مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير - فبراير 2023

برنامج أرتميس الفضائي


حسن الخاطر

استيطان القمر واستكشاف الفضاء

بعد انقطاع دام حوالي خمسين سنة، منذ أن وطأت قدم الإنسان سطح القمر على متن آخر رحلة فضائية لزيارته ضمن برنامج أبولو في ديسمبر 1972م، يُعيد برنامج “أرتميس” الإنسان إليه بأهداف طموحة، حيث أعلنت وكالة الفضاء الأمريكية “ناسا”، في 25 يوليو 2019م، أن البرنامج يسعى للاكتشاف العلمي والتنمية الاقتصادية؛ والغاية هي إنشاء أول وجود بشري-روبوتي طويل المدى على القمر.

حسن الخاطر

يقوم البرنامج على التعاون مع شركاء تجاريين ودوليين، وسوف يستخدم العلماء ما يتعلمونه على القمر للقيام بالقفزة العملاقة التالية: إرسال رواد الفضاء الأوائل إلى المريخ. كما سيُلهم هذا البرنامج الجيل الجديد ويشجعه على اتخاذ مسارات وظيفية في مجالات العلوم والتقنية والهندسة والرياضيات (STEM).

أهمية القمر

للقمر أهمية كبيرة بالنسبة إلى سكان الأرض، فهو يوفر ظروفًا مؤاتية لا تتوفر على الأرض لاستخدامه كقاعدة لاستكشاف الفضاء. كما أنه يشكل موردًا اقتصاديًا كبيرًا خاصة بالنسبة إلى الطاقة النظيفة.

والحال أن جاذبية القمر تبلغ سدس جاذبية الأرض، وهذا يعني أن سرعة الانفلات من الجاذبية على سطح القمر هي أقل بكثير منها على كوكب الأرض. وحتى يتغلّب الصاروخ على قوة الجاذبية الأرضية ويتحرَّر من سيطرتها، يجب أن تتجاوز سرعته 40 ألف كيلومتر في الساعة، بينما يتطلّب انطلاقه من القمر سرعة أعلى من 8600 كيلومتر فقط! وهكذا كلما قلت السرعة المطلوبة لانطلاق الصاروخ، كانت عملية إطلاقه أسهل، والطاقة المستهلكة أقل.

كما يحتوي القمر كذلك على ثروات ضخمة جدًا، أهمها غاز الهيليوم 3، وذلك أن القمر تعرّض في الماضي لكميات كبيرة منه بواسطة الرياح الشمسية، على عكس الأرض المحمية بمجالها المغناطيسي، الذي يمنع  وصول الرياح الشمسية، ويدفعها باتجاه القمر والكواكب الأخرى، باستثناء كميات قليلة جدًا. وهذا النظير من الهيليوم له القدرة على توفير طاقة نووية أكثر أمانًا؛ لأنه ليس مشعًّا ولا يُنتج نفايات نووية خطيرة.

وللإضاءة على الأهمية الحيوية لهذا الغاز، يقدّر الباحثون، على سبيل المثال، أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج إلى 25 طنًا فقط من الهيليوم 3، كي تولّد طاقة تكفيها لمدة سنة كاملة. وتشير تقديرات العلماء إلى أن التربة القمرية تحتوي على مليون طن من هذا العنصر. وهذه الكمية قادرة على توفير احتياجات البشرية من الطاقة لعدة قرون. هكذا من المتوقع أن تُشكِّل مفاعلات الاندماج النووي التي تعمل بالهيليوم مصدرًا للطاقة النظيفة والآمنة. وهذا يعني أنها سوف تحل أغلب مشكلات الطاقة والبيئة على كوكب الأرض. وقد يكون لذلك انعكاسات إيجابية على حياة الناس؛ ومن شأنها المساعدة في إيقاف حروب الطاقة في المستقبل، والحد من ظاهرة المهاجرين البيئيين المقلقة.

علاوة على ذلك، هناك فكرة واعدة يتم البحث فيها على المدى البعيد، وهي وضع ألواح شمسية على سطح القمر، ونقل الطاقة لاسلكيًا إلى كوكب الأرض، لا سيما أن النقل اللاسلكي للكهرباء يشهد تقدمًا سريعًا.

ومع التطور البحثي في مجال استكشاف المعادن الثمينة الموجودة على القمر، فقد أعلنت الصين في شهر سبتمبر من العام الجاري، اكتشاف معدن قمري جديد على شكل بلورة، أُطلق عليه اسم (Changesite- Y). هذا الاكتشاف جاء من قبل باحثين في معهد بكين لأبحاث جيولوجيا اليورانيوم، بعد أن استخدموا تقنية حيود الأشعة السينية في التربة التي جُمعت من القمر في عام 2020م.

تحديات عديدة

سوف تتجاوز أرتميس 3 محطة الفضاء الدولية، التي تدور حول الأرض على ارتفاع 400 كيلومتر. وللمقارنة فإن القمر يبعد 385,000 كيلومتر، أي ما يوازي 950 مرة من ارتفاع محطة الفضاء الدولية، وهذا يمثّل تحديًا كبيرًا.

وكلما كانت الرحلة أطول تعرّض رواد الفضاء إلى إشعاعات أكثر، وهذا يعود سلبيًا على الجانب الصحي؛ مما يتطلب توفير حماية لهم ضد الإشعاعات. هذا بالإضافة إلى أن قضاء رواد الفضاء فترة طويلة في منطقة جاذبية منخفضة، يؤدي إلى مشاكل صحية خطيرة، الأمر الذي يفرض عليهم القيام بتمارين معينة، وتوفير جهاز له القدرة على توليد جاذبية اصطناعية.

تسخير القمر وما وراءه

يهدف برنامج أرتميس إلى إعادة البشر إلى القمر، وبناء وجود بشري طويل المدى عليه؛ وذلك من خلال تأسيس قاعدة قمرية تكون ملائمة لحياة رواد الفضاء. كما يُنظر إلى القمر كمنجم يحتوي على ثروات ضخمة تشكّل دعمًا للتنمية الاقتصادية المستدامة على الأرض، فمن الممكن استخراج الموارد الموجودة على سطح القمر وإرسالها إلى كوكب الأرض، وبالخصوص عنصر الهيليوم 3 بهدف توليد الطاقة النظيفة. ويسعى البرنامج كذلك إلى بناء محطة فضائية صغيرة تدور حول القمر تُسمى بوابة (Gateway)، بحيث تُجهّز بجميع الأنظمة التي تدعم الحياة لتكون منصة للبعثات المتوجهة إلى القمر وما بعده.

وعلى المدى الطويل، يتطلع البرنامج إلى إطلاق الرحلات الفضائية المأهولة من القمر إلى كوكب المريخ. بعد ذلك، يمكننا أن نتوقع أن يكون القمر منطقة استثمارية يسيل لها لعاب الشركات المهتمة بالرحلات والسياحة الفضائية. ويشير رجل الأعمال ومؤسس شركة (Space X)، إيلون ماسك، إلى أنه ستكون هناك قواعد على سطحي القمر والمريخ خلال الثلاثين عامًا القادمة، وأن الناس سوف يقومون برحلات فضائية بين الكواكب على متن صواريخ (Space X).

تحالفٌ دولي

يختلف برنامج أرتميس عن برنامج أبولو، الذي تفرّدت “ناسا” بتنفيذه، فأرتميس ينطوي على شراكة وتعاون دوليين ضخمين؛ كما أن الإطار الرئيس لاتفاقياته هو إجراء جميع الأنشطة لأغراض سلمية؛ وفقًا لمبادئ معاهدة الفضاء الخارجي لعام 1967م.

وتتضمّن مبادئ الاتفاقية 13 بندًا من أهمها: الشفافية، والاستكشاف للأغراض السلمية، والمساعدة في حالات الطوارئ، والمحافظة على تراث الفضاء الخارجي، وتسجيل الأجسام الفضائية، والتخلص الآمن من الحطام المداري، وتعزيز السلامة والاستدامة.

ومن المنتظر أن تلعب هذه الشراكة الدولية دورًا جوهريًا في تحقيق أهداف البرنامج الطموح، إذ تشارك فيه أكثر من 20 دولة، من ضمنها ثلاث دول عربية: هي الإمارات العربية المتحدة، ومملكة البحرين، والمملكة العربية السعودية.

أهمية الاتفاقية للمملكة

ويحظى قطاع الفضاء باهتمام كبير من قبل حكومة المملكة، ويُعد محورًا رئيسًا ضمن رؤيتها 2030. وتعود جذور هذا الاهتمام إلى اللحظة التي صعد فيها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز على متن مركبة “ديسكفري”، كأول رائد فضاء عربي.

وفي عام 2018م، أسّست المملكة الهيئة السعودية للفضاء، التي أعلنت في شهر سبتمبر المنصرم عن عزمها على إطلاق رحلات فضائية في عام 2023م ضمن برنامج المملكة لروّاد الفضاء، حيث سيكون على متن الرحلة الأولى رائد ورائدة فضاء سعوديان.

ونالت هذه النشاطات الفضائية زخمًا أكبر بتوقيع المملكة اتفاقية أرتميس في جدة بتاريخ 14 يوليو 2022م، حيث مثّل الجانب السعودي الرئيس التنفيذي للهيئة السعودية للفضاء المكلّف، الدكتور محمد بن سعود التميمي، بينما مثّل الجانب الأمريكي مدير “ناسا” السيناتور، بيل نيلسون، الذي أعرب عن سعادته الغامرة بانضمام المملكة إلى البرنامج، وقال حول هذا الحدث التاريخي المهم: “اليوم تضيف المملكة العربية السعودية صوتها إلى مجموعة متنوعة من الدول، وبتعاوننا جميعًا يمكننا أن نضمن أن التوسع السريع للبشرية في الفضاء والقمر والوجهات الأخرى، سيتم بشكل سلمي وآمن، ووفقًا للقانون الدولي”.

وهذه الاتفاقية لها أهمية كبيرة، حيث إنها تساهم في تعزيز نشاط المملكة في الفضاء، إضافة إلى تنويع مواردها في أنشطة اقتصاد الفضاء، وتأكيد الاستخدام السلمي والمسؤول له، والعمل مع المجتمع الدولي في استكشاف القمر والمريخ. كل ذلك ينسجم مع أولويات المملكة وطموحها في الابتكار واقتصاد المستقبل.


مقالات ذات صلة

تُعتبر “المُركَّبات الباقية إلى الأبد” من أخطر المشكلات الصحية المعاصرة، الناتجة عن مبيدات الآفات الزراعية. بينما يفتح الذكاء الاصطناعي آفاقًا جديدة لمواجهة هذه المخاطر..

أحدثت تقنيات تحرير الجينات، مثل “كريسبر كاس 9″، ثورة في علم الأحياء والطب، حيث فتحت آفاقًا لعلاج الأمراض المستعصية بكفاءة وبتكلفة منخفضة. لكن هذا التقدم يثير تحديات أخلاقية، خاصة فيما يتعلق بتحرير “خلايا الخط الجنسي” وتأثيراتها الاجتماعية. لذا، من الضروري الموازنة بين الطموحات العلمية والاعتبارات الأخلاقية لضمان مستقبل مسؤول للبشرية.

اكتشاف الإلكترونات في القرن العشرين أحدث ثورة في فهمنا، مما أدى إلى تطوير تقنيات مسرِّعات الجسيمات وكشف أسرار مذهلة عن عالم الذرة والمادة.


0 تعليقات على “برنامج “أرتميس” الفضائي”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *