بعد إرنست همنغواي، لم يعرف الأدب الأمريكي ظاهرة “الروائي النجم” مثلما عرفها مع بول أوستر، على الرغم من الخلاف بين الشخصيتين وتجربتيهما في الكتابة. همنغواي (يوليو 1899م – يوليو 1961م) اخترع نجوميته بصخبه الشخصي، وعلى العكس منه بول أوستر (فبراير 1947م – أبريل 2024م) الذي اخترع نجوميته في العزلة. عاش أوستر نجمًا رغمًا عنه، تُلاحق الصحافة أخباره الشخصية، خصوصًا في السنوات الأخيرة. لقد أغلق الموت ملفه الشخصي، ولكن يتبقى إبداعه الذي يتناوله د. سعد البازعي في هذا المقال.
يبتعد الأدب عن الذات في أنواع أدبية مثل القصة والمسرح، أو لعله يسعى إلى الابتعاد لكي ينغمر في الآخرين، في المجتمع، في التاريخ، في الثقافة بصفة عامة. لكنه ما يلبث أن يعود بين الفينة والأخرى إلى ما ينغمر فيه الشعر: الأنا. تُعد الأنا شخصية بين شخصيات المسرحية أو الرواية، أو تكون البطلة الحقيقية المتوارية خلف شخصية رئيسة أو راوٍ (متحدث). من هنا، جاء انغمار كثير من الأدب السردي في السيرة الذاتية على تفاوت في نجاح الكاتب في إيجاد عوالم موازية لعالمه، عوالم تذكِّر به لكنه لا يتماهى معها أو يندمج فيها؛ إذ في التماهي والاندماج إضعاف لدرامية العمل أو للمسافة التي يتوقعها القارئ من عمل روائي لا من سيرة مباشرة للكاتب.
يتكرر العالم الموازي كثيرًا لدى الروائيين بصفة خاصة، فتضطرب العلاقة بين الكاتب والشخصيات، وتتحول القراءة النقدية أحيانًا إلى ما يشبه التحقيق البوليسي بحثًا عن الكاتب بين الشخصيات أو بين السطور. وبعض الكتَّاب لا يتعبك في البحث، فهو حاضر بوضوح وإن لم يتماهَ مع شخصيات روايته أو أحداثها. ومن أولئك الكتّاب بول أوستر، الحاضر بقوة فيما قرأت له من أعمال، ولا أقصد روايته الأخيرة “بومغارتنر” التي ترجمتُ فحسب، وإنما في أعمال روائية أخرى مثل عمله الروائي الشهير “ثلاثية نيويورك”. والمقصود بذلك الحضور الملتبس الذي يُدنيك ليبعدك، ويوضح لك بقدر ما يتوارى عنك. والكاتب في ذلك مثل مَن يخلق سيناريوهات مختلفة لحياته: ماذا لو أنني عشت بهذه الصورة أو سارت حياتي بتلك الطريقة؟ وماذا لو أنني قابلت هذا وليس ذاك، أو تزوجت هذه وليس تلك؟ وهكذا.
في “بومغارتنر”، يحضر أوستر من خلال شخصية بومغارتنر المثقف الذي يكتب كتبًا في الفلسفة وليس في الأدب، فهو قريب من أوستر وبعيد في الوقت نفسه. بومغارتنر أستاذ جامعة وليس روائيًا، وزوجته شاعرة ومترجمة، وهذا جانب من جوانب شخصية أوستر نفسه. لكن المهم هو أن للثقافة العالية حضورًا مكثفًا في رواية تتأمل واقع الإنسان الغربي، الأمريكي بصورة خاصة، في عالم يموج بالعنف والشك والعزلة. ذلك العالم هو ما تتناوله أعمال أوستر الأخرى كما هو معروف، لا سيَّما كتابه الأول “اختراع العزلة”.
نقد لظروف العيش وتكثيف للذاكرة
في “بومغارتنر” يكتشف القارئ نقدًا متواصلًا لظروف العيش في مجتمع يعيش أفراده في بحث متواصل عمَّا يصلهم بالآخرين. وبومغارتنر، الذي يدرّس الفلسفة في جامعة برنستون الأمريكية العريقة، يواجه أزمة عزلته، ولا سيما بعد مرور حوالي عشرة أعوام على فقد زوجته. العلاقات التي يقيمها جزء من ذلك البحث، لكن في الرواية تكثيفًا أيضًا للذاكرة التي تشغل مساحة واسعة من سرد بومغارتنر لحياته وكأنه ينظر إلى حياة انتهت بأجمل ما فيها وهي العلاقة بالزوجة الراحلة. المحاولتان اللتان ينشغل بهما تنتهي إحداهما بخيبة أمل، في حين تظل نهاية الثانية مفتوحة، ولعل أوستر كان يأمل في مواصلة الكتابة عنها لاحقًا. لكن النهاية تتضمن أيضًا حادث سيارة لبومغارتنر يسبِّب له كسورًا وجراحًا، وهي وإن لم تكن خطيرة فإنها تحمل رؤية كئيبة للعالم أو اقتراب النهاية لكاتب، أي أوستر، كان يعلم أنه مصاب بداء عُضال قد يؤدي إلى نهايته، وهو ما حدث بالفعل.
في رواية “بومغارتنر” ما يتجاوز معضلات تلك الشخصية ويضعها على مسافة من السيرة، لكن ما يربطها بالسيرة يظل أقوى. ومن تلك الروابط زيارة بومغارتنر لأوروبا، وتحديدًا إلى أوكرانيا، حيث يستعيد ماضي أسرته اليهودية في إحدى القرى الأوكرانية. وتطرح الرواية هنا إشكالية الهوية التي كثيرًا ما تُطرح في أدب الأقليات. فقد ذهب بومغارتنر ليتعرف على المكان الذي عاش فيه جده لأمه، الذي يذكرنا الراوي بأن اسمه “أوستر”، ولا غرابة في ذلك! لا أحد في القرية يتذكر الاسم سوى امرأة عجوز ومختلة. ذلك الخبر الكئيب وما يتضمنه من انقطاع في الصلة، يُنهي علاقة بومغارتنر بالقرية الأوكرانية.
بين التجربة الشخصية وتوثيق تاريخ العنف
سؤال بومغارتنر عن جده لأمه يذكِّر بحكاية من سيرة أوستر الشخصية الفعلية يرويها في كتابه “الشعب الدموي” الذي تُرجم أيضًا. الكتاب ليس سرديًا بمعنى التخييل، وإنما هو دراسة في تاريخ العنف في الولايات المتحدة الأمريكية. تبدأ الدراسة بالإشارة إلى ما حدث لجدَّي أوستر، اللذين تطلقا وقرَّر الزوج الانفصال عن زوجته ليتزوج بأخرى، تاركًا وراءه أولاده ومن بينهم والد بول أوستر. وتضمن الزواج الانتقال للعيش في بلدة أخرى. لكن الزوج، جد أوستر، عاد ليرى أولاده، وفي أثناء عودته انتقمت منه زوجته، جدة أوستر، بقتله بمسدس كانت تحتفظ به.
يمهّد أوستر لدراسته الموثقة للتاريخ الأمريكي الدموي بتلك القصة الشخصية، التي تؤكد ضمن أشياء أخرى تعلّق أوستر بسيرته الشخصية واتخاذها منطلقًا أو مرجعًا لاهتماماته السردية والتاريخية. هذا التداخل بين التاريخ العام والخاص يتصل بأطروحات فكرية ما بعد حداثية ترى التاريخ سردًا لا يخلو من خيال، وبالقدر الذي يزيل كثيرًا من الحواجز بين الحقيقة والوهم. أحد منظري تلك الأطروحات هو المؤرخ الأمريكي هيدن وايت. لكن أطروحات مفكري ما بعد الحداثة الفرنسيين بصفة خاصة، ومن بينهم جاك دريدا، ليست بعيدة عن هذا اللون من التفكير. فمفهوم الحقيقة في الفلسفة يتقوض بفعل التحليل “الدريدي” الذي يكشف عن خبايا الميتافيزيقا في مجازات اللغة الفلسفية. لكن الأدب كان أسبق من أولئك المفكرين وغيرهم في التوغل في تلك المجاهل، أو بالأحرى المتاهات. فأعمال أوستر، وقبلها أعمال كثيرة، توغّلت فيما يُعرف بـ “الميتافكشن ” ، تلك الظاهرة ما بعد الحداثية التي تزيل الجدار الرابع وتزلزل مفاهيم مثل: الحقيقة والواقع والصدق والكذب. الفصل الذي يروي فيه أوستر ذهاب بومغارتنر إلى القرية الأوكرانية يبدأ على النحو الآتي:
“هل من الضروري لحدث أن يكون حقيقيًا ليُقبل على أنه حقيقي، أم أن الإيمان بحقيقة الحدث يجعله حقيقيًا، حتى إن كان الشيء الذي يُفترض أنه حدث لم يحدث؟”.
هذا التساؤل يصيب مفهوم الحقيقة التاريخية بمقتل؛ إذ يمزج السرديات الشعبية والأقاويل بما جرى التعارف عليه على أنه تاريخ موثق أو رسمي.
الثقل الدلالي للتنقل بين الأسماء
رواية أوستر الشهيرة “ثلاثية نيويورك” ليست بعيدة عن ذلك المزج. الرواية الأولى، أو الجزء الأول من الثلاثية “مدينة من زجاج ” ، يرويها شخص اسمه كوين تخلَّى عن التأليف في مجالات عديدة وانصرف إلى كتابة الروايات البوليسية وما يشبهها وذلك بتبني اسم مستعار. لكن اتصالًا هاتفيًا يبحث عن بوليس تحرٍّ يجعله يتبنى اسمًا آخر رغبة في المغامرة وطمعًا في المردود. يتصل به شخص يطلب “بول أوستر” ، فينكر كوين أن ذلك اسمه، لكنه سرعان ما يوافق ويتحول إلى “بول أوستر” ؛ أي أنه يدّعي أنه يحمل ذلك الاسم. التنقل بين الأسماء مسألة لها ثقلها الدلالي في عالم سردي يُثير مسائل مثل الهوية والحقيقة من زاوية فلسفية تؤدي اللغة فيها دورًا واضحًا. حين طلب المتصل من كوين أن يكون مخبرًا سريًا، يبدأ الراوي بتقليب المفردات (بلغتها الإنجليزية طبعًا): “برايفت آي” private eye هي أيضًا “private I”، أي “الأنا الخاصة أو السرية” (حرف آي بالإنجليزية يعني أنا، كما هو معروف). فالآي تورية حين يتلفظ بها؛ إذ تشير إلى العين وإلى الأنا في الوقت نفسه. يقول الراوي موضحًا إن كوين بدأ يفكر بالآي بالحرف الكبير (بالإنجليزية):
“إنها برعم الحياة البالغ الضآلة المدفون في جسد الذات التي تتنفس. وهي في الوقت نفسه العين المحسوسة التي يملك الكاتب، عين الإنسان الذي ينظر من داخل ذاته إلى العالم مطالبًا العالم بأن يكشف عن نفسه له. مرت خمسة أعوام وكوين يعيش في قبضة هذه التورية”.
في مرحلة متأخرة من الرواية تُطرح مسألة الذات والهوية مرة أخرى عبر اكتشاف يزيد الأمر تعقيدًا. يكتشف كوين، الذي سمَّى نفسه “بول أوستر” ، أن هناك فعلًا شخصًا بذلك الاسم، فيبحث عن مكان إقامته ويقابله. في لقاء الرجلين يكتشفان أنهما معجبان برواية “دون كيخوته” للكاتب الإسباني الشهير سرفانتيس. ويتضح أن أوستر الفعلي أو الجديد كتب مقالة عن تلك الرواية تتناول اختراع سرفانتيس مؤلفًا عربيًا لروايته هو سيدي حامد بننجلي. قرّاء الرواية يعرفون ذلك، ولكن وجود “مؤلف ضمني” يأتي ضمن نقاش لعلاقة المؤلف بالشخصيات وبالعمل الروائي نفسه. سرفانتيس، كما يقول أوستر، سعى إلى شخصية مختلقة هي شخصية المؤلف العربي ليقنع القرّاء بأنه ليس المؤلف الحقيقي للرواية: “الكتاب، كما يقول، كتبه باللغة العربية سيدي حامد بننجلي”.
في هذه المتاهة، قد يصعب على القارئ معرفة من المؤلف ومن الشخصية. لكن الخلاصة هي أن الجزء الأول من “ثلاثية نيويورك” لبول أوستر، الذي تُوفِّي مؤخرًا، معنية بتلك المتاهة، ومن خلالها معنية بمسائل كبرى في الأدب والفلسفة في عصر ما بعد الحداثة. الجزءان الآخران من الثلاثية “أشباح” و “الغرفة المغلقة” لا يقلّان انشغالًا بتلك المسائل، لكن من زوايا مختلفة. في “أشباح” تُطرح مسألة الهوية منذ الكلمات الأولى، فالشخصيات تُعرف بالألوان لا بالأسماء: أزرق وأبيض وأسود وبني. ثم تبدأ الحكاية بوصف الأجواء الكابوسية التي يعيشها “بلو” (أزرق) نتيجة قلقه من أن أحدًا يتابعه أو يترصد خطاه. ذلك القلق، أو بالأحرى الرعب، ليس سوى قلق الحياة المعاصرة أو رعبها في مدينة هائلة مثل نيويورك. لكنه رعب تتخلله إضاءات ولحظات تخفف من حدته. ومع ذلك، فإن إشكالية الهوية تظل حاضرة في أناس يُعرفون بألوانهم، أناس لا هوية لهم بالمعنى المتعارف عليه. والألوان مسألة خطيرة في الحياة الاجتماعية الأمريكية؛ إذ إنها تتصل مباشرة بالعنصرية والتفرقة بين الألوان، بنحو يتجاوز اللون كما هو معروف إلى ما هو أخطر بكثير. لكن الجميع يظلون أسرى حياة تغمرها العزلة، فالكل هنا يعيشون وحدهم في مدينة يعيش معظم سكانها، وهذه حقيقة معروفة، أفرادًا منعزلين، يلتقون في “بار” أو مطعم أو حفلة، لكن لا حياة مشتركة إلا ما كان مؤقتًا في علاقات لا ديمومة لها:
“هناك لحظات يشعر فيها أنه منفصل عن أسود (بلاك)، مقطوع عنه بطريقة تجعله مقفرًا بالمطلق، إلى درجة أنه يبدأ بفقدان الإحساس بهويته. تغمره العزلة، تغلفه، تغلقه على نفسه، ومعها يأتي رعب أسوأ من أي شيء عرفه في حياته”.
بعض الكتّاب لا يتعبك في البحث عن حضوره في أعماله، فهو حاضر بوضوح وإن لم يتماهَ مع شخصيات روايته أو أحداثها، ومن أولئك الكتّاب بول أوستر.
جاء بومغارتنر ليعرف هذه العزلة فيما بعد، مثلما عرفها قبله بول أوستر نفسه في حياته الشخصية التي سرد جانبًا منها في كتابه المعروف “اختراع العزلة “. بومغارتنر الذي يعيش وحدَه في منزله متعدد الغرف، الذي تملأ أرجاءه أشياء زوجته وذكرياته معها. هذه العزلة أخف بكثير من الأجواء الكابوسية التي ترسمها “ثلاثية نيويورك”، لكنها ظلت تلازم الكاتب الأمريكي حتى النهاية.
أخيرًا، من المهم أن نتذكر أن لأوستر جوانب إبداعية وفكرية تتجاوز الرواية، فقد كان شاعرًا وكاتب مقالات نقدية ومترجمًا، وهذه جوانب مهمة في التعرُّف حتى على الجانب الروائي من شخصيته. تلك الجوانب يتضح بعضها في كتاب “اختراع العزلة”، لكن الكتاب لا يشملها كلها. في كتاب بعنوان “التحدث إلى الغرباء” صدر أوائل الثمانينيات وأعيد إصداره عدة مرات، آخرها كان عام 2019م، نجد بعض تلك الجوانب المهمة والطريفة أيضًا. ولعل مما يخفف من حدّة الوقوف على العالم الكابوسي في بعض ما استعرضنا من السرد في هذه المقالة، أن نقف على إحدى مقالات ذلك الكتاب، وهي مقالة قصيرة بعنوان “تذكر بيكيت: بمناسبة عيد ميلاده المائة” (2005م). تتصل هذه المقالة بالجانب الفرنسي من أوستر، وهو جانب مهم؛ لأن الكاتب الأمريكي عاش في فرنسا وأتقن الفرنسية، وهو من أشهر الكتَّاب الأمريكيين فيها، وله كما يُقال شعبية واسعة هناك.
كان أوستر في باريس، كما يروي هو، حين التقى الكاتب الأيرلندي الباريسي أيضًا والكبير طبعًا سامويل بيكيت. الحوار الذي دار بين أوستر وبيكيت طريف وغني بالدلالة. يقول أوستر إن بيكيت أخبره أثناء الحوار أنه أنهى توًّا ترجمة أولى رواياته بالفرنسية وهي “ميرسيير وكاميير”. يقول أوستر إنه أثنى على الرواية التي قرأها بلغتها الأصلية، أي الفرنسية، ثناءً حارًا، فردَّ عليه بيكيت قائلًا: “لا، لا، لا، ليست رائعة”، ثم أضاف أنه حذف حوالي ربعها، وأن النسخة الإنجليزية ستكون أقصر بكثير من الأصل. استغرب أوستر من ذلك، وكرَّر إعجابه بالنص الأصلي، ليكرِّر بيكيت عدم إعجابه. يقول أوستر بعد ذلك، إنه بعد أن انتقل الاثنان إلى موضوعات أخرى، بعد خمس أو عشر دقائق: “مال نحوي عبر الطاولة ونظر في عيني وقال: هل حقًا أعجبتك؟ هل وجدتها جيدة حقًا؟”. ويعلّق أوستر على ذلك قائلًا: “لقد كان هذا سامويل بيكيت، تذكّر، حتى هو لم تكن لديه أدنى فكرة عن قيمة عمله. ليس هناك كاتب يعرف حتى أفضلهم”.
الذين يعرفون، كما يفترض، هم القرّاء وليس أي قرّاء بالطبع، لكن قارئًا بحجم أوستر خليق به أن يعرف. ولعل من الواضح أنه كان قارئًا بحجم ما كان كاتبًا.
اترك تعليقاً