مجلة ثقافية منوعة تصدر كل شهرين

الهُدهُد


فريق القافلة ومحمد محمد إبراهيم

منذ أن راح الإنسان يسبغ دلالات رمزية على عناصر الطبيعة وعالَم الحيوان والنبات، حظي الهدهد بما لم ينله أي طائر آخر من الاهتمام.
فبالتاج الذي يعلو رأسه وقامته الممشوقة وألوان ريشه، يأسر الهدهد الأنظار. وإذا أضفنا إلى ذلك بعض طباعه وسلوكياته لأمكننا، ربما، تفسير المكانة المتفردة التي يحتلها في مملكة الطير.
إنه طائر برّي، يعيش منفرداً، ويهاجر لمسافات طويلة، وهذا ما يضفي عليه بعض الغموض. ولكنه أقرب الطيور البرّية إلى الإنسان، فيدنو منه ولكن بحذر مُبرَّر. ويألف المزارعون مشاهدته في حقولهم. ولعل ثنائية الأُلفة والغموض هذه، تفسر ما حمّله الإنسان للهدهد من رموز ودلالات ثقافية في كل المجتمعات التي عرفته، وبشكل خاص في الثقافات الشرقية.
محمد محمد إبراهيم وبمشاركة من فريق القافلة يحاول في هذا الملف الترحال عبر عوالم هذا الطائر، مستقصياً مقام حضوره في الثقافات الإنسانية بدءاً بكونـه مبعوث النبي سليمان – عليه السلام – إلى مملكة سبأ، وصولاً إلى ثقافات العالَم المعاصر وآدابه وفنونه.

عند البحث عن مقام الهدهد في ثقافات العالم، يمكن للمرء أن يجد كثيراً مما يتراوح بين الفن الصيني القديم والأدب الأمريكي المعاصر، علماً أن لا هداهد في القارة الأمريكية.

وفي بداياتها، أو في أبسط صورها، كانت علاقة الإنسان بالهدهد تتكوَّن في معظمها من أساطير وروايات شعبية. فالمصريون القدماء كانوا يقتنون الهداهد في بيوتهم، ويربطون ما بينها وبين “عين حورس” التي كانوا يعتقدون أنها قادرة على رؤية العوالم غير المرئية.

واعتقد الإغريق أن الهدهد قادر على فتح الأماكن المغلقة. كما تطلع إليه بعض أدبائهم على أنه “عقاب”، كما هو الحال عند الكاتب أريسطوفانِس في مسرحيته الساخرة “الطيور” (414 ق.م)، حيث يُعاقَب “تيريوس” ملك تراقيا، بمسخه إلى هدهد بسبب اعتدائه على شقيقة زوجته. ولربما وجد الأديب الإغريقي في الهدهد خير مسخ يمكن أن ينقلب إليه ملك، بسبب التاج الذي يعلو رأس الاثنين.

لوحة “طائر الهدهد”، واحدة من سلسلة من ثماني لوحات تسمَّى “جولة في ويلز” للكاتب والرحالة الويلزي توماس بينانت عام 1781م، يسجِّل فيها وجود الهدهد في بريطانيا

وخلال القرون الوسطى، كان سكان أوروبا الوسطى يتشاءمون من ظهور الهدهد، ويربطونه بقرب حلول كارثة طبيعية تنبئ بخسارة المحصول الزراعي. كما تشاءموا من صوته واعتقدوا أنه ينذر بموت قريب أو فناء قطيع المواشي. وبحلول القرن الخامس عشر شاع بين الألمان استخدام الهدهد في السحر الأسود لجلب الشياطين والجن.

وتؤمن بعض شعوب مناطق أستونيا الشرقية بأن مشاهدة طائر الهدهد هو دليل على حلول مجاعة قريبة في السنة المقبلة أو علامة مطر أو طقس سيئ. أما البولنديون فقد ظنوا لفترة طويلة بأن الهدهد هو طير جلبه اليهود معهم عندما أتوا ليستقروا فيها. أما العرب فقد نسبوا تاج الهدهد إلى أسطورة تتحدث عن فضيلة برّه بوالديه. إذ يروون أنه بعد وفاة والديه، جاب الأرض وهو يحملهما بحثاً عن قبر لهما. ولما لم تطاوعه نفسه أن يدفنهما في أي مكان، قرَّر دفنهما في وهدة خلف رأسه. واعتقد العرب أن تاج الهدهد مكافأة ربانية على صنيع بِرِّه، وتعويضاً عن وهدة القبر، ذاهبين إلى القول بأن رائحته النتنة تعود إلى حمله للجيفتين.

بالتدقيق في الدلالات والرموز التي حمّلتها الثقافات الشرقية للهدهد، يصبح بإمكاننا أن نرد جذور هذا الاهتمام إلى ما ورد بشأن هذا الطائر في القرآن الكريم، وشكَّل منعطفاً تاريخياً لحضور الهدهد في الثقافة الإنسانية.

ففي الشرق عموماً كان للهدهد دلالات أكثر إيجابية مما هو حاله في الغرب. فهو في أفغانستان إشارة إلى السعادة والثراء وحُسن الصيت، وقيل في الفولكلور الأفغاني أن سكّان المنازل التي يختارها الهدهد ليحط عليها ويبني عشه، سيلحق بهم الحظ السعيد ويذيع صيتهم بالحظ والملكية. كما كانت بعض عائلات الأوزبك تزيِّن بيوتها برؤوس الهداهد كنوع من الطلاسم الجالبة للأمان والاستقرار.

وفي الفولكلور الفارسي القديم أسطورة تحاول تفسير وجود التاج على رأس الهدهد، وتقول إن الهدهد في حقيقة الأمر عروس وجدها والد زوجها تُسرّح شعرها أمام المرآة ذات صباح فخجلت كثيراً وهربت بمشط التسريحة الذي ظل لصيقاً بقمة رأسها إلى الأبد، والطريف في الموضوع هو أن اسم الهدهد بالفارسية “شانه به سر” يعني “الرأس المكلل”. وعلى المنوال نفسه، يمكننا أن نجد مثل هذه النظرة إلى الهدهد أو تلك في كل ثقافات العالم.

ولكن، وبسرعة، يلحظ الباحث أن أقوى حضور للهدهد في ثقافات العالم وآدابه، هو في الثقافة الإسلامية ومن دون منافس تقريباً. والبيئة الجغرافية التي يعيش فيها الهدهد لا تكفي لتفسير هذا الاهتمام الشرقي بهذا الطائر المعروف جيداً أيضاً في جنوب أوروبا الغربية وكل أوروبا الشرقية وكل جنوب شرق آسيا. فبالتدقيق في الدلالات والرموز التي حمّلتها الثقافات الشرقية للهدهد، يصبح بإمكاننا أن نرد جذور هذا الاهتمام إلى ما ورد بشأن هذا الطائر في القرآن الكريم، وشكَّل منعطفاً تاريخياً لحضور الهدهد في الثقافة الإنسانية.

مبعوث النبي سليمان إلى مملكة سبأ 
ورد ذكر الهدهد في القرآن الكريم في مقام واحد فقط، لكنَّه مقام استثنائي رفع الهدهد إلى ما فوق سائر الطيور، حيث ورد ذكره في مسار تبليغ رسالة التوحيد في رحلته الأولى إلى “قوم سبأ”. فكان سبباً في خروجهم من ضلال عبادة الشمس إلى عبادة الله تعالى. وارتبط وروده بمملكة جمعت الإنس والجن والطير يدير شؤونها ملكٌ ونبيٌّ في الوقت نفسه هو سليمان – عليه السلام -، ولها نظام صارم ودقيق ومواقيت معلومة لا يخالفها أحد، ومن يخالفها يتعرَّض للعقاب الذي يحدِّده الملك. يدلّ على ذلك وعيد النبي سليمان للهدهد حين وجده غائباً لتأخره في رحلته الطويلة عن موعد الإياب إلى النبي والملك: “وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ” (النمل 20).

شعار الخبر اليقين

لأنَّ الهدهد أتى النبي سليمان – عليه السلام – بالنبأ اليقين، أصبحت صورة هذا الطائر رمزاً لصحة أي خبر. فكان من الطبيعي أن تصبح صورة هذا الطائر شعاراً لبعض وسائل الإعلام، خاصة في المجتمعات التي تعرف الهدهد عن كثب في حياتها الزراعية، كما في تراثها الثقافي، مثل اليمن على سبيل المثال. فعندما صدرت جريدة “سبأ” في مطلع الستينيات بمدينة تعز اليمنية على يد الصحافي محمد عبده صالح الشرجبي، اتخذت من الهدهد شعاراً بصرياً لها. كما هو حال وكالة الأنباء اليمنية “سبأ” التي اتخذت من هيئة الهدهد شعاراً وعلامة تجارية، ومن الآية الكريمة “وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ” (النمل 22) شعاراً مكتوباً للدلالة على الاتساق الموضوعي والوظيفي لوكالة أنباء إخبارية.
وحين أطلق الشاعر السوري المقيم في لندن محيي الدين اللاذقاني في العام 2009م، صحيفة “الهدهد” الإلكترونية الدولية، كأول صحيفة تصدر بخمس لغات عالمية، هي العربية والإنجليزية والفرنسية والإسبانية والفارسية، اتخذت المحطة شعاراً لها يقول: “نحلِّق بك بعيداً لنأتيك بالدهشة والنبأ اليقين”. كما غزا اسم الهدهد عدداً من مواقع التواصل الإلكتروني والاجتماعي، ومنصات التراسل الفوري، ودخل فضاء التطبيقات الرقمية للمراسلات.

وغضب نبي الله سليمان – عليه السلام – لغياب الهدهد، وأقسم أن يُوقع به العقوبة ما لم يبرر غيابه: “لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ” (النمل 21). لكن الهدهد الذي كان يعرف ما ينتظره، دافع عن نفسه في محضر نبي الله سليمان – عليه السلام – وفق سياق شجاع ولافت لملك لم يَعُد يفكِّر أن أمراً بتلك الأهمية خارج دوائر معارفه، فأنصت – عليه السلام – وهو على رأس مُلكه وحشمه وخدمه وجنده مستمعاً للهدهد الذي يخاطبه مباشرة: “أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ”، وبهذه العبارة الموجزة استأثر الهدهد باهتمام الملك الذي ازداد إنصاتاً للطائر البليغ وهو يخاطبه: “وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ” (النمل 22). لقد عمّد النبأ باليقين، وتفاصيله بالإحاطة، مؤكداً بقوله: “إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ” (النمل 23). 

الهدهد طائر بري يعيش حياة فطرية، وجاذبية هيئته جعلت حوالي أربعين دولة من الدول التي تعيش فيها الهداهد من المجر في أوروبا إلى كمبوديا في جنوب آسيا، مروراً بالبلدان العربية، ليكون على طوابعها البريدية تعبيراً عن الحياة الفطرية فيها، وجمالها أيضاً.

بعد هذه التفاصيل المهيبة عن حضور وعظمة ملكة سبأ، يأتي الهدهد على الأمر الأهم بالنسبة للنبي سليمان – عليه السلام -: “وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ” (النمل 24). لقد أحاط الهدهد بدقائق الأمور وطقوس القوم التعبدية، متوغلاً إلى قناعاتهم وعقيدتهم التي من الصعوبة بمكان تغييرها، وهذا أمر يتطلب من نبي الله سليمان دعوتهم إلى التوحيد الذي جاء به جميع أنبياء الله ورسله: “أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ  اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ” (النمل 25-26). لقد ختم الهدهد الإدلاء بحجة غيابه بمفارقة بليغة تؤكد إيمان الهدهد بالله الواحد الأحد، وتفصح عن بيان الفرق بين جملة “ولها عرش عظيم”، في مقام الحديث عن الملكة بلقيس، و”العرش العظيم” في ختام بيانه الموجز، ففي الأولى الصفة والموصوف نكرتان، لارتباطهما بالملوك والسلاطين في الدنيا، وفي المقام الثاني الصفة والموصوف معرَّفان لارتباطهما بملك الملوك، مَن عرشه فوق جميع العروش “ربُّ العرش العظيم”.

هذه الحجة الدامغة لم تجعل النبي سليمان – عليه السلام – يعفو عن الطائر الذي غاب من دون إذن، بل أحال الأمر إلى مسار النظر في صدقية ما جاء به الهدهد: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (النمل 27). وبدأ عليه السلام من تلك اللحظة بترتيب دعوة قوم سبأ إلى التوحيد وعبادة الله تعالى، موجباً على الهدهد إكمال المهمة: “اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ” (النمل 28). وذهب الهدهد في رحلته الدعوية الثانية، ولكن هذه المرّة بأمر مباشر من النبي سليمان – عليه السلام -. وهنا ينتهي دور الهدهد بالانتقال إلى ما دار بين الملكة وأمراء جيشها ومستشاريها.

وبصفته طائراً مختاراً لتبليغ رسالة التوحيد، وحامل الخبر اليقين، رسّخ الهدهد مكانته في الثقافة الإسلامية طائراً مرموقاً يسمو على غيره من الطيور، وقادراً على أن يحمل من المهمات والرموز ما لا يمكن لغيره من الطيور أن يحمله. وتعزَّزت هذه المكانة بما يُروى عن الرسول – صلّى الله عليه وسلّم – في الحديث الصحيح من أنه نَهى عن قَتلِ أربعٍ من الدوابِّ: النَّملةِ، والنَّحلةِ، والهُدهدِ، والصُّرَدِ.

ورد ذكر الهدهد في القرآن الكريم في مقام واحد فقط، لكنه مقام استثنائي رفع الهدهد إلى ما فوق سائر الطيور، حيث ورد ذكره في مسار تبليغ رسالة التوحيد في رحلته الأولى إلى “قوم سبأ”.

كما أن للهدهد حضوره اللافت في عوالم الثقافة، فالشاعر فريد الدين العطار، (المتوفى عام 1221م)، يخصّ الهدهد في مؤلفه “منطق الطير” بمكانة مركزية في عالم الطيور، لما فيه من صفات قيادية تتجلى في خطبة بليغة يروي فيها أسفاره عبر فضاء الأراضي المنبسطة والمحيطات والجبال والوديان والصحارى.. ويفاخر بنفسه على غيره من الطيور بقدرته على التحليق فوق الماء من دون رؤية لليابسة، وبأنه شرع في عهد النبي سليمان – عليه السلام – في “استكشاف حدود الأرض من الساحل إلى الساحل”.

ومن أبرز أشكال حضور الهدهد في الثقافة الإسلامية الفارسية، ما نراه في بعض قصائد حافظ الشيرازي من تأثر واضح بقصة النبي سليمان – عليه السلام- وملكة سبأ، حيث يستخدم الهدهد رسولاً إلى من يحب، فيقول:
لك البشرى يا قلبي، فقد عادت ثانية ريح الصبا..
وقد رجع الهدهد السعيد بالأنباء السعيدة من سبأ
ويقول في موضع آخر:
يا هدهد الصبا إني مرسلك إلى سبأ..
فتتأمل من أين أنا أرسلك؟

ولكن قبل التوسع في حضور الهدهد في عوالم الثقافة، وخاصة الأدب العربي الحديث، حيث يحتل مساحة شاسعة، يجدر بنا التوقف أمام خصائص هذا الطير بحد ذاته. 


مواصفات الهدهد
وما يقوله عِلْم الحيوان 

ظل الهدهد حتى أواخر القرن العشرين موضع خلاف عند علماء الحيوان الذين حاولوا تصنيفه، فمنهم من قال إن فصيلته تشمل خمسة أصناف مختلفة، ومنهم من عَدَّ هذه الفصيلة نوعاً واحداً، لأن الاختلافات بين هذه الأصناف لا تستحق الذكر. أما أحدث محاولات التصنيف المعتمدة حالياً، فتعود إلى عام 1998م، وتوزِّع فصيلة الهداهد على ثلاثة أصناف، هي: الهدهد الأوراسي، والإفريقي، والمدغشقري. وتكاد أوجه الاختلاف أن تقتصر على بعض الألوان الإضافية في المدغشقري، واختلاف الأصوات وما شابه ذلك.

الهدهد الإفريقي

تعشش الهداهد بشكل خاص في إفريقيا المدارية والاستوائية جنوب الصحراء الكبرى، وفي شمال غرب المغرب وعلى طول الساحل الغربي للجزيرة العربية، وكل شبه القارة الهندية وبلدان جنوب شرق آسيا. وتهاجر موسمياً صوب الشمال إلى جنوب فرنسا وإسبانيا وكل أوروبا الشرقية حتى النصف الجنوبي من كل سيبيريا.

يتراوح معدل طول الهدهد بين 26 و28 سم، وطول جناحيه بين 42 و46 سم، ووزنه بين 47 و87 غراماً. وتبلغ سرعة طيرانه نحو 40 كيلومتراً في الساعة.

الهدهد المدغشقري

ألوان ريشه: بطنه أبيض موشى ببقع سوداء، وجناحاه شبه دائريين مخططين بالأبيض والأسود، عنقه ورأسه برتقاليا اللون وكذلك صدره، يعلو رأسه تاج من ريش برتقالي مرقط في أعلاه بالأسود.

منقاره طويل ومعقوف، وقوي إلى درجة تمكّنه من ثقب جذع شجرة. ولذا يخلط البعض بينه وبين “نقّار الخشب” المختلف عنه تماماً.

طعامه المفضل: الديدان والعناكب والحشرات الرخوة والسحالي الصغيرة، ولا يأكل العشب إلا نادراً.

الهدهد الأوراسي

والهدهد من الطيور التي لا تستقر في مكان واحد إلا خلال أسابيع التكاثر. ويمكن للهدهد أن يهاجر موسمياً لمسافات تصل إلى 8000 كيلومتر طلباً للطقس المعتدل، كما يفعل الصنف الأوراسي الذي يتنقل ما بين أوروبا وجنوب إفريقيا، أو ما بين الجزيرة العربية وجنوب القارة الهندية.

ومن طباعه المثبتة علمياً، ميله إلى التمرغ بالرمل، إما للتمويه والاختباء من المفترسات، وإما للاستمتاع بذلك فقط، ورفع الريش في الطوق الرأسي عند الانفعال أو الخوف، وبراعته الفائقة في العثور على المياه. وهذه الصفة الأخيرة كانت وراء نشوء معتقد شعبي يقول إن الهدهد إذا رفرف جناحيه فوق أرض ما، فهذا يعني أن في جوفها ماء.

لم يغب الهدهد عن ذاكرة الثقافة الزراعية اليمنية، حيث يُطلق على الهدهد اسم “اليُبيُبي”. فقد أورد مطهر بن علي الأرياني وصفاً مستفيضاً للهدهد في “المعجم اليمني في اللغة والتراث حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية”، وضمّنه بعض الحكايات الشعبية التي تُروى حول هذا الطائر، نقلاً عن الحكيم علي بن زايد الذي يُعد أحد أهم أعلام الثقافة الزراعية في اليمن ومواسمها ومواقيتها ونجومها

مفارقات دلالية وسلوكية
ينطوي طائر الهدهد على مفارقات لافتة للنظر لا تزال محط أنظار الباحثين، ومن أهمها التناقض بين المظهر الجميل والرائحة النتنة، وهي مفارقة أخرج سرها العلم من دياجير الخرافة، عندما عرف أن الهدهد مزود بغدد زيتية تفرز سوائل كريهة الرائحة، بمقدوره إطلاقها حتى مسافة 30 سم، كلما استشعر أي خطر يحدق به من الحيوانات المفترسة أو الجوارح أو الإنسان.

ومن المفارقات أن طائر الهدهد يُعد أرقى الطيور سلوكاً أسرياً وعاطفياً. إذ أثبتت الأبحاث أنه لا يتزاوج إلا مع أنثى واحدة فقط، ويكون هذا التزاوج برضى الأنثى، وإلا فإنه يذهب إلى البحث عن غيرها. وعندما يفقد أنثاه، يتحوَّل إلى أكثر أنواع الطيور حُزناً ووجداً، فلا يتزوج بأخرى حتى بعد موتها.

أهم ما يميز نمط طيرانها هو أنه شبيه بطيران الفراشات، إذ تتحرَّك الهداهد بشكل سريع وخاطف وغير منتظم ومتغير الاتجاهات بصور مفاجئة وفق خفقان أجنحتها السريعة التي تمكنها من الطيران على ارتفاعات عالية

وفيما يتصل بغريزة الحفاظ على النسل والبقاء، تتكاثر طيور الهداهد في أعشاش تقوم بحفرها في جذوع الأشجار، أو تختار أعشاشاً محكمة في الجحور الصخرية والمدرجات الزراعية، حيث تضع أنثى الهدهد بين 6 و8 بيضات، ملونة بين الزرقاء والخضراء ثم ما تلبث أن تتحوَّل الى بُنِيَة اللون. وتربض الأنثى على بيضها نصف شهر أو 20 يوماً حتى تفقس صغاراً مكفوفي البصر.

ومن مفارقات الوفاء عند ذكور الهداهد، أن الذكر يقوم بمهمة تعهُّد صغاره وأنثاه بالطعام من الحشرات واليرقات وديدان التربة على مدار اليوم، ولمدة أقل من شهر وهي الفترة المحدَّدة لبقاء الأنثى في العش مع صغارها، تستمر خلالها بإفراز سوائل نتنة بغية حمايتهم من المفترسات، والأمراض البكتيرية. وبعد أسبوع من فترة التفقيس تصدر الصغار صوتاً يشبه فحيح الأفاعي، وذلك لإخافة الأعداء. وبعد حوالي 26 إلى 29 يوماً تصبح الفراخ مكتملة البناء فتخرج إلى عالم الطيور. لكنها لا تجتمع في أسرة واحدة بل تتفرق، ويذهب كل منها منفرداً في حال سبيله.

وقد نفت الدراسات الحديثة الاعتقاد الذي كان سائداً بأن الهداهد تطير على مستويات منخفضة فقط. فأهم ما يميز نمط طيرانها هو أنه شبيه بطيران الفراشات، إذ تتحرَّك الهداهد بشكل سريع وخاطف وغير منتظم ومتغير الاتجاهات بصور مفاجئة وفق خفقان أجنحتها السريعة التي تمكنها من الطيران على ارتفاعات عالية، خصوصاً إذا تعرَّضت لهجوم، أو في حال أرادت الهجرة الى أماكن أدفأ وأكثر اخضراراً مع تحوُّلات الطقس.

وأثبتت الأبحاث الصادرة عن الموسوعