك الأمنية أن يسمِّي أحد الصاحبين مولوده الأول على الثاني، كأنما مؤسسة الصداقة بين البشر تفوق مؤسسة الزواج، وأن نتاجات الزواج (المواليد) يمكن تجييرها إلى مؤسسات أخرى ضمن سياق منظومات المجتمع.

جرت الاستفادة من وجود الممثل رائد الشمري الذي قام بدور سنام، في منح الفنون الأدائية الشفوية الاهتمام، حين يُلقي شعرًا، أو يهجّن (ينشد فن الهجيني)، أو حين تحضر العرضة في أحد المشاهد.استطاع المكان أن يخصص أو يجبر الفيلم على مساره، بين جبال جرحتها سنوات التعرية، ورمال تعتقلها الرياح في كل حين.

مشاهد المكان والممثلين والحيوانات سواء على ناحية القافلة وتمثيلاتها الذكورية، من قائد وفرسان وخدم وخيول، أو ما يقابلها ناحية سكنة الخيام من نساء وغنم، وزوجة حامل بمخاضها تتوجع، وأم غاب ابنها تقوم بدورها حماة وقابلة، وصولًا إلى لحظة عودة الضائع سنام إلى حضن عشيرته. تحرك فيها زمان المشاهد بدرجة متوسطة، وتمكّن المشاهد من المتابعة والتوقع (النهايات السعيدة)، على الرغم من أن تلك النهاية تعرقلت بكثير من الاحتمالات السيئة، غير أن تجاور الجمل السينمائية هو الذي يشكّل السرد. أمَّا تنظيمها الوظيفي، فهو الموضوع، وهو ما انتهى إليه الفيلم.

الألبسة.. والمقدرة المالية

إذا برّر لنا المخرج محمد العطاوي المجيء برائد الشمري ممثلًا يمتلك الصوت والقدرة على الإلقاء يصبح الأمر مفهومًا. بينما ينهال التشكيك في مهارات التعبير والحركة الجسدية (ضآلة حجم البدن) أمام العدسة. على أن الفيلم تميز كثيرًا بالأزياء المتنوعة التي توحي بطبقة بدوية ثرية من خلال تنوع الألبسة بين لباس الستر والاشتمال. فكلما زادت ألبسة الاشتمال باعتبارها تفضل على الستر، كشفت مقدرة مادية، فهو يقوم بدور تاجر التبغ الذي يمتلك ذلوله ويشتري عطورًا ويزين فرسه باللجام وزينته.

لقد تمثّل في هذا الفيلم جميع عناصر السينما المكتملة، على أن نردفه بفيلمين سابقين يمكن ترشيحها كلها إلى قائمة الأفلام السعودية الذهبية بصورة افتراضية، وهما: فيلم “حد الطار” (2020م) من تأليف وسيناريو مفرج المجفل، وإخراج عبدالعزيز الشلاحي، وبطولة فيصل الدوخي؛ وفيلم “الهامور ح. م” (2023م) من تأليف هاني كعدور، وإخراج عبدالإله القرشي، وبطولة فهد القحطاني.

هل ستتراكم تجربة السينما السعودية؟

فعليًا هذا ما يحدث، ولكن تعدُّد الوسائل الصناعية والتقنية أو تناوبها أو تفاوتها، مثل المسرح والإذاعة والتلفزيون والسينما، مرتهن بكامله بعناصر إنسانية على رأسها الممثل والمؤلف والمخرج والكوادر الأخرى، وعناصر اقتصادية وتجارية وتسويقية، وأماكن عرض وتعدد صالات متنوعة تقنيًا في العرض والصوت والصورة، ومتغيرات اجتماعية وسياسية.

استطاع فيلم “بين الرمال” (2024م) أن يقدِّم تنقيحًا لمواضيع الأفلام السعودية وشخوصها، ولا ندري بماذا كان يحلم أولئك المؤلفون والممثلون والمخرجون والمصورون الأوائل، الذين أجبرتهم الظروف المانعة أو القاهرة على الاكتفاء باستوديوهات الإذاعة أو التلفزيون، وعلى اقتصار الكوادر والعناصر تحت خط الندرة وليس الوفرة كما يحدث الآن. يترقب كل مؤرّخي السينما السعودية وباحثيها ونقّادها ما سيجدون فيها مما تعذّر تحقيقه سابقًا. وفي ظل غياب مؤسسات التعليم والتدريب المتخصصة، أو تأخر تأسيسها وانتظار مخرجاتها المتوقعة، فإن العدد الكبير من الأفلام التي تُقدَّم الآن كفيل بأن يبرز من بينه ما يستحق أن يكون في أرشيف الثقافة السعودية، ويحقُّ المفاخرة بصناعته في عصره وبقائه في الذاكرة.

والمكسب الأساس هو عبور الممثل السعودي كل تلك الأنفاق (المصاعب والتعطيلات طوال السنوات الماضية) نحو ذلك النور، أو ما سيكون علامة على الواقع المنتهي أسرع من كتابة كلمة أو تصوير لقطة.

بطاقة الفيلم
الملخصيروي الفيلم قصة “سنام”، وهو شاب متزوج يبلغ من العمر 23 عامًا يوشك أن يكون أبًا. ولكنه يتعرض للسطو من قبل مجموعة من اللصوص أثناء إحدى رحلاته التجارية، ثم يجد نفسه تائهًا وحيدًا في الصحراء السعودية، ومطاردًا من ذئب.
تأليف وإخراجمحمد العطاوي
طاقم التمثيلفاطمة الشريف، رائد الشمري، أضوى فهد/ أضوى شاكر، عبيد الودعاني، مهند الصالح
إنتاجأفلام السارد، ريم العطاوي

مقالات ذات صلة

ثمرت ظاهرة “صانع الأفلام” في السينما السعودية بعض الأفلام الناجحة من دون شك. لكن ماذا عن التجارب غير الجيدة؟ وكم عددها؟ فمن الخطأ القطع بنجاح ظاهرة صانع الفيلم متعدد المهام قياسًا على مثال واحد أو مثالين وبتجاهل إخفاقات عديدة.

ما الذي حلَّ بالبرامج الثقافية التلفزيونية؟

أطلقت “إثراء” المرحلة الأولى من الترجمة الصينية لكتاب “المعلقات الألفية”، والتي يُتوقع أن تستوفي كل المعلقات العشر عام 2025م.


0 تعليقات على “بين الرمال.. تجاور الحضارة والبداوة”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *