يعرّف توماس هوبز الفضول بأنه هوى من أهواء النفس يثيره الأمل في معرفة المستقبل. فالفضول أو الرغبة في المعرفة، هو القدرة البشرية التي تميزنا عن الأنواع الأخرى؛ لأن الحيوانات عندما تواجه ما هو غريب، أو ما هو غير متوقع، فإنها لا تغتنم الفرصة للتساؤل عمَّا حولها: “من الخصائص المميزة للبشر أنهم يبحثون أولًا عن أسباب الأحداث التي يرونها، بعضهم يفعل ذلك بشدة، وبعضهم بشدة أقل، ولكنهم جميعهم يفعلون ذلك؛ كي يظهروا فضولهم بحثًا عن أسباب حظهم السعيد أو السيئ”.
عندما نغرق في الرتابة و “تكرار الشيء ذاته”، مع ما يوفّره لنا ذلك من ارتخاء واطمئنان، وشعور بأننا واقفون على أرض صلبة، وأننا نتحكم في أمورنا، وأن لا خوف علينا من الضياع في متاهات، حينئذٍ لا نكون في حاجة إلى التطلّع نحو وضع مغاير، ولا إلى الالتفات إلى ما هو أبعد. فنظلّ نستهلك ما يتوفر ونعيش على ما هو موجود.
لكن لحسن الحظ، قد نشعر في نهاية الأمر بشيء من الملل، فنرغب في الخروج من هذه الحالة. هذا السعي نحو الخروج، وهذه الرغبة فيما هو مغاير، والتعرّف على شيء من المجهول، والشك في وجود ما يخرج عن رتابة وضعنا؛ هو ما يُسمَّى فضولًا. إنه مغامرة المرء في أن يفكر وحدَه، من غير الاهتداء ببوصلة، ولا اتباع خطوط مرسومة وطرق مسطّرة.
الفضول هو الذهاب نحو المجهول، نحو ما لا نعرفه، نحو ما يخرج عن المعهود. إنه لا يكمن في تبديل الاهتمام، وإنما في إعمال الفكر خارج ما هو جاهز مسطّر. إنه استعداد المرء لشيء مغاير، وهو حريته في أن يطأ أراضي قلّما وطأتها قدماه.
موقف الفكر الوسيط من الفضول
في جانب ما منه، قد يقترن الفضول بخرق الممنوع وارتكاب المحظور. يقول مثل مغربي: “كل محظور مرغوب”. فالمنع والتستر هما ما يثيران الفضول. الفضول هو دائمًا اقتحام الغرف المغلقة والأبواب الممنوعة. لنتذكر الباب الذي لا ينبغي فتحه في حكاية حسن الصائغ البصري (من قصص ألف ليلة وليلة)، والحجرة التي لا ينبغي دخولها في حكاية “ذو اللحية الزرقاء” (للكاتب الفرنسي شارل بيرو). الفضول هو الخطأ الذي اقترفه أوديبوس حين طلب “إجراء تحقيق” في المصاب الذي حلّ بالمدينة التي كان ملكًا عليها.
وما دمنا نتحدث عن أوديبوس وعن الإغريق، فلنشر إلى أوليسيس الذي كان الفضولُ علامة عبقريته وحيلته، لكن تعطشه للمعرفة جعله يلقى العقاب في جحيم دانتي الذي اخترع نهاية درامية لهذا المغامر الذي جرّه فضوله إلى ما وراء حدود العالم المعروف كي تبتلعه الأمواج. وهكذا يُعاقَب الشاعر الإيطالي أوليسيس على رغبته المفرطة في المعرفة. ما تخيله دانتي هو شكل من أشكال رد الفعل التي واجه بها الفكرُ الوسيط مفهوم الفضول، فرأى فيه ميلًا محفوفًا بالأخطار.
ربما لهذا السبب رأى كثير من المفكرين وجهًا سلبيًا في الفضول، بل إن بعضهم رأى فيه سلوكًا غير أخلاقي، فهو لا يحركه حب المعرفة، وإنما حب الاطلاع على أسرار الآخرين، والاهتمام بشؤونهم. فليس الفضول، من وجهة النظر هذه، حبًّا بالحقيقة وتعلقًا بها؛ بل إنه يتعلق، بالأحرى، بتفاهة الأشياء المادية التي يسعد الإنسان بمعرفتها. الفضول أكثر أشكال الإغراء تعقيدًا في أخطاره. وقد كتب أحد المدافعين عن هذا الموقف: “تنطوي النفس البشرية على أهواء طائشة لا يقرّ لها قرار، أهواء فضولية لا تراعي أي أسرار، وهي تتستر تحت قناع المعرفة، فتوظّف الحواس، ليس إشباعًا للذة واستمتاعًا بالجسد، وإنّما للحصول على معارف بتوظيف الجسد. وبما أنها تَمثُل في رغبة في المعرفة، وبما أن الحواس هي طريق الإنسان إلى الاتصال بالعالم الخارجي للوصول إلى المعرفة؛ فإن الفضول يرتبط بالحواس جميعها”.
ربطه بالحواس
تلجأ لغات عديدة في تعبيرها عن الفضول إلى ربطه بحاسة من الحواس. فعلى سبيل المثال، تقول اللغة الفرنسية:
“Ne me regarde pas comme une bête curieuse”، أي “لا تنظر إليّ نظرة الوحش الفضولي”،
كما تقول ترجمةً للعبارة: “هذا لا يعنيك”: هذا لا يُبصرك “Cela ne te regarde pas” .
كما أنها تستعمل “حشر الأنف” للتعبير عن الفضول على غرار اللغة العربية:
“Il fourre son nez”، أو الأذن فتقول: “Il prête l’oreille” دلالة على من “يسترق السمع” لمعرفة أخبار الآخرين.
اتهام الفضول هو اتهام للحواس جميعها. الفضول يحشر المرء فيما لا يعنيه، ويجعله يسترق السمع، ويتلصص على الآخر، ويتلمّس أخباره. ورغم ذلك، فالظاهر أن ما يعيبه هذا الموقف على الفضولي ليس أنه يحشر أنفه في شؤون الآخر لفضحها، وإنما إغراقه في ملذات الحواس وشهوات الجسد، ما يُطلق عليه أحد مؤرخي الفلسفة “التيه في عالم الإحساسات”. فكأننا هنا، لسنا بصدد نقد الفضول، وإنما إزاء نقد أخلاقي للحساسية باعتبارها منبعًا للملذات وطريقًا إلى المعرفة.
غير أن من المفكرين من لا يقنعهم هذا التفسير، فلا يقتصرون على إرجاع الأمر إلى الرؤية الأخلاقية، وإنما يحاولون إعطاءە تفسيرًا معرفيًا، فيقولون: إن المعرفة عندما لم تكن تولي أهمية كبرى للجزئيات، أو لنقل، على الأصح، عندما لم تكن في حاجة إلى معرفة الجزئيات، وعندما كانت إبيستمولوجيتها (نظريتها المعرفية) قائمة على إبراز التشابهات العامة، والخصائص المشتركة التي تلتقي عندها جميع الظواهر؛ فهي لم تكن تُعنى بالجزئي، ولم يكن “يثير فضولها” ما يخرج عن الانتظام الكوزمولوجي، على عكس ما ستؤول إليه المعرفة مع ظهور مناهج العلوم الحديثة، وخصوصًا عند فرنسيس بيكون، حيث ستظهر إبيستمولوجيا تكفّ عن رصد التشابهات العامة لتبحث عن القوانين المتحكمة في الطبيعة؛ أي عن العلاقات التي تربط التحولات بعضها ببعض، وترصد ما هو ثابت في المتحوّل، وتقيم التجارب، وتتابع الظواهر في أدق أشكالها، فتصر على قراءتها في جزئياتها شديدة الاختفاء، تلك الجزئيات التي لم تكن بادية للحواس، فأصبحت قابلة لأن “تثير فضولها”.
الانتقال إلى الفضول المعرفي
عمل الفيلسوف الفرنسي ديكارت على التنظير لهذه المعرفة الجديدة في كتابه “قواعد لتوجيه العقل”؛ إذ تطلع إلى الطبيعة من حيث هي امتداد؛ أي علاقات بين أشكال وأعداد. طبيعةٌ هذه حالها، طبيعة “تتكلم مثلثات وأعدادًا”، لا تنطوي، بطبيعتها، على ما يفلت من المعرفة، وعلى ما لا يشبع فضول البشر. صحيح أن تلك المعرفة ليست كلها متوفرة، ولكن العلم طريق مفتوح، ولا شيء يصدّه عن السير قدمًا. كل ما في الطبيعة يمكن أن يُعرف، ويُترجم إلى لغة رياضية. الطبيعة لا تنطوي على أسرار، وهي على استعداد دائم لأن تشبع فضولنا المعرفي.
لقد حدث انقلاب معرفي مذهل في القرن السابع عشر، وهو قرن الانفتاح على الغريب وعلى الآخر، والعناية بكل الظواهر والخروج للاكتشافات الجغرافية، تلك الاكتشافات التي يشهد عليها استيراد العديد من الأنواع النباتية والحيوانية الجديدة إلى مكاتب العلماء، وهو أيضًا قرن التطورات التقنية التي مكّنت من مراقبة الظواهر نفسها على نطاق مختلف كالمراقبة تحت المجهر، ومراقبة الأجرام السماوية بفضل المنظار الفلكي.
إنه عصر الفضول وظهور التعطش المبهج إلى المعرفة، كما تجلى عند أحد دعاة النزعة الإنسانية مثل رابليه، الذي دعا إلى عدم إهمال أي شيء وعدم إيقاف المعرفة عند حدود معيّنة، وعدم الاكتفاء بما نعرفه، فكتب: “يا بنيّ العزيز، أمَّا بالنسبة إلى معرفة حقائق الطبيعة، فأريدك أن تكرّس نفسك لها بفضول؛ إذ لا يوجد بحر أو نهر لا تعرف أسماكه، وكل جواهر الشرق والجنوب. لا تُبقي شيئًا مجهولًا لديك. ولكنّ العلم من دون ضمير ليس إلا تدميرًا للروح”.
يستحضر رابليه في هذه الجملة الأخيرة، الوجه السلبي للفضول الذي سبق أن أشرنا إليه. والحقيقة أن هذا الوجه لم يختفِ قطُّ بشكل تام؛ إذ ظل الفضول يحمل سماته السلبية وتردده بين دلالتين، كما ظل التناقض تجاهه حاضرًا عبر تاريخ الفلسفة: يُنظر إليه على أنه رذيلة عندما يركّز بشكل مهووس على الأشياء النادرة أو المتفردة أو التافهة، كما أشار إلى ذلك لابرويير عندما كتب: “ليس الفضول ميلًا نحو ما هو جيد أو ما هو جميل، ولكن نحو ما هو نادر فريد من نوعه… إنه ليس تعلقًا بما هو كامل، وإنما بما هو شائع”. لكن الفضول فضيلة على رغم ذلك، حتى لو كان فضيلة محفوفة بالأخطار؛ لأنها تحركها عواطف لا تُشبع في بعض الأحيان، عندما تكون رغبة في تجاوز حدود المعرفة، وعندما تكون في خدمة العقل لمساءلته وتوسيعه إلى ما لا نهاية. ما يعطي للفضول أهميته إذًا، هو أنه لا يُشبع: إنه سعي حثيث نحو الزيادة من المعرفة، وتجاوز الحدود وتخطي حدود ما يُقال. فليست لذة الفضول في حبّ الاستطلاع، وإنّما في عدم إشباع ذلك الحب.
رغبة في المعرفة لا يمكن كبتها
في باب “الفضول” في موسوعة ديدرو ودالامبر، يؤكد لوي دو جوكور، الجانب المتعطش للفضول كرغبة في المعرفة لا يمكن كبتها: “الرغبة الشديدة في التعـلّم وتعليم الذات والاطّلاع على أشياء جديدة. قد تكون هذه الرغبة محمودة ومذمومة، نافعة أو ضارة، حكيمة أو حمقاء، وذلك بحسب الأشياء الموجّهة نحوها”. يمكن لهذه الرغبة أن تتجاوز كل نظام لتصبح عاطفة متناثرة، يكون علينا العمل على توجيهها التوجّه الملائم، إمَّا عن طريق الأخلاق، أو عن طريق منهج معرفي صارم. إذ إن غياب توجيه التعطش الفضولي من شأنه أن يسقطه في نوع من الشغف المماثل لذلك الذي ينصبّ على الأشياء الفاخرة، وحينئذٍ، فإنه لن يعدو أن يكون سوى شكل من أشكال النزعات الاستهلاكية التي لا يهمها إلا ما هو جديد وما هو غريب عجيب، وهذا ما نلاحظه عند المولعين بجمع غرائب الأشياء، ما تُطلق عليه اللغة الفرنسية “les curiosités”، حيث يوظف الفضول توظيفًا استهلاكيًا لا يهمه من الطبيعة إلا طرائفها وعجائبها، وليس معرفة القوانين المتحكمة فيها. ها هنا يقف الولع بالجزئيات عند الجزئيات نفسها، من غير ربطها بغيرها لإدراك العلاقة بينهما، والقانون المتحكم فيهما. هنا تثير الجزئية الفضول لفرادتها. وربما لذلك، فإن مجتمع الفرجة يجعلها باهظة الثمن وعسيرة الاقتناء.
لذا، يذهب الداعون إلى مأسسة المعرفة إلى نقل هذا الفضول، من “فضول استهلاكي” إلى فضول معرفي يُسند إلى هيئات منظَّمة، كإقامة المتاحف العلمية، ونهج الأبحاث الموسوعية، وتنظيم المعارف داخل مؤسسات وأكاديميات لتوجيهها نحو النمو والازدهار. لن يظل الفضول، والحالة هذه، نزوات أفراد، وبحثًا عن غرائب، وإنما سيوظّف من أجل أن يجعل من الإنسان المعاصر أوليسيس غير متهور، ومستعد أن يكون في خدمة معرفة لا تنفك تتوالد:
“أنتم لم تُعمَلوا للعيش كوحوش، وإنما كي تجروا وراء الفضيلة والمعرفة”.
هكذا يتعجب أوليسيس في أنشودة “الكوميديا الإلهية” لدانتي كي يحث رفاقه في السفر، ويقنعهم باختراق هضاب هرقل، ليتبعوا الشمس كي يعرفوا أين تغيب، ويتخطوا حدود العالم المعروف.
لن يلقى “أوليسيس” المعاصر المصير الذي رسمه له الشاعر الإيطالي، ما دام في حِمى “المدينة العلمية” التي تحدث عنها فيلسوف العلم غاستون باشلار.
اترك تعليقاً