بيوت الفنَّانين هي مداخل لفهم علاقاتهم بالأمكنة وخياراتهم الفنّية، ومعايير التذوّق والتلقّي التي سادت في عصرهم. هنا في بيت رامبرانت في أمستردام، مسقط رأسه، تلتقي تشكيلات المجتمع وطبقاته. البنّي هو سيّد الألوان التي تمتزج بشجاعة، وتجتذب الدفء والضوء في هولندا المنخفضة، حيث يتناغم كل شيء مع الأوراق المتساقطة على أرصفة المدينة بحزنٍ رومانسي.
عاش رامبرانت في منزله المؤلّف من ثلاثة طوابق نحو ثلاثين عاماً (1639 – 1658م). ويقع هذا البيت في منطقة راقية، سكنها عديد من التجّار والفنّانين والأغنياء. وشيّد عام 1606م على مرحلتين، وتمّ تجديده لاحقاً، كما أُعيد تصميم واجهاته الخارجية ليأخذ شكله الحالي، ويتحوّل إلى متحفٍ مفتوح على مدار العام.
الأثاث في منزل رامبرانت مخمليّ، يتلاقى مع شخصيّة الفنّان، الذي يوصف بالمتعالي والمغرور. الجهد واضحٌ في تهذيب الفضاءات الداخلية وتنميقها: مشغله، وأدوات الرسم، والأصباغ، وخزانة الملابس، والأغطية، وسريره، ومكتبه، وأدوات الكتابة، وأدوات الحفر والرسم، كلّها تتناغم مع لوحاته على جدران الغرف، وأشهرها “درس التشريح للدكتور نيكولايس تولب”، “النقابات”، “عودة الابن الضّال”، “عشاء عند آموس” و”ساسكيا”، الزوجة والحبيبة، التي رسمها بأروع أزيائها وزينتها، التي تنتمي إلى أسلوب الموضة في القرن السابع عشر.
في منزل رامبرانت، الطاولات هي الأكثـر عدداً، طاولاتٌ مصنوعة من الحجر والخشب، مرتبطة بطقوسه وعاداته، مثل الكتابة والتأمل والرسم والتنميش “Etching”.
تعلّم رامبرانت الرسم في سنّ مبكّرة، عندما كان يعيش في لايدن. ومنذ أن افتتح مشغله الخاص في أمستردام، راح يجتذب مزيداً من التلامذة، فاق عددهم الخمسين. كان أسلوبه في التدريس تقليدياً، إذ علّم تلاميذه قواعد الفنّ الأساسية، لكنّه أدخل تعاليمه الخاصّة على دروس الفنّ. وقد أسهمت طباعه الغريبة، وشغفه في التحقّق والتدقيق، في تطوير أساليبه باستمرار، باحثاً عن طرق مختلفة لنقل مهاراته التقنية إلى طلابه الموهوبين؛ طرق لا تزال تُدرّس حتى اليوم في ورشات عمل يومية تجري داخل منزله، علماً أنّ أثره امتدّ إلى كبار فنّاني جيله، مثل غويا وديلاكروا وآخرين.
المقاعد في منزل رامبرانت هي أيضاً متكلّفة، مصنوعة من الجلد الطبيعي المقاوم للزمن، متجاوراً مع الخشب المزخرف بحدّة ودقّة. حتى خزانة ملابسه وأغطية أسرّته، تبدو مرفّهة، تليق بفنّانٍ حسّاس للهواء، عندما يحرّك الدانتيل على أطراف القماش، الفنّان الذي غلبه الحزن جرّاء الفقدان المتواصل، فقدان زوجته ثم أولاده الأربعة واحداً تلو الآخر.
لعبة الضوء والظل في حدودها القصوى
وإذا كان البنيّ هو كبرياء الألوان، فالذهبي هو موطن الضوء في لوحات رامبرانت، الضوءُ بوصفه أثراً أكثر منه لوناً، لا يقتصر على الذهبي والأصفر اللذين تميّزا في مزجهما، وإنما في إقرانهما تبادلياً بالظل. فمن شأن الظلال الداكنة، إبراز الألوان الفاتحة، ومن شأن الإضاءة، إبراز ما هو داكن.
تُعدُّ جذور الضوء في لوحات رامبرانت، سرّ الافتتان بأعماله المنجزة بأسلوبٍ انفعالي، وقد أسّس مفهوماً جديداً للضوء في اللوحة الفنّية، أفادت منه تقنيات السينما والمسرح لاحقاً.
يقول ليوناردو دافنشي عن منظور الألوان الذي دوّنه في ميثاقه حول الرسم: “إنّ كثيراً من المواقع تكون مضيئة بحدّ ذاتها، إلّا أنها تبدو كالمظلمة والمجرَّدة من كلّ لون ومن هيئات الأشياء بداخلها، يحدث هذا بسبب الهواء المُضاء، الذي يتدخّل بين عين المُبصر والأشياء، لكن ما إن تدخل ذاك المكان، حتى تُبصر الأشياء مُضاءة”.
رسم الصور الشخصية بالدرجة الأولى
تعدّدت مواهب رامبرانت، ما بين الرسم والحفر وجمع القطع الفنية التي ألهمته في أعماله، ويعرض متحفه في أمستردام، الذي أعيد تجديده عام 1999م، عدداً كبيراً من هذه القطع في أماكن مخصّصة لمقتنيات الفنّان الشخصية.
ارتبطت موضوعات رامبرانت، بقضايا تاريخية ودينية، ومشاهد من الطبيعة، فضلاً عن لوحاته عن الأعيان والنبلاء، وأخرى عن الحياة اليومية. تفوّق في رسم البورتريه، وخصوصاً وجه زوجته ساسكيا، كما نال وجهه الحصّة الأكبر من أعماله، إذ أنجز نحو 80 صورة ذاتية في مراحل مختلفة من حياته، وأسهمت “وجوهه” المتعدّدة، في تعرّف الناس إليه أكثر، ومنحته شهرة أوسع في بلاده.
سيرة ونهاية
رامبرانت فان رايِن، رسّام هولندي وُلد بـ “لايدن” جنوب هولندا في 15 يوليو 1606م وتوفّـي في أمستردام في 4 أكتوبر 1669م. هو سليــل طبقة اجتماعية راقية، وابن مالك طاحونة الحبــوب المشهـور. درس مبادئ فنّ الرسم وعلوم الدّين، ثم انضمّ إلى كلّية الفلسفة في جامعة لايدن في سنّ مبكرة (14 عاماً). أحبّ سَاسْكِيَا وتزوّجها، فأنجبت منه أربعة أطفال، مات منهم ثلاثة وبقي ابن واحدٌ يدعى تيتس. عاش رامبرانت فترة ازدهار فنّي واجتماعي، قبل أن تتداعى حياته على كل المستويات.
تقول الحكمة القديمة عن الفيلسوف الروماني سينيكا: “فكما هي الحكايةُ، كذلك هي الحياة، ليست بقدرِ طول مدّتها، وإنّما بقدر السعادة فيها، هذا هو ما يهمّ”.
بعد وفاة ساسكيا تزوّج مربّية ابنه سرّاً جيرتج ديركس، فانقلبت عليه الأخيرة، وحاولت سرقة المجوهرات التي أهداها لها، وهي أصلاً تعود إلى زوجته الأولى. اتّهمها بالجنون وأدخلها مصحّاً عقلياً، ثم تزوّج مربية ثانية هي هندريكج ستوفيلز، وأنجبت منه الطفلة كورنيليا. بعد ذلك ساءت سمعته ونبذه المجتمع. فتراجعت مداخيله وعانى الفقر، وباع منزله ليشتري بيتاً صغيراً. انعزل اجتماعياً وفنّياً، وبقي تحت وطأة الدائنين لفترة من الزمن. وعندما ماتت زوجته الأخيرة، لم يكن يملك تكلفة دفنها، فاضطرّ إلى بيع قبر زوجته الأولى ساسكيا. وبعدها توفّي ابنه تيتس. فهجر رامبرانت العالم، ودخل في عزلةٍ طويلة، أمضى سنواته الأخيرة وحيداً زاهداً حزيناً، حتى وفاته عن عمر يناهز 63 عاماً.
اترك تعليقاً