مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين
يناير – فبراير | 2020

الوجه


سحر الهاشمي

الوجه هو هوية وأداة حوار، وواجهة إطلالتنا على العالم وتعرّف العالم علينا.
إنه الهوية التي تميّز كل فرد على حدة عن كل الآخرين. وله القدرة على أن يتحدث بمختلف اللغات، حتى من دون أن يصدر صوتاً. وهو إلى حدٍّ كبير “مُختزل” الفرد بكليته أمام العالم.
أبيض، أسمر، أصفر، أحمر.. الوجه يبقى واحداً، وقد شغل ولا يزال يشغل الفنانين والشعراء والعلماء في كل الثقافات.. وكأن الانشغال به هو انشغال بأهم ما في جسم الإنسان.
ونظراً لدلالاته وأهميته في حياة الفرد ضمن مجتمعه، تحوَّل الوجه عبر التاريخ من موضع للعناية البسيطة، إلى مادة دراسة في علوم النفس والاجتماع والطب، ومحور صناعات عملاقة يغذيها تزايد الاهتمام المعلّق على الوجه، الذي يريده الجميع أن يكون حسناً.
في هذا الملف، وبالقدر الذي يتسع له المجال، تتأمل سحر الهاشمي في الوجه ووظيفته في الحياة وهو يطل على العالم، كما في الكيفية التي يتطلع بها العالم إليه.

بسبب الوجه المعذب في هذه اللوحة، فقد أصبحت واحدة من أكثر اللوحات الفنية شهرة، التي تُرى كرمز لقلق الحالة الإنسانية

كل إشارة بالوجه، من طأطأة الرأس إلى تقطيب الحاجبين، وجحوظ العينين، وفتح الفاه، وزم الشفتين.. تنطق بلغة صامتة تصل إلى الآخر بلا ترجمة. فالوجوه أدوات حوار للبشرية جمعاء. وهي الوسيلة البصرية المضمونة لتبادل المشاعر بين الأفراد بجميع أعمارهم وعلى اختلاف مستوياتهم، لذا نجدها جزءاً مهماً من لغة الإشارة بين الصم والبكم.

والوجه مرآة النفس وانعكاس الذات البشرية، يناجي الآخر ويحادثه، لذلك تمعّن العرب عبر التاريخ في الوجوه جيِّداً، وتفرَّسوا في معالمها ووثّقوا في مخطوطاتهم معنًى لكل سمة، ورمزاً لكل علامة بارزة فيه، فأسَّسوا علماً خاصاً بها، وتركوه أثراً للأجيال اللاحقة.

وفي كافة العصور، تغزّل الشعراء بلون الوجه وحُسن تكوينه وإشراقة إطلالته. أو العكس، هجوا تقاطيعه وعابوا دلالات قُبحه ولجأوا إلى استخدام مقارنات شكلية بجمادات مُحيطة ببيئتهم، أو استعارة صفات خَلقية لحيوانات عاشت بينهم، في محاولة حثيثة لتعريف السامع بالأشخاص المعنيين والإشارة لصفاتهم الخلقية.

كما عرف قيمة الوجوه المصورون والرسامون. وبرعوا في توظيفها لإيصال قيمة رمزية ما، أو تحميلها خطاباً إنسانياً معيَّناً.

وفي حُسن الوجه وجماله دعوة للتأمل في خَلق الخالق وبهاء صنيعه. فالوجه المليح هو الحاضر الذي لا يُمكن إنكاره. وقد يعود جمال وجه ما إلى معايير جمال معروفة عند بعض الشعوب، وبعض الجمال عصيّ على التفسير. فيُقال عن بعضها: وجوه مُريحة، ووجوه قريبة من النفس ووجوه جاذبة للآخر. وعلى العكس، قد تحمل بعض الوجوه لمحات من الحزن، أو الشقاء الدائم أو تكون مُنفّرة للآخر. فالوجه هنا غائب عن فهمنا، تحت مجهر التفسير الذي يجعلنا راغبين دوماً في فهمه واستبصاره. وللوجه الحسن حضرة ومهابة تتجلى في رغبتنا بطرد الحسد لحظة التسليم بجماله، وذلك بتذكر الخالق ومناجاته في اللحظة نفسها، فنقول: (ما شاء الله) أو (تبارك الله).

تعابير الوجه لغة عالمية
الوجه على اتصال مستمر بما في النفس والعقل، ويعبّر عن ذلك بشكل يصعب على صاحبه التحكم به في أحيان كثيرة. لذا، وفي غالب الأحيان، إذا شعرنا بالغضب تجاه شخص ما فإننا نتجنب النظر إلى وجهه ونُعرض عن مشاهدته، لكيلا تكشف مشاعرنا ما في أعماقنا رغماً عنا. فرغم عدم محادثة الآخر، يتمكَّن الوجه من إيصال رسالة الغضب بطريقة أبلغ من الكلام.

وللسبب نفسه، يسعى الشخص الخجول في الهرب من المواقف المُحرجة كحالات الإطراء أو الرهبة أو المواجهة، لأن ملامح وجهه واحمرارها ستُخرج ذاته عن نطاق السيطرة وتُظهر استحياءه في لحظة إدراك الحدث. وقد يفسر ذلك أيضاً لجوء الأطفال إلى تغطية وجوههم في لحظات الحياء الشديد أو عند الرغبة في البكاء، لحاجتهم الفطرية إلى إسكات الوجه عبر الهروب من تعابيره الفاضحة.

وفي تفاصيل الوجه وتجاعيده معانٍ عميقة. ففي أوائل القرن العشرين، أدركت الطبيبة والمربية الإيطالية ماريا مونتيسوري أهمية دراسة تجاعيد الوجه، فكتبت تقول: “يجب أن تشكِّل دراسة تعابير الوجه جزءاً من دراسة علم النفس. فهي تندرج أيضاً ضمن علم الأنثروبولوجيا وعلم دراسة سلوك البشر والمجتمعات، لأن تعابير الوجه المتكررة تحدِّد تجاعيد الشيخوخة وتعدُّ بوضوح أحد الخصائص الأنثروبولوجية”.

ووفقاً لموقع “سيكولوجي تودي”، أظهرت دراسة جديدة أجراها فريق دولي من علماء النفس والباحثين في مجال الفيزيولوجيا العصبية، أن الدماغ البشري مجهز مسبقاً لرؤية التجاعيد حول العينين كمفتاح لنقل المشاعر الصادقة والجياشة لكل من السعادة والحزن، وهو دليل على وجود لغة عالمية محتملة لقراءة المشاعر. فتعابير الوجه تحدِّد موقف الطرف الآخر، أي مدى صدق ابتسامتك أو غرابتها على سبيل المثال، مما يعني أنه سيقرِّر ما إذا كان يمكنه الوثوق بك أم الحذر منك في ثوانٍ معدودة.

قراءة الوجوه
اشتهر العرب قديماً بعلم الفراسة. وهو علم تقصِّي أخلاق الناس الباطنة من خلال النظر إلى أحوالهم الظاهرة كالألوان والأشكال والأعضاء. وقيل إنه الاستدلال بالخَلق الظاهر على الخُلق الباطن.

يقول الأديب اللبناني جرجي زيدان في أحد أشهر كتب علم الفراسة في تاريخنا المعاصر “علم الفراسة الحديث”: “كان العرب في الجاهلية يعتقدون أشياء تُعدُّ من قبيل الفراسة كالقيافة والريافة والعيافة. وكانت القيافة عندهم صناعة يستدل بها على معرفة أحوال الإنسان، يسمونها قيافة البشر لأن صاحبها ينظر إلى بشرات الناس وجلودهم، وما يتبع ذلك من هيئات الأعضاء وخصوصاً الأقدام ويستدل بتلك الأحوال على الأنساب. وعُرف المسلمون باهتمامهم بهذا العلم فنقلوه عن اليونان القديمة والرومان وألفوا فيه كتباً مستقلة أشهرهم ابن سينا في رسالة موجزة عن تصنيف العلوم العقلية وابن رشد والشافعي وابن العربي وغيرهم”.

وينقل زيدان معنىً لكل سمة موجودة في الوجه ودلالاتها على شخصية وسلوك الإنسان، وخصص فقرات لكل من: فراسة الفم والأنف والعين والحاجبين والخد والجبهة والعنق وحتى الأذن والشعر ولونه.

ففي فراسة العين، قال: “العين الكبيرة تدل على اليقظة وسرعة الانتباه، والعين الجاحظة تدل على القدرة على تعلّم اللغات والنظر إلى الأمور بشكل إجمالي، والعين الغائرة تدل على النظر إلى الأمور بشكل جزئي، والعين الواسعة دلالة على سعة النظر وقلة الاستيضاح، والعين الطويلة صاحبها يرى قليلاً لكنه يتفهم ما يراه”.

ولكن هل يستطيع الإنسان حقاً أن يتعلَّم قراءة الوجوه؟ وهل يمكنه معرفة أسرار البشرية من خلال دراسة تقاطيع الوجه والاستدلال بقراءتها؟ وماذا عن دور التقنية الحديثة في كشف خبايا النفوس؟ هل تُميز التكنولوجيا الوجوه المتخفية من عدمها؟ وهل توصَّل العلم الحديث أخيراً إلى التقنية التي تُمكّن صاحبها من ارتداء وجه غير الذي وُلد به؟

إن الدماغ البشري مجهَّز مسبقاً لرؤية التجاعيد حول العينين كمفتاح لنقل المشاعر الصادقة والجياشة لكل من السعادة والحزن، وهو دليل على وجود لغة عالمية محتملة لقراءة المشاعر

الوجه في القرآن الكريم والسُنَّة

تعدَّد ذكر الوجه في أكثر من موضع في القرآن الكريم، إما بمعناه الظاهري المحسوس كما في توصيف مواضع الوضوء:
﴿إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق﴾ [المائدة:6]
أو في وصف دقيق لشكل الوجه، كما في اللحظات الحاسمة في مواضع العقاب والثواب:
﴿وجوه يومئذ ناضرة (22) إلى ربها ناظرة (23) ووجوه يومئذ باسرة﴾ [القيامة 24-22]
وفي موضع آخر يشير تعالى إلى راحة الوجه وطلاقته وهي صفة مقرونة بالنعيم والرفاه فيقول:
﴿تعرف في وجوههم نضرة النعيم﴾ [المطففين:24]
وارتبط وجه الإنسان في القرآن الكريم بمعنى الوجهة التي عليه أن يقصدها. وهنا وردت وجهة النفس مرتبطة بمعنى الانكباب أو الانقلاب، وهو وصف لمن يزيغ عن المقصد كقوله تعالى:
﴿أفمن يمشي مُكباً على وجهه أهدى أمّن يمشي سوياً على صراط مستقيم﴾ [الملك:22]
وفي الحديث الشريف قد يأتي بمعنى طلاقة الوجه كقوله -صلى الله عليه وسلم- “لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق” (رواه مسلم). وطلاقة الوجه هنا بمعنى بشاشته عند اللقاء.
وقد ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم-، الوجه بمعنى القلب. كما في الحديث الشريف “لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم”(رواه مسلم) كناية عن اختلاف أهواء القلوب.
وعن كراهية تحقير الوجه بالقول أو الفعل نهى -صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، إذ قال: “إذا ضرب أحدكم فليتجنب الوجه، ولا يقل: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته” (رواه مسلم والبخاري).
وليس الحيوان استثناء عن ذلك، فقد نهى الرسول الكريم عن وسم الدابة في وجهها، ولعن من فعل ذلك: فقد مرّ النبي على حمار وُسم في وجهه فقال: “لعن الله الذي وسمه” (رواه مسلم).
كما ذكر الرسول -صلى الله عليه وسلم- صفة “ذو الوجهين” على بعض الأشخاص، للإشارة إلى نفاقهم وريائهم في إظهار عكس ما يبطنون، وقدرتهم على إخفاء حقيقتهم حسب مصالحهم، وذلك في قوله “إن شرّ الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه” (صحيح البخاري).

الوجه في اللغة العربية
لمفردة “الوجه” في اللغة معانٍ عديدة:
1 – وجه الإنسان: ما يواجهك من الرأس، وفيه الجبهة والعينان والخدّان والفم والأنف.
2 – الوَجْه: بمعنى الجاه سيد القوم وشريفهم.
3 – الوجه: بمعنى نفس الشيء وذاته.
4 – الوجه: بمعنى الجهة والناحية أو السبيل.
5 – وجوه القرآن الكريم: أي معانيه.
6 – الوجه: القصد والغاية، الجمع: أَوْجُه، ووُجُوه وأجُوه.


ونحن نستخدم مفردة “الوجه” وملحقاتها في أكثر من تعبير لغوي لإيصال معنًى ما، وهو ما يُفصّله كتاب الدكتور محمد محمد داود، “جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية”. فمفردات الوجه لغوياً ترمز لعدة معانٍ، منها:
كناية عن الذات: (وجه الله)، (وجه جديد).
القصد والغاية: (وجهي إلى الله)، (وجه الكلام)، (صرفه عن وجهه).
الشرف والسيادة والكرم: (فلانٌ وجه)، (له جاه)، (أغرّ الوجه)، (حر الوجه).
ونقيض ذلك استعماله للدلالة على اللؤم، كما في تعبير:
(فلانٌ عبد الوجه) أي عبد السيادة والمنزلة الرفيعة.
ومن باب التعبير بالوجه عن مشاعر الفرح والسرور والبِشر: (انفرجت أسارير وجهه)، (تلألأ وجهه)، (مشرق الوجه)، (برقت أكاليل وجهه)، (بيّض وجهه).
وفي مشاعر الحزن والغم قيل: (اسودَّ وجهه)، (تربّد وجهه)، (مكفهر الوجه)، (انقبضت أساريره).
وفي مشاعر الحب والمودة والصفاء يقال: (ابتسم في وجهه)، (بسط له وجهه)، (خلا له وجهه) وعلى سبيل الكراهية: (شتيم الوجه)، (كالح الوجه).
وقد تُستخدم للدلالة على الخوف فيُقال: (اصفرّ وجهه) أو كناية عن الخجل كما في: (احمرّ وجهه).
وفي مشاعر الرضا: (أقبل عليه بوجهه)، (بسط له وجهه).
وفي مشاعر السخط والغضب والرفض: (اغرب عن وجهي)، (تنكب عن وجهي)، (عبس في وجهه)، (قطّب وجهه).
الكرامة: (حفظ ماء وجهه) وبالمقابل في الخزي والعار: (أراق ماء وجهه)، (سخّم وجهه)، (عفّر خده).
الحياء: (رق وجهه)، (جبان الوجه).
الكِبر والغطرسة: (صعّر خده).
الذل والخضوع: (عنا وجهه).
الخيبة والخذلان: (وجهه في قفاه).
الذهول: (هام على وجهه).
الإعراض والارتداد: (انقلب على وجهه)، (مقلوب الوجه).
المواجهة والتحدِّي: (وجهاً لوجه).
الشمول والعموم: (وجه الأرض)، (وجه التاريخ).
الجانب من الشيء: (الوجه الآخر)، (الوجه القبيح).
المسؤولية وعرض الأمان أو اللجوء للآخر: (أنا في وجهك).
كما جاءت تعبيرات تخص الوجه مرتبطة بالحياة المدنية الحديثة، مثل: (أوصد في وجهه الأبواب)، (غيّر وجه التاريخ)، (وجهان لعملة واحدة) وكان بعضها امتداداً لتعابير قديمة مثل تعبير (وجه الشبه) حيث استعمل الوجه بمعنى العلاقة والكيفية، كما في التعبير القديم (وجه الأمر – وجه الكلام) وكذلك تعبير (وجهه في قفاه) الذي اختلفت صياغته من (عيناه في قفاه) وهي بمعنى الانهزام والإدبار، وهناك أيضاً تعبير (وجهاً لوجه) الذي تطوّر من (واجهه مواجهةً) حيث حل الاسم محل الفعل لما في الوجه من دلالة على المجاهرة والتحدي.

ماء الوجه مسألة كرامة
عبارة “حفظ ماء الوجه” في اللغة العربية هي من الألفاظ التي تقصد معنًى أعمق من الوجه بمعناه المحدَّد، إذ تُترجم حرفياً على أنها “حفظ الكرامة”. كذلك يُعد “ماء الوجه” مفهوماً عالمياً، إذ تحمل عديداً من الثقافات الدلالة نفسها، وتستخدم اللفظة نفسها مجازياً للتعبير عن قيمة اجتماعية للشخص.
يتحدد فقدان “الوجه” أو اكتسابه بواسطة مجموعة معايير، منها: شكل المعاملة التي يلقاها الأفراد المعنيون، أعمارهم، سُمعتهم، شبكة علاقاتهم الاجتماعية، الهيبة أو المكانة الاجتماعية التي يتمتعون بها.
وفي هذا السياق قدَّم عالم الاجتماع الكندي إرفينج جوفمان في 1955م تحليلاً لسلوك الأشخاص وما يسعون لفعله للحفاظ على هذا “الوجه” من خلال نظرية سمَّاها “العمل وجهاً لوجه: تحليل عناصر الطقوس المختصة بالسلوك الاجتماعي”، فيقول:
“إن الوجه هو قناع قابل للتغير يضعه الشخص اعتماداً على الجمهور وتنوّع التفاعل الاجتماعي الذي يتعرَّض له، وعليه، يسعى الأشخاص للحفاظ على ذلك الوجه الذي خلقوه في المواقف الاجتماعية. فهم مرتبطون عاطفياً بهذا الوجه. ولذلك، يشعرون بالرضا عندما يتم الحفاظ على وجوههم. وبالمقابل، يشعرون بألم عاطفي عند فقدانه. لذا في المناسبات الاجتماعية ستجد الناس يتعاونون بشكل خفي عبر استراتيجيات المجاملة للحفاظ على وجوه بعضهم بعضاً”.

بين مدحه وهجائه.. الوجه في الشعر العربي
للوجه نصيب كبير في الموروث الشعري العربي منذ العصر الجاهلي. فعلى سبيل الحياء يقول امرؤ القيس في معلقته:
تصد وتبدي عن أسيـلٍ وتـتقـي
بناظرة من وحش وجرة مُطفل


ومعنى البيت أن محبوبته التي يتحدث عنها تُعرض عنه باستحياء، وتبتسم فيبدو ثغرها ظاهراً، وتلقاه بعد الإعراض عنه بنظرتها له كما تنظر الظبية إلى طفلها.

أما عنترة المعروف بحبه للفروسية وخوض المعارك، إذ يتذكر محبوبته “عبلة” في ساعة المعركة، فتزداد ضراوته تحت بريق السيوف ويستأسد مندفعاً نحو السيوف التي برقت أمام عينيه فذكرته بثغر محبوبته المبتسم، فيقول:
ولقد ذكرتكِ والرماح نواهلٌ مني
وبيض الهند تقطــر من دمـي
فوددت تقبيل السيــــوف لأنها
لمعت كبارق ثغــرك المتبسم


ويقول طرفة بن العبد عن الوجه في حالة الإشراق:
ووجهٌ كأن الشمس حلت رداءها
عليـه نقـي اللـون لم يتخــدد
وإني لأمضي الهم عند احتضاره
بعوجـاء مرقال تروح وتغتدي


فالوجه هنا كأنه قطعة من الشمس في نضارته وبهائه وصفائه، وهو يجلو هم الشاعر عند رؤيته، لذا لا عجب أن يرحل إليه الشاعر بناقته السريعة طمعاً برؤياه.

وكان العرب مولعين بتشبيه وجه المرأة بالبدر من حيث الاستدارة والإنارة، فيقول الوليد بن يزيد بن عبدالملك بن مروان في محبوبته:
جاءت بوجهٍ كأن البدر برقعهُ..
نـوراً على مائسٍ كالغصن معتدلِ
إحدى يديها تعاطيني مشعشعةٍ
كخــدها عصفرته صبغة الخجل


ولعل أشهر شعراء الهجاء “الحطيئة” الذي أسلم في زمن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- وكان معروفاً بدمامة الوجه فيقول في هجاء نفسه:
أرى ليَ وجهــاً قبّح الله شكلـــه
فقبـح من وجـهٍ وقبـح حاملـه


ومما جاء في وصف قبح الوجه ماقاله البحتري في هجاء ابن أبي العلاء المغني:
يرعــش لِحييـــه عند الغنــــاء
كـأن بــه النافــض المؤلمـــة
ومنتشر الحلـق واهـي اللهـــاة
إذا ماشــدا فاحش الغلصمـة
وأنــــفٌ إذا احمـــر في وجهــه
وقــام توهمتـــه محجمـــة
فكم شذرة ثم منسية أطيحت
وكــــم نغمــــــة مدغمـــــة


فقد قصد البحتري أن ابن المغني -الذي كان يبدو أنه يغني- جمع قُبح الشكل والأداء الغنائي، فمن رعشة الذقن وصولاً للفم الواسع وحمرة الوجه والأنف إلى سوء النطق وعدم وضوح مخارج الحروف فهو من أسوأ ما يكون شكلاً ومهنة.

ويقول ابن الرومي في قبح الوجه على الحس السمعي والبصري:
فتاه بوجه يطـرف العين قبحـه
له صورة كالشمس في الأعين الرمد
ولا عجـب أن كان من كان مثلــه
تشبّه بالمعشوق في التيـه والصــد
إذا لم يكن قرداً تماماً حكايـــة
وقبحاً فلم تكمل له صـورة القـرد


حيث قرن في الأبيات الماضية بين تأذي عين الرائي عند رؤية وجه المهجو، فكأنما رؤيته هي مواجهة الشمس الساطعة. كما شبه شكل وجهه بوجه القرد ثم فصل في التشبيه وذكر أن ذلك القرد نفسه مشوه الوجه فزاد قبحاً إلى قبحه متمعناً في إبراز البشاعة.

وعلى هذا المنوال، يمكننا أن نجد كثيراً من القصائد التي امتدحت وجوهاً أو هجت أخرى، وصولاً إلى يومنا هذا. وأكثر منها بما لا يُعدّ من القصائد التي تغزلت أو مدحت أو هجت مكونات محدَّدة في الوجه مثل العينين والثغر والابتسامة والخدين وما إلى ذلك.

الوجه وعالم التكنولوجيا الحديثة
ليس من المستغرب أن تُعرّج التكنولوجيا الحديثة في مسار تطوّرها على الوجه الإنساني، لتخصه بابتكارات واختراعات ما كانت لتخطر على بال قبل سنوات معدودة، ومن أهمها:

البصمة الرقمية للتعرف على الوجه
بصمة الوجه الرقمية هي التقنية التي تستخدم قياسات الوجه الحيوية، مثل: المسافة بين العينين وعُمق المقلتين وعرض الأنف وشكل عظام الخدين وطول عظام الفكين، لاستقراء ملامح الوجه، وتحديد التقاطيع الأساسية فيه عبر أخذها من صورة أو فيديو ومقارنتها مع الصور الموجودة في قاعدة بيانات الوجوه للعثور على تطابق محتمل.

ظهرت هذه التقنية في البدء لخدمة الأجهزة الأمنية في المطارات ومراكز الشرطة، ولكنها سرعان ما شاعت إلى أن وصلت إلى أيدي الجميع، عندما بدأت شركة “آبل” باستخدام بصمة الوجه الرقمية مع إطلاق الهاتف الذكي “آيفون إكس” في عام 2017م، لفتح أو غلق الجهاز. كما تقوم شركات أخرى مثل فيسبوك بتطبيق تقنية التعرف على الوجه لدى قيام المستخدم برفع صور تتضمَّن مستخدمين آخرين على المنصة نفسها.

لقد تطوَّرت هذه التقنية كثيراً منذ إطلاقها لأول مرَّة عام 1960م، حين كانت القراءة في الأصل ثنائية الأبعاد، وتشترط أن يكون الوجه يتطلع مباشرة إلى عدسة الكاميرا، مع إضاءة محدَّدة بدقة في مكان التقاط الصورة، كي لا يختلف الوجه عن الصورة المتوفرة سلفاً في قاعدة البيانات. وهذا ما كان يخلق مشكلة في مطابقة الصور آنذاك. أما الآن فقد باتت تقرأ الوجوه بشكل ثلاثي الأبعاد، كما يمكن للأجهزة الحديثة التقاط وجوه الأشخاص من مسافات بعيدة، بقياس المسافة بين معالم الوجه هندسياً، والتعرف على الوجوه في الظلام، بالإضافة إلى إمكانية التعرف على وجه الشخص من زوايا رؤية مختلفة (تصل إلى 90 درجة). لذا، فهي مفيدة في الأمن بشكل أساسي، خاصة في المنشآت ذات الحراسة المشددة والمطارات، لتمكنها من تحديد هوية صاحب الوجه بدقة والتقليل من حوادث الاحتيال على السلطات.

فلاتر “سناب شات”
وتحسين الوجه تقنياً

“لا أحد يشبه ما تراه على شاشة التلفزيون وفي الأفلام. الجميع مُعدَّل” هذا ما يقوله كلوس هينسين، المسؤول التقني عن وضع اللمسات الأخيرة على وجوه نجوم السينما في هوليوود.

يزعم هينسين أن وجوه جميع نجوم ونجمات الشاشة قد خضعت لتعديلات شبيهة بتلك التي تجريها برامج “الفوتوشوب” على الصور لإظهار المشاهد أقرب للكمال. فتُشد جلدة العنق، وتُكثف الشعر، وتُبيض الأسنان، وتَطمس تجاعيد الوجه وتَرفع الوجنتين وغير ذلك كثير من التعديلات المُجراة وفق الاتفاق المبرم بين النجم وشركات الإنتاج.

لكن تقنية التعديل التي استخدمها هينسين كمُجمِّل لأفلام النجوم منذ أوائل التسعينيات لم تظهر إلى العلن بشكل صريح إلا بعد ظهور “سناب شات” عام 2015م، واستحداث عدسات مختلفة تستخدم تقنية تحديد تقاطيع الوجوه لتحسين صورة المستخدم أو التعديل عليها قبيل التقاط “السيلفي”، فأصبحت كل الوجوه قابلة للتعديل على غرار نجوم هوليوود.

تستخدم “سناب شات” تقنية التعرف على الوجوه وتغيير محتواها بواسطة عدسات معالجة الصورة أو “فلاتر”. وتتم عملية المعالجة بتحوير تفاصيل الوجه بالصورة عن طريق تطبيق خوارزمية تُدعى “خوارزمية فيولا- جونز” التي تُجري عمليات رياضية على كل بكسل فردي في الصورة المرغوب تعديلها، للتعرف على معالم الوجه. وبعد أن يتم اكتشاف الوجه يمكن لـتطبيق “سناب شات” معالجة الصور لتطبيق الصفات المرغوبة على الوجه الذي تم التعرف عليه.

وبعد ذلك، وبضغطة زر، يمكن للمستخدم تغيير لون البشرة، والشعر، والعيون، وحتى أن يستبدل وجهه بوجه آخر.

تقنية تضليل الوجوه
“الزيف العميق”

على الجانب السلبي لتقنيات استخدام ملامح الوجه، ظهرت برامج التزييف العميق التي تعتمد على تزوير محتوى صور ومقاطع فيديو حقيقية عبر التلاعب بها وتغيير محتواها الأصلي بطريقة تتعذر معها معرفة الفرق بين الأصل والنسخة المزيفة.

ويتم ذلك باستخدام تطبيقات معينة تعتمد على تقنية التعلم العميق، وهي أحد فروع الذكاء الاصطناعي التي يمكنها التعلّم واتخاذ قرارات ذكية بمفردها، وإنتاج نسخة مزيفة شديدة الإقناع من خلال دراسة مجموعة صور ومقاطع فيديو للشخصية المستهدفة من زوايا متعدِّدة ومن ثم محاكاة سلوكها وأنماط الكلام.

ومثل هذا النوع من التقنيات يمنح الجهات المصدرة قوة خفية عن طريق إسهاماتها الفعَّالة في خلق محتوى ذات معلومة مضللة أو ما يسمى “الأخبار المزيفة” التي تُنشر من دون معرفة مصادرها الحقيقية، وقد تضلل محتوى الرأي العام بأي خبر مزيف. ولعل أشهر الأمثلة على أثر برامج التزييف العميق هي ما يحدث بين خصوم السياسة الأمريكية عند نشرهم لمقاطع فيديو مزيفة لتشويه الصورة الإعلامية للطرف الآخر بغرض التأثير على مسار الحملات الانتخابية أو خطة سير برامج الحزب الخصم.

في الطب.. من التجميل إلى الزرع
تطوَّرت عمليات تجميل الوجه من مجرد عمليات ترقيعية إلى عمليات ترميمية للوجه مع ازدياد الحاجة لتصليح الضرر الذي لَحِق بوجوه الجنود الجرحى والمتضررين من ويلات الحرب العالمية الأولى. أما ازدهارها الحقيقي فكان بدءاً من عام 1950م، بعد الاعتراف بحقل الجراحة التجميلية بشكل رسمي ودمجها في المؤسسة الطبية الأمريكية، حين خرجت من نطاق كونها مرتبطة بالحروب ومحاولة شفاء الناجين، لتصبح تخصصاً تجميلياً منفصلاً وجزءاً من الثقافة الشعبية الأمريكية، ومنها إلى الحياة الاجتماعية في معظم أرجاء العالم.

ومنذ أواخر القرن العشرين، باتت الجراحة التجميلية من أكثر الإجراءات الجراحية شيوعاً، خاصة بعد موافقة الرئيس الأمريكي بيل كلينتون على إضافة تغطية التأمين الصحي لتكاليف بعض العمليات التجميلية الضرورية لجميع المواطنين الأمريكيين.

وبحلول العقد الأول من الألفية، لاقت الجراحات التجميلية في الوجه، مثل شد البشرة وتجميل الأنف وشد الجفون وتأخير علامات الشيخوخة شعبية كبرى بين المشاهير وعامة الناس. وأسهم في ذلك ظهور مواد حشو التجاعيد، وعلى الأخص “البوتوكس” والحقن التجميلية.

بيد أن العمليات التجميلية في الوجه تحوَّلت من ضرورة إلى هوس بالكمال قابل للتحول لإدمان. ومن أشهر الأمثلة على ذلك ماحدث لمغني البوب الشهير مايكل جاكسون، فقد كانت البداية مع تجميل أنفه الذي كُسر أثناء أدائه لوصلة رقص في عام 1979م، فعمد إلى إجراء تصحيح الكسر، ثم تبعه بعملية أخرى، ولم يتوقف التجميل حتى صنع لنفسه وجهاً جديداً لايمت للأصل بصلة.

في الفن التشكيلي
لكل وجه وظيفة

لم يغب اهتمام الإنسان باستنساخ صورة وجهه عن أية حضارة أو ثقافة، وذلك لألف سبب وسبب. فمنذ عصر الفراعنة، ولاعتقاد هؤلاء أن نسخ وجه إنسان ضروري لحياته بعد الموت، انغمس الفنانون في رسم صور ملوكهم وكبار شخصياتهم ونحت التماثيل التي تمثلهم. ومن أشهر العيّنات التي وصلتنا منهم قناع توت عنخ أمون، والتمثال النصفي الذي يمثل نفرتيتي.

ومن أغرب الممارسات الفنية في نحت الوجوه، هو ما وصلنا من العصر الروماني. فقد بدأ الرومان بنحت تماثيل ضخمة ومزخرفة بدقة، تمثل الأباطرة أو القياصرة بكامل قوامهم. ولكن بدءاً من أواخر القرن الأول بعد الميلاد، عندما تكاثرت الانقلابات السياسية، وعجز الفنانون عن اللحاق بالمتغيرات السياسية نظراً لطول الوقت الذي يستغرقه نحت تمثال للقيصر بكامل قوامه، ظهر تقليد فني جديد يقضي بنحت تمثال الجسم كاملاً بكامل أناقته وزخرفته، وتركيب الرأس عليه بواسطة “مفصلات”، بحيث يمكن للفنان خلع الرأس في حالة خلع الإمبراطور، والاكتفاء بنحت رأس الإمبراطور الجديد وتركيبه على الجسم القديم.


فن البورتريه
أما فن رسم وجه الإنسان كما نعرفه في الفن التشكيلي، فيعود في جذوره إلى القرون الوسطى في أوروبا.

فحتى القرن الرابع عشر، كان نبلاء أوروبا عند تدبير زيجات أبنائهم وبناتهم، يتبادلون ميداليات من شمع نحت عليها الفنانون صور هؤلاء بشكل يبرز أهم ملامحهم، بغية الحصول على موافقة الطرف الآخر. ولأن هذه الميداليات كانت من شمع، لم يصلنا منها شيء.

في القرن الرابع عشر، ظهرت أولى اللوحات الفنية التي تمثل وجوه أناس، وتسعى إلى مشابهة الواقع. وبعدما كانت هذه الوجوه تُرسم بشكل جانبي تماماً بحيث لا يظهر غير نصفها، ظهرت في القرن الخامس عشر أول لوحة تمثل ثلاثة أرباع الوجه، على يد الرسام أنطونيلو دي مسينا، وهي لوحة “الكوندوتييري”.

وبسرعة هائلة، تطوَّر فن رسم الشخصيات، وساعد على ذلك ابتكار الألوان الزيتية التي تسمح بتدرج في الألوان لا توفره مادة التامبرا القديمة. ففي بداية القرن التالي (السادس عشر)، رسم ليوناردو دافنشي لوحته الشهيرة “الموناليزا” التي لا تزال تشغل الناس حتى اليوم بملامح وجهها والتعبير عليه. والواقع أن “الموناليزا” تستمد مكانتها التاريخية من كونها أول لوحة تمثل وجهاً ذا أعماق نفسية. وهي واحدة من ثلاث لوحات “نفسية” رسمها دافنشي الرائد في هذا المجال.

ومنذ ذلك الزمن، لم تغب الصور الشخصية عن اهتمام أي فنان، ولا الصور الذاتية التي يرسم فيها الفنان صورته كما تعكسها المرآة. حتى ليمكن القول إن عدداً كبيراً من عمالقة فن الرسم يدينون بمكانتهم للصور الشخصية التي رسموها، ومن هؤلاء نذكر رافائيل وجول رومان، وتيسيان وجورجيوني في إيطاليا، وكوانتان ماتسيس ورامبراندت وفان دايك في هولندا، وبوسان، وشاردان وبوشيه ودافيد في فرنسا، وكثير غيرهم في كل بلد عرف فن اللوحة. وعلى أيدي هؤلاء وغيرهم، لم تعد وظيفة الصورة الشخصية تقتصر على مشابهة وجه الأصل، بل تجاوز ذلك، لتصوير أعماق الإنسان النفسية ومكنونات شخصيته من خلال ملامح وجهه، والتعابير التي تظهر عليه.

وبالوصول إلى العصر الحديث، يستحق الحديث عن الوجه الإنساني في الفن التوقف بشيء من التفصيل أمام واحد من أبرز رسامي البورتريه في القرن العشرين.

أوجه آندي وارهول المفضَّلة
في الستينيات من القرن العشرين برز اسم الرسام ومستكشف فن البوب الأمريكي آندي وارهول، الذي كان مهووساً بموضوع الشهرة وتصوير الوجوه المعروفة في كل عقد زمني مرّ به، وخلّدها في لوحات استخدم فيها تقنية الطباعة بالشاشة الحريرية.
كان وارهول مؤمناً بفكرة تخليد الشخص وتحويله إلى أيقونة فنية عبر الرسومات التي كان ينتجها في مرسمه، لاسيما وأنه صاحب المقولة الشهيرة “في المستقبل سيصبح كل شخص مشهوراً خلال 15 دقيقة”. فأسهمت لوحاته هذه فعلاً في تخليد وجوه أولئك الأشخاص كجزء من الثقافة الشعبية الأمريكية إلى الأبد.
فاختلاط وارهول بالمشاهير طوال حياته المهنية أتاح له أن يدرس شخصيات المشاهير عن قرب، مما مكَّنه من رسم بورتوريهات (صور مقربة للوجه) لعديد من الشخصيات السياسية والفنية في السبعينيات والثمانينيات، ومنها: مارلين مونرو، واليزابيث تايلور، والفيس بريسلي، ومايكل جاكسون، ومحمد علي، وجاكلين كينيدي، وفرح ديبا. وبالطبع، كان هو من ضمن أولئك المشاهير، إذ لا يقل وارهول إثارة للجدل عن الشخصيات التي كانت جزءاً من إرثه الفني الفريد.

الكاريكاتير لتمرير رسائل ضمنية
يعتمد فن الكاريكاتير على السخرية من ملامح وعلامات بارزة في الوجه عن طريق تكبيرها أو تصغيرها بشكل مبالغ فيه كأسلوب للنقد الاجتماعي أو السياسي.
ابتُدع فن الكاريكاتير في القرن السادس عشر الميلادي على أيدي بعض الرسامين للسخرية من السياسيين والشخصيات الأرستقراطية في فرنسا وإيطاليا، ولاقى نجاحاً كبيراً من روَّاد الصالونات الأدبية والعامة، خاصةً مع انتشار الصحافة واعتماد الرسوم الساخرة بها منذ 1754م بشكل رسمي.
تحمل الرسوم الساخرة على الأغلب مضامين نقدية تهدف إلى إلقاء الضوء على صفات معينة في شخصية معروفة: مثل تضخيم الأنف لإظهار فضولية الشخصية وتدخلها بأمور لا ينبغي أن تُعنى بها، أو تضييق العينين لتبيين الجشع المادي، أو تعريض الجبين للدلالة على شدَّة الذكاء…إلخ.
وحتى على سبيل الدعابة، يسعى كثيرون إلى الحصول على رسمة وجه كاريكاتيرية خاصة بهم للتباهي بقدراتهم على تحمّل السخرية من أشكالهم بين الأصدقاء والمعارف.

