مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

بيدرو بارامو

رواية بين فيلمين

أحمد محسن

أطلقت منصة نتفليكس في السادس من نوفمبر الماضي فيلمًا مأخوذًا من رواية بيدرو بارامو للأديب المكسيكي خوان رولفو، وهي واحدة من الروايات المهمة في الأدب العالمي في القرن الماضي، حتى إنها استطاعت أن تضع اسم كاتبها جنبًا إلى جنب مع كبار الكتَّاب باللغة الإسبانية؛ على الرغم من أنه لم يكتب سواها، ومجموعة قصصية واحدة بعنوان “السهل المحترق”، ورواية ناقصة كتبها أساسًا كسيناريو بعنوان “الديك الذهبي”.

والسؤال المطروح هو: هل يمكن أن تتحول رواية مليئة بالشعر في كل أجزائها إلى مادة مسموعة ومصوَّرة؟ هذا هو تحديدًا ما جعل تحويل هذه الرواية إلى فيلم عملًا جذابًا ومليئًا بالتحدي. علمًا أن فيلم نتفليكس ليس الأول، بل سبقه فيلم آخر في الستينيات من القرن الماضي.


الرواية الأولى للكاتب المكسيكي خوان رولفو لم تُحدِث الصدى الذي كان يتوقعه منها عند صدورها عام 1955م. حتى إن مؤلفها نفسه أخبر محاوره في برنامج تلفزيوني إسباني (Al fondo) عام 1977م، أن جيله لم يفهم الرواية ولم يُعِرها انتباهًا. ولكن الأجيال التالية لجيله هي التي أعادت قراءة الرواية، وأولتها الأهمية التي وضعتها على قمة الأدب المكسيكي وضمن قائمة أهم الروايات المكتوبة بالإسبانية على مر العصور. غير أن تلك الأجيال نفسها واجهت صعوبة في قراءة هذه الرواية. فأين تكمن صعوبتها؟ ولماذا تُعدُّ واحدة من أهم روايات القرن الماضي؟

تبدأ الرواية بواحدة من أشهر جمل أدب أمريكا اللاتينية: “جئت إلى كومالا لأنهم أخبروني أن أبي يعيش هنا. رجلٌ يُدعى بيدرو بارامو. أخبرتني أمي بذلك”. ثم يبدأ بطل الرواية، أو شخصيتها الأولى، خوان بريسيادو، في الالتقاء بشخصيات يسألها مساعدته في محاولته للوصول إلى أبيه. يأخذه وصف إلى وصف، وبيت إلى بيت، ويدرك قارئ الرواية من البداية أن هناك إشكالية في بناء الزمن، وكذلك إشكالية في حيويَّـة شخصياتها. هناك الكثير من العلامات الواضحة على أن بعض الشخصيات شبحية. يسمع البطل أحيانًا صوتًا، ثم لا يدري إن كان سمعه أم تخيَّله، يرى شبحًا، ثم حين يحاول أن يلمسه لا يجد شيئًا. وأحيانًا يحرِّك يده نفسها في الهواء ولا يجدها. يستمر البطل في الانتقال من بيت إلى بيت بحثًا عن أبيه، ثم يدرك قُبيل منتصف الرواية أنه هو أيضًا شبح من ضمن الأشباح، لكنه الشبح الوحيد الذي يموتُ وينتقل إلى الحياة الأخرى، ولا يظل محبوسًا في البرزخ الأبدي الذي تُعذَّب فيه بقية أشباح القرية بذنوبها.

قبل موت البطل وبعده، تستمر الرواية بلا زمن خطي، تنتقل ذكريات الأشخاص وحكاياتهم، وحكايات بيدرو بارامو، وأبيه لوكاس بارامو، وابنه ميجيل بارامو، أحيانًا على ألسنة من عرفوهم، وأحيانًا أخرى على لسان راوي الحكاية العليم. وتنتهي الرواية بموت بيدرو بارامو، الذي نعرف من أول صفحات الرواية أنه قد مات منذ سنوات بعيدة، على لسان أول شخص قابله وأخبره أنه هو أيضًا أحد أبناء بيدرو بارامو.

يقول المؤلف عن روايته إنها رواية صعبة، وقد يحتاج قارئها إلى إعادة قراءتها ثلاث مرات لفهمها، فقد عمل فيها مع أشباح موتى. ولذلك، لم يلتزم بزمن خطي ولا بأماكن مترابطة للأحداث. فالزمان والمكان اللذان نعرفهما في الحياة، لا يبقيان كما هما بعد الموت.

إنها رواية لا تفصح، بل تَشي. لا تتحدث، بل تهمس. لا تقول، بل تُوَشْوِشُ. نعم. هي رواية الوشوشات التي كانت الاسم الأول للرواية، قبل أن يُغيِّرها الكاتب الصامت إلى بيدرو بارامو.

وهل يخبرنا الاسم النهائي للرواية بشيء؟ أهو مقصود لذاته، مثل أسماء أبطال روايات نجيب محفوظ؟ هل لبيدرو بارامو من اسمه نصيب مثلما لمحجوب عبدالدايم بطل قاهرة محفوظ الجديدة؟ يخبرنا خوان بيُّورو في محاضرته عن الرواية ضمن سلسلة عن أهم الروايات المكسيكية في الجامعة الوطنية، أن لكلا اسمي البطل معنى يدل على شخصيته. بيدرو هو بطرس في العربية، وكلاهما آتٍ من الاسم اللاتيني (Petrus) الذي يعني حجارة. أوليس بيدرو بارامو مثل الحجارة أو أقسى منها؟ وبارامو، كلمة إسبانية تدل على المكان القاحل، والخالي من البشر. وهي نفس الكلمة التي استخدمها الغازي الإسباني لوصف أحد أهم الأنسجة البيئية في توليد الماء والحفاظ عليه؛ إذ تتكوَّن على القمم، التي يصل ارتفاعها إلى خمسة آلاف متر، مستنقعات بها عشب إسفنجي يجمع ماء المطر والضباب. لكن بارامو قد تعني كذلك، كما يشير بيُّورو، إلى العُقم. فإن الصحراء لا تلد، لا تردِّد الصحراء إلا صوت العدم، كما يقول الباكي بين يدي زرقاء اليمامة: “واغرس السيف في جبهة الصحراء، إلى أن يجيب العدم؛ إنني كنتُ لك: فارسًا، وأخًا، وأبًا، ومَلِكًا”.

 بيدرو بارامو، الذي اغتصب الأموال والأنفس والأراضي، يموتُ وحيدًا، بعد أن شهد مقتل ابنه الوحيد الذي اعترف به وحمل اسمَه على فرسٍ، وأمر أن يقتلوا الفرس حتى لا تتعذب بعد صاحبها، وقد استعصى عليه أن يمتلك المرأة الوحيدة التي أبكاه حبُّها في حياته. هل هي رواية عن الكراهية؟ عن رجلٍ لا يرى في الحياة سوى القتل والتملُّك والأمر الذي لا يُردُّ، أم أنَّها روايةٌ عن الموتى الذين يصبحون “كل يوم أصعب مراسًا” مثل موتى روكي دالتون شاعر السلفادور، أم هي رواية عن أولئك المنبوذين والمهمَّشين الذين لفظهم التاريخ؟ كم ألف مرَّة سُئِل هذا السؤال منذ أن نُشرت الطبعة الأولى للرواية المكسيكية الخالدة قبل سبعين سنة؟

قد يكون الشيء المشترك بين الفيلمين اللذين صوّرا هذه الرواية، فيلم الستينيات وفيلم العام الجديد، أن سطوة الرواية عليهما جعلتهما يحافظان على الحوار في السيناريو كما هو في الرواية من دون تغيير كبير. لكن الفرق الكبير بينهما هو أن الفيلم الأول ظنَّ أن هذا كافٍ لتحويل عمل بهذه الشاعرية وهذا الثراء البصري والتخيُّلي إلى فيلم سينمائي، بينما أدرك صانعو الفيلم الحديث أن إنتاج عمل سينمائي عن رواية كهذه يحتاج إلى عمل شاق ودراسة طويلة للبحث في كيفية ترجمة ما لا يُقرأ في كلمات الرواية؛ ترجمة الوشوشات خلف الوشوشات، والأصوات خلف الأصوات، والصور التي تختفي فلا يدري رائيها أكانت حقيقةً أم خيالًا.

إضافة إلى تعقيد عنصر الزمن، كانت شاعرية الرواية عقبة كبرى أمام تحويلها إلى فيلم سينمائي في محاولتين تفاوت نجاحهما.

وعن أي شيء عجز إذًا الفيلم القديم في محاولته معالجة الرواية؟ أو لنلبّس السؤال كلمات أخرى، ماذا فعل الفيلم القديم بالرواية؟

إن كنا سنقف إلى جوار من يقولون إن رولفو كان شاعرًا كتب شعرَه كُلَّه في السرد، فسنقول إن ما فعله الفيلم الأول يشبه الصورة العظيمة التي شبَّه بها الشاعر الآسيوي الترجمة الشعرية بالدخول تحت دُشٍّ من الماء بمعطف ثقيل. فهل سيتمكن من يقف تحت الدُش بمعطف من الإحساس بالماء؟ هذا الشعور سيعتري من يشاهد الترجمة السينمائية للرواية في فيلم عام 1967م.

 هو معالجة سينمائية جريئة، ومتقنة الصنع، وفيها ما في الإبداع من تفسير، وإعادة خلق. هو ترجمة إذًا، لكنه ترجمة شعريَّـة جيدة لقصيدة عظيمة. وما أقصى طموح مترجم الشعر؟ أن يخلق في لغة الترجمة نسخة فيها من جمال أصل القصيدة شيءٌ، وإن لم تقدر على أن تبرز كل جماليات القصيدة في لغتها الأم، وهو عينُ المستحيل، المستحيل الجميل.

أحد أكثر العناصر تعقيدًا في الرواية، وفي الفيلم كذلك، هو الزمن. منذ بدايات الرواية يدرك القارئ في تيهه المتكرر والمفاجئ بين الفقرات التي تفصلها نقطة في منتصف السطر، وسنوات في عمر شخصياتها، وجسور بين الحياة، والبرزخ، والمطهر، والموت. لا يدري قارئ الرواية إن كانت دوروتيا جارة خوان بريسيادو في قبره حيَّة أم ميِّتة، وهي تستلقي إلى جواره على سريرها بعد أن يخرج أخوها أو رفيقها وتظن أنه خارج إلى غير عودة. يعرف القارئ أنها كانت ميِّتة بعد صفحات عدة من ظهورها الأول، حين يموت خوان بريسيادو في غيابها وأخيها عن البيت، أو بعد تحولها طينًا من طين الأرض كما يظهر الفيلم، ثم تجده هي وأخوها دونيس في ميدان القرية ويتهمانه بتمثيل الموت. ثم تدخل معه في حوار ينتهي بنا مدركين أنها دُفِنت معه في مدفنه نفسه، وإن لم تستطع مثله أن تصل إلى الفردوس، لأن خطاياها حبستها في عالم البَيْن.

قد تكون لغة الرواية، وشاعريَّـة صورها، والحوارات الداخلية لشخصياتها، ووصف الأماكن نفسه، كلها فتن لُغوية تجعل الرواية في المكان الذي تشغله على خريطة الأدب العالمي. ويجعل هذا أيضًا من ترجمة الرواية مهمة شديدة الصعوبة، سواء للغة فنية أخرى مثل لغة السينما، أو إلى لغة أخرى؛ لأسباب عديدة أهمُّها اللغة الخاصة التي يخلقها خوان رولفو لشخصياته.

لكن الفيلم تمكَّن من الاقتراب من الرواية بشكل جيد، ويمكن أن يُلتفت إليه أكثر فيما بعد، وكأنه يعيد سيرة حياة الرواية التي لم تنل حظها في البداية. فقد جاء إطلاق الفيلم من دون إعلان مسبق، بعكس المسلسل الذي أطلقته المنصة بعده بأيام عن رواية ماركيز الشهيرة “مئة عام من العزلة”، وحظي بكثير من الإعلانات، منذ توقيع عقد الرواية مع ابني ماركيز الذي رفض طوال حياته تحويل رائعته إلى فيلم، هذه الرائعة التي لم تكن لتُكتب لو لم يكتب خوان رولفو “بيدرو بارامو”، فماركيز نفسه يعترف بأثر رولفو عليه.


مقالات ذات صلة

تشكِّلُ الثقافتان الصينية والعربية ركيزتين عريقتين من أهم ركائز الإرث الثقافي والحضاري للإنسانية، والتعاونُ بينهما كان ولا يزال جسرًا للتواصل الإنساني والتفاعل الثقافي من طريق الحرير القديم إلى أحدث مبادرات اليوم.  

هل شقّ النشر الذاتي طريقه بنجاح في العالم العربي؟

سيبقى اسم الدكتور عبدالرحمن الطيب الأنصاري على مرِّ الأجيال عَلَمًا في التأريخ وعلم الآثار، وعنوانًا للمثقف القائم على أفضل وجه بدوره الاجتماعي.


0 تعليقات على “بيدرو بارامو.. رواية بين فيلمين”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *