منذ بداية القرن العشرين دخلت آلة الكمان إلى الموسيقى العربية على يد الفنان سامي أنطوان الشوا الملقب بـ”أمير الكمان” (1885م – 1965م)، ومؤلف الكتاب القيّم “القواعد الفنية في الموسيقى الشرقية والغربية”. هنا بدأت شرارة تطوير الموسيقى العربية، ولنا أمثلة على روّاد كانت لهم بصمة مخلّدة، مثل: سيد درويش ومحمد عبدالوهاب ورياض السنباطي وفريد الأطرش وكثير من المؤسسين. ولكننا نرى في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تراجعًا ملحوظًا بسبب قلة البحوث والمراجع التطويرية للموسيقى العربية، وهذا واضح على الساحة الفنية. إذ نلحظ القصور في سياق الجمل الموسيقية العربية، والإحساس الخاص بالمقامات والتحويلات التي تُعدُّ هويتنا الخاصة في الموسيقى العربية. فقد أصبح دخول الآلات الغربية مختلفًا عن تعامل الرواد معها، وساد أسلوب البوب والروك، وحتى على مستوى اللحن الموسيقي الذي أصبح غربيًا، وتسبب استمرار هذه السمات في تغيير ذائقة المستمع وتحريفها.
قد يقول البعض إن هذا هو التطور والانفتاح. وجوابنا هو أنه عندما أراد الفنان سامي الشوا تطوير الموسيقى العربية أدخل آلة الكمان وهي غربية، ولكنه أسس منهجًا ليسهم في تطوير الموسيقى العربية من دون انحياز للمدرسة الغربية، وكذلك فعل سيد درويش ورياض السنباطي. وأفضل مثال نجده في المقدمات الموسيقية للفنان فريد الأطرش، فهو يُعدُّ أول من عزف على آلة العود مع فرقة الأوركسترا، ولكن من دون طمس الهوية العربية للآلة، أو التأثير في اللحن الشرقي للعمل.
عوامل وراء التراجع
هناك أسباب كثيرة وراء تراجع الأصالة في الفن العربي، أولها التأثر الكبير بالثقافة الغربية بوجه عام. وهنا يأتي دور الفنانين لتحجيم أثر هذا التأثير، وهذه مسؤولية كبيرة تقع على عاتقهم. كما أن للتكنولوجيا تأثيرها أيضًا في ظهور وسائل التنفيذ الرقمي السريع والرخيص، إذ جعل من السهل إنتاج موسيقى بمحتوى أقل جودة، وهو ما أثر في الذوق العام. ويُضاف إلى ذلك تراجع الدعم الحكومي، وغلبة السعي إلى تحقيق الربح التجاري السريع على حساب الجودة والإبداع.
فنحن لدينا أساتذة كبار في مجال التلحين والتطوير الموسيقي، مثل الأستاذ رياض السنباطي. والسؤال هو: لماذا لا يقوم الملحنون في وقتنا الحالي بتحليل أعماله والاستفادة من فكره المبدع، ومن ثم ترجمة تحليلهم ووعيهم في أعمال تكون بمنزلة تطوير للفن العربي الأصيل؟ إن أغلب الأعمال الحالية هي على مقام واحد وهو مقام الكرد، فأين بقية المقامات كالبياتي والسيكاه والهزام؟ وإن وجدت هذه المقامات، فهي مستخدمة بنسبة لا تكاد تكون ملحوظة.
هذه السمات من التحولات الموسيقية لا تعانيها كل الساحات العربية بالقدر نفسه. فإن نظرنا إلى التطور الموسيقي في المملكة العربية السعودية والخليج العربي، فسنجد الأمر مختلفًا.
مراحل تطور الأغنية الخليجية
في الثمانينيات من القرن الماضي، بدأت الأغنية الخليجية تكتسب شهرة أكبر، مستفيدة من وسائل الإعلام الحديثة في ذلك الوقت مثل التلفزيون والراديو. وكانت الأغاني تعتمد بشكل كبير على التراث الموسيقي الخليجي، وخاصة الأغاني الشعبية والفلكلورية. ومن الفنانين البارزين في تلك الفترة: عبدالكريم عبد القادر وطلال مداح وأبو بكر سالم.
وفي التسعينيات، شهدت الأغنية الخليجية دخول الآلات الحديثة وتطورًا ملحوظًا في التوزيع الموسيقي، وتميّز بهذا التطوير الموزع الموسيقي الفنان طارق عاكف. وبدأ الفنانون الخليجيون مثل محمد عبده وعبدالله رويشد وراشد الماجد ونوال الكويتية في تجربة أنماط جديدة مع الحفاظ على الهوية الخليجية. وأصبحت الموسيقى الإلكترونية والكلمات الرومانسية أكثر شيوعًا. كما كان التطور ملحوظًا في تلك الفترة على جميع الصُّعُد: الكلمة واللحن والتوزيع الموسيقي.
وجلبت الألفية الجديدة مزيدًا من التطورات التكنولوجية في الإنتاج الموسيقي. فبدأت الأغاني الخليجية تدمج بين الموسيقى التقليدية والحديثة، وهو ما جعلها أكثر جاذبية للشباب. وازداد التعاون بين الفنانين الخليجيين والفنانين العرب الآخرين، وهو ما أثرى المشهد الموسيقي. وظهر أيضًا تعاون مع الموزعين الموسيقيين في تركيا، وكان من أوائل المتعاونين معهم الملحن الكويتي مشعل العروج. فجاءت الجمل الموسيقية في هذا التوزيع جديدة على المستمع الخليجي وجاذبة له.
من العقد الثاني للألفية حتى اليوم، أصبحت الأغنية الخليجية أكثر تنوعًا، تمزج بين مختلف الأنماط الموسيقية العالمية والمحلية. وصارت التأثيرات الواضحة للهيب هوب والبوب والموسيقى الإلكترونية تعكس انفتاح المنطقة على العالم. وهناك فنانون قدموا موسيقى تدمج بين الحداثة والتراث الخليجي.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر، هناك أسماء لمعت في مسيرة تطوير الموسيقى العربية في المملكة، وحافظت في الوقت نفسه على هويتها الخاصة، مثل طلال مداح ومحمد عبده، وهما من روّاد الموسيقى السعودية والخليجية الذين أسهموا في نقل الموسيقى الخليجية إلى مستويات جديدة من الاحترافية. وهناك أيضًا راشد الماجد وعبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله ورابح صقر، وهم من الجيل الذي جمع بين التراث والتجديد، وأسهموا في انتشار الأغنية الخليجية بشكل أوسع. وبذلك أدّت الموسيقى الخليجية دورًا مهمًا في الحفاظ على الهوية الثقافية للمنطقة، حيث كانت دائمًا تعكس قيم المجتمع وتقاليده. فحتى مع التأثيرات الحديثة، حافظت الموسيقى الخليجية على جوهرها التقليدي من خلال استخدام المقامات العربية والإيقاعات المحلية والآلات التي عزّزت ارتباطها بالتراث.
اترك تعليقاً