الوجوه التعبيرية emojis
أحياناً يساوي الرمز التعبيري ألف كلمة


ما كان يمكن لوسائل الاتصال الاجتماعي أن تلقى الرواج العالمي الذي تعرفه اليوم لولا نجاحها في تذليل عقبات كانت تتحدى “سهولة التعبير”، خاصة على صعيدي اللغة والمضمون وتمكين المستخدم من “الاختصار”، في عصر عنوانه “الأسرع هو الأفضل”.
في اللغة، نعرف على سبيل المثال أن الناطقين بالإنجليزية اختصروا الكثير من المقاطع الصوتية المؤلفة من ثلاثة أو أربعة أحرف بحرف أو اثنين.. أما في المضمون، وخاصة في التعبير عن المشاعر وردود الفعل، فقد ظهر الإيموجي كلغة عالمية عابرة للثقافات، قادرة على التعبير عن مشاعر ومواقف من عمر الإنسان نفسه، انتظرت آلاف السنين لتظهر بشكل بصري مقرؤ بسهولة من قِبل البشرية جمعاء.
نحن نستخدم الوجوه التعبيرية emojis في محادثاتنا الإلكترونية بشكل يومي للتعبير عن ما نودُّ قوله للآخرين وجهاً لوجه، وكل ذلك يغنينا عن العبارات الطويلة وحشو الكلام الزائد٬ فنستعين بها في حالات الفرح٬ الحزن٬ الدهشة٬ الخجل أو حتى عند فقدان القدرة على الكلام بالمرّة. كما أن البعض تمرّس في استخدام الوجوه التعبيرية ونجح في إدراجها كلغة عفوية لها مناسباتها ومواضعها المخصصة٬ حيث يرمز كل وجه تعبيري لمعنى خاص ودلالة معينة عن الحياة الرقمية للمستخدمين.
في الواقع كانت تعبيرات الوجه موجودة منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أن استخدامها في وسائل التواصل الاجتماعي قد تضاعف ثلاث مرات منذ عام 2015م٬ لدرجة أن قاموس أوكسفورد الإنجليزي أعلن أن كلمة العام 2015م ليست كلمة على الإطلاق بل رمز تعبيري وهو “وجه دموع الفرح”.

الوجه في السينما
المكياج أولاً

عندما حصلت الممثلة الجميلة تشارليز ثيرون، على جائزة الأوسكار لأفضل ممثلة عام 2003م عن دورها في فِلْم “الوحش”، لم يكن ذلك نتيجة إجادتها لدور”إيلين ورنوس” السفاحة التي قتلت سبعة رجال وحُكم عليها بالإعدام عام 1992م فحسب، بل لتمكن طاقم الماكياج من مطابقة الشكل الخارجي للممثلة الجميلة بوجه السفاحة الأمريكية القبيحة. فعملوا على تبشيع ثيرون وأتقنوا تحويلها من حسناء ذات وجه فتّان وبشرة صافية إلى مجرمة ذات وجه مُنهك يحمل آثار حياة إيلين الصعبة، عبر إضفاء طابع البشرة المدمرة من خلال رسم طبقات النمش وعوامل الشمس على بشرتها، وتركيب طقم أسنان اصطناعي ذي صفار باهت لكي يبدو أقرب لأسنان إيلين الملتوية والمتعفنة، ولكي يدفع بفكها إلى الأمام قليلاً لمحاكاة فك إيلين النافر. كذلك عمدوا إلى إضافة العدسات اللاصقة لتغيير لون عينيها من الأزرق إلى البني الغامق، وحلق أطراف حاجبيها لإعادة تشكيل شكل حاجبي “إيلين” الغاضبتين.

الأمر نفسه ينطبق على الممثلة الهندية ديبيكا بادوكون، التي يرى كثيرون أنها أجمل امرأة في الهند، وتؤدي في أحدث أفلامها “شاباك”، دور امرأة مشوهة الوجه بفعل هجوم بالحمض تعرَّضت له.

هذا غيض من فيض ما وصل إليه فن المكياج في صناعة السينما. فحتى ستينيات القرن العشرين، كان انتقاء الممثلين والممثلات للعب أدوار معينة يأخذ بعين الاعتبار، وفي الدرجة الأولى، مشابهة وجه الممثل وتقاسيمه وعمره مع صورة الشخصية التي سيؤدي دورها كما يتصورها المخرج. وهذا الاعتبار لا يزال موجوداً، ولكنه تراجع أمام الاعتماد المتزايد على فن المكياج، الذي سمح لتطوره في العقود القليلة الماضية، ببناء وجه أية شخصية مطلوبة على وجه أي ممثل أو ممثلة.

شخصيات متعدِّدة الأوجه
أما على صعيد مواضيع الأفلام، فقد لعبت الوجوه أدوار البطولة في كثير من الأفلام، ومن أشهرها “الوجه المخلوع” الذي يطرح فكرة فانتازية في قالب حركي درامي بين شخصيتي العمل الرئيستين: جون ترافولتا عميل الأف بي آي، ونيكولاس كيدج الإرهابي الذي يتمكَّن من الحصول على تقنية تمكّنه من استبدال وجهه بوجه الشرطي ترافولتا. وبالتالي تنشأ مطاردة مثيرة بينهما طوال الفلم سببها قلب الوجهين وانغماس كل منهما في حياة الآخر بعد تقمصها.

أما نموذج الشخصية متعدّدة الوجوه أو ما يُعرف بتشخيص علم النفس بالفصام (الانفصام العقلي)، فقد جُسدت على الشاشة العربية في قصة الكاتب الكبير إحسان عبد القدوس “بئر الحرمان” عام 1969م، التي تدور حول شخصيتين لعبتهما ببراعة النجمة سعاد حسني فتكون “ناهد” الفتاة الرقيقة المحافظة صباحاً و”ميرفت” الفتاة الماجنة ونقيض كل ما سبق آخر الليل. ويأخذنا المخرج كمال الشيخ إلى رحلة حول الصراع النفسي التي تواجه الشخصية في اكتشاف وتقصي الأسباب الحقيقية التي أدت إلى ظهور هذا الازدواج في تركيبتها.

قد يأخذ الوجه دوراً جديداً تماماً بإخفائه خلف قناع الشخصية لتوصيل رسائل معيّنة للمشاهدين. ومن الأمثلة على ذلك ما يقدّمه فلم “جوكر” الأخير، حيث يمنح القناع حياة بديلة للشخصية الرئيسة بها عندما يقرر “آرثر فليك” أو مهرج الأطفال الذي يجسده واكين فينيكس أن يستبدل قناعه الملوّن البسيط بقناع آخر أغرب، ليسمح للمهرج الساخر بالخروج من جلد المهرج الساذج وقول ما يريد عبر وسائل الإعلام والانتقام ممن يشاء بكل حرية.

وبوجهه الجديد، نشاهد آرثر يهرب من واقع حياته الرتيبة وشخصيته الضعيفة وحتى مسؤولياته تجاه عائلته إلى خياله الجامح، حيث يكون البطل المتحكم بمصيره، والمؤثر في حياة الآخرين. وتتضح أحداث الفلم بشكل تدريجي لتتكشف عن رغبة المهرج الساخر في الانتقام من الشخصية المحورية في الفلم، وهي أوجه الفساد المختلفة في بيئته المحيطة به سواءً من العائلة أو العمل أو الطبقة البرجوازية في المجتمع
وصولاً إلى بيروقراطية النظام الحكومي التي أسهمت في خلق هذا المهرج الغاضب.

حجب الوجه عن الآخرين
على الرغم من أن الوجه هو واجهة الإنسان ليتعرَّف الآخر على هويته، وفي تعابيره تصوير مباشر لحالات مختلفة من الفرح والحزن والخيبة والحياء وغيرها، إلا أن بعض المجتمعات اتخذت من تغطية الوجه عادة لأسباب خاصة بكل منها، وإن كانت الحشمة هي الدافع الأكثر شيوعاً عند معظم هذه المجتمعات.

فمن أقدم عادات حجب الوجه هو ما وصلنا من العصر الروماني، عندما كانت العروس ترتدي ما يغطيها من رأسها إلى أخمص قدميها في حجاب أحمر ضخم، ظناً من الرومان أن أرواحاً شريرة قد تظهر في مراسم الحفل وتلعن الزوجين، واعتقد هؤلاء أن جعل العروس تبدو كأنها تمشي ملتحفة بالنار سوف يخيف الأرواح الملعونة. لكن هذا المفهوم تطوَّر بمرور السنين ليُستبدل الفستان الناري بطرحة بيضاء تغطي وجه العروس كاملاً لئلا تكون الروح الشريرة قادرة على التعرف على هوية الفتاة وبالتالي أذيتها.

وبعد مرور مئات السنين ما زالت طرحة العروس شائعة الاستخدام بين الفتيات في كل أنحاء العالم، كجزء من طقوس الزفاف الأساسية. لكن تغطية الوجه في مراسم العُرس باتت تشير إلى براءة الفتاة قبيل انتقالها من مرحلة العزوبية إلى مرحلة الارتباط. وبعد إتمام المراسم، يُكشف عن وجهها ليرمز إلى دخولها حياة جديدة مع الزوج.

لثام الوجه عند الطوارق
ولكن حجب الوجه ليس محصوراً في المرأة. فرجال الطوارق الملثمين الذين يعيشون في بعض نواحي الصحراء الكبرى (جنوب الجزائر، ليبيا، النيجر، مالي وغينيا)، أثاروا اهتمام الرحّالة منذ القدم، لارتدائهم اللثام الذي يغطي كل الوجه بصورة دائمة بحيث لا يظهر منه شيء سوى العينين، أما نساؤهم فسافرات الوجه دائماً.

وعن سبب التزام الطوارق باللثام يقول الأديب الطارقي إبراهيم الكوني في سيرته الذاتية “عدوس السرى”: “اتخذ القوم اللثام لا حماية للرأس من عوامل الطبيعة كما يروِّج الجهلاء، ولكن لإخفاء الفم، وتحديداً لإخفاء عار الفم وهو اللسان، أي للحكم بالمنفى على عضلة لئيمة لا تضبط”. وعادةً يضع رجال الطوارق اللثام بعد البلوغ مبلغ الرجال، لا ينزعونه بعد ذلك أبداً، ويصبح كأنه جزء منهم، ينامون به، ويأكلون به ويجلسون به في بيوتهم. ويُنظر إلى اللثام على أنه علامة الطهر والرجولة والكمال.

وحتى الموريون الذين سكنوا الأندلس، اتخذوا عادة ارتداء اللثام إلى أن قدمت قبائل بني حسّان العربية في القرن الحادي عشر الميلادي، بَيد أنهم ما زالوا يلتزمون بوضع اللثام وتغطية الوجه عند مقابلة الشيوخ الكبار رمزاً للحياء والتقدير. وقيل إن الظروف المناخية القاسية في الصحراء الموريتانية هي سبب آخر يستدعي الالتزام باللثام، إذ يتم اللجوء إلى اللثام للتخفيف من أثر العواصف الرملية وغبار الصحارى.

وقد نجد في تفسير الفيلسوف الفرنسي إيمانويل ليفيناس بعض التبريرات عندما قال: “إن جلد وجه الإنسان يكون
عارياً بلا حماية، وهو أكثر أجزاء الجسم عرياً بلياقة شديدة، لكنه في الوقت نفسه أكثرها حاجة للوقاية”.


مقالات ذات صلة

ولماذا اللون الأخضر؟
ألأنه جميل؟
نعم، إنه جميل، ولكنه أكثر من ذلك بكثير.

في هذا الملف، نذهب إلى جولة في رحاب الكون، لاستطلاع بعض ما نعرفه عن هذه الأجرام السماوية الجميلة، وعن حضورها الآسر في الثقافة والعلوم، ودورها في تطوير الحضارة الإنسانية.

إنه الجواب عن أي سؤال يبدأ بـ “كم؟”. هو كالهواء الحاضر دائمًا من حولنا حتى الالتصاق بنا، ننساه أو نتناساه، أو نتجاهله، رغم أنه وراء تشكيل كل ما أنتجه وسينتجه الإنسان، من الملابس التي على أجسامنا، إلى أبعد الأقمار الاصطناعية عن كوكبنا. إنه القياس، هذا الفعل الذي لا بدَّ منه، ليس فقط لضمان سلامة إنتاج […]


2 تعليقات على “الوجه”


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *