مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2025

اليَد


عزت القمحاوي

اليد هي الأداة التنفيذية لكل ما يصنعه الإنسان. بها نأكل ونشرب ونلعب، ونزرع ونصنع، ونصافح ونحارب ونكتب، ونرسم ونبني ونهدم.
وفي اليد تجتمع القوة اللازمة للبطش والدفاع عن النفس إلى الليونة التي تجعلها قادرة على التعامل مع أصغر الأشياء وأدقها. ربَّما لا ننتبه في صحتنا إلى معجزة اليد. لكن عند إصابتها، ندرك حجم ما نعجز عن الوفاء به من مهامنا اليومية الاعتيادية.
فكل هذه المهام تتحوَّل إلى متاعب كبيرة تستدعي الاعتماد على الآخرين عند كسر اليد أو مرضها.وكل ما يمكن أن تـتفتق عنه عبقرية الإنسان في دماغه، لا يمكنه أن يكون ذا فائدة لولا اليد التي تحوِّله إلى هيكل ملموس ومنظَّم قابل لإيصاله إلى الآخرين. وكما تطوَّر كل شيء عبر تاريخ الإنسان، تطوَّرت وظائف اليد، وتعاظم الاعتماد عليها، حتى إن الإشارات بها صارت جزءًا من لغات التواصل، لا بل يمكن القول لغات كاملة للتواصل عندما يعجز اللسان عن النطق أو الأذن عن السمع.
في هذا الملف، يتناول عزّت القمحاوي اليد بدءًا باعتمادنا على مهاراتها واستخداماتها المتعددة في حياتـنا اليومية، إلى حضورها بدلالات لا حصر لها في الثقافة الإنسانية.


كان انتصاب الإنسان على قدميه وتحرير يديه قبل نحو مليوني سنة، مفصلًا بالغ الأهمية جعل كل أوجه تطوره لاحقًا أمورًا ممكنة. هذا ما يقوله علماء الأنثروبولوجيا، ويُضيفون أن انتصاب القامة وتحرير اليدين هو الفارق الثاني الأهم بين الإنسان والحيوان بعد فارق تطوُّر المخ. وإن شئنا الترتيب، ففي الغالب كان تطوُّر المخ الخطوة اللاحقة لانتصاب القامة واستخدام اليدين في العمل، وتعلمهما إشعال النار الذي أثمر الطبخ وكثَّف فائدة الطعام، وهو ما أتاح الشكل الجميل للإنسان بتقليص حجم البطن وتقليص الفكين، ومن ثَمَّ، أتاح اتساع تجويف الرأس الذي سمح بنمو المخ.

فمنذ العصور الحجرية الأولى، كان لليد فضل تفوق الإنسان على الحيوان في الصيد، من خلال قدرته على نصب الفخاخ واستخدام السلاح الحجري. لكن الفضل الأكبر والفارق الحاسم الذي صنعته اليد كان في قدرتها على الزراعة التي أتاحت الاستقرار في مجتمعات تتراكم فيها الخبرات. وبفضل تكامل المخ واليدين بدأت قصة الحضارة والبناء وتصنيع ما يحتاج إليه الإنسان.

فباليدين بنى الإنسان أهرامات مصر وسور الصين العظيم، وبهما ينقر اليوم برقة على مفاتيح الكمبيوتر. وبهما كتب ما يجول في ذهنه من أفكار، وبهما اعتنى بالحيوان وبهما يذبحه، وبهما أطعم طفله، وبهما قاتل الأعداء.

ومع كل تقدُّم في إنتاج الأدوات والآلات، كانت تقل الأعباء على اليدين في الأعمال الشاقة، من دون الوصول أبدًا إلى الاستغناء عنهما. حتى ليمكن القول إن إراحة اليدين كانت وراء آلاف الابتكارات والاختراعات، من الطباعة التي أراحت اليد من النسخ، إلى الرافعات التي أعفت الأيدي من حمل الأثقال. ولكن، كلَّما تقدم الإنسان في مسيرته الحضارية، وأعفى يديه من بعض الأعمال، كانت هناك مهمات جديدة لا يمكن القيام بها بغير اليدين.

وإضافة إلى الإنتاج، أدرك الإنسان منذ زمن غابر، أن لليد قدرة على التعبير في تواصله مع الآخرين من خلال إشارات بسيطة تعفي من النطق بكلمات كثيرة. فبها يصافح الآخرين، وبها يُهدِّد ويتوَّعد ويسفك دماء أعدائه.

ونظرًا لتعدد استعمالاتها وما تتركه هذه الاستعمالات من آثار عليها، صارت اليد صورة معبّرة عن صاحبها، وتحتل في هذا المجال المكانة الثانية بعد الوجه.

 فما حقيقة هذا الطرف المرتبط بأجسامنا بواسطة الذراع؛ ليتمكن من القيام بكل هذه المهمات على اختلاف طبيعتها؟

الصورة التشريحية لليد معجزة من معجزات الخلق، تتداخل فيها شبكات مُعقدة من ضفائر العضلات الداخلية والأعصاب والأوتار المرنة والعظام. في اليد 27 عظمة، و4 نهايات عصبية ومجموعتان من العضلات. كل ذلك يمتد ويتصل بعظام الساعد وعضلاته وأوتاره، ومن ثَمَّ، بالدماغ الذي يأمرها أن تفعل كذا وكذا.

وما تفعله اليد يبدو في حياتنا اليومية أمرًا اعتياديًا وبسيطًا جدًّا، مثل: ارتداء الملابس، وتسريح الشعر، وغسل الوجه، وتناول الطعام، وقيادة السيارة. ولكن، كيف يمكن لحياتنا اليومية أن تكون لو بُترت يدانا، أو تعذّر استخدامهما لعلة ما؟ عندها فقط سنعرف قيمة اليد على حقيقتها. ونظرًا لكثرة المهمات اليومية التي تؤديها، فمن الممكن أن تصاب اليد بأكثر من علّة، مثل التهاب المفاصل، وهو أكثر أمراض اليد شيوعًا عند كبار السن، أو “الباركنسون” الذي غالبًا ما تظهر أقوى عوارضه من خلال ارتجاف اليدين، أو تُصاب بالكسر نتيجة السقوط أرضًا.

وفي مسار الطب الحديث، أصبحت جراحة اليد تخصصًا فرعيًا ضمن جراحات العظام والتجميل والجراحات العامة. إذ ينبغي للطبيب إكمال سنة على الأقل من التدريب المتخصص في جراحات اليد، بعد الدراسة التي تُراوح ما بين خمس وسبع سنوات. كما تتطلب مزاولة المهنة الحصول على شهادة من المجلس الطبي المناسب.

اقرأ القافلة: ملف “الوجه”، من العدد نوفمبر-ديسمبر 2010م

البصمة هي الخطوط المتعرجة والأقواس التي تظهر على جلد الأصابع، وهي فريدة في شكلها عند كل إنسان، حتى عند التوائم المتطابقة. وتتشكَّل البصمة في مراحل مبكرة من عمر الجنين، تقريبًا بين الأسبوعين العاشر والخامس عشر من الحمل، طبقًا لعوامل جينية وبيئية، ولا تتغير بتقدم العمر، وهو ما يضمن الدقة في تحديد الهوية ويجعل الاعتماد عليها مستمرًا في تحديد هوية صاحبها.

وعلى الرغم من تطوُّر وسائل التحقق من الشخصية، مثل بصمة قزحية العين والبصمة البيولوجية الوراثية، تبقى بصمات الأصابع الوسيلة الرئيسة في البحث الجنائي. كما تُستخدم البصمة للتوقيع على وثائق الملكية، وعند التقدُّم بطلب تأشيرات العبور من دولة إلى أخرى، وتوقيعات حضور الموظفين وانصرافهم. وصارت، مؤخرًا، تُستخدم شيفرةً لفتح الأجهزة الحديثة، وحتى بعض الأبواب المصفّحة في إطار أقصى درجات التشدد فيمن يجوز له فتحها.


مقالات ذات صلة

لأن اليد أول ما يراه الآخرون منا بعد الوجه، كانت محل تجميل منذ قديم الزمان، سواء أكان بالحلي أم بالخضاب وحسن تشذيب الأظفار وتقليمها.

نشأت صناعة القفازات مبكرًا جدًا من الوعي بوجوب حماية اليدين من المؤثرات الخارجية، ولجأ الإنسان إلى استخدامها لأسباب مختلفة.

التفكير بالأيدي يجعل العلاقة بين الكاتب ونصه محسوسة وأكثر حميمية، خصوصًا في مجـال الإبداع، سواء أتمسَّك الكاتب بالقلم أم تحول إلى استخدام لوحة مفاتيح الكمبيوتر.


0 تعليقات على “اليَد”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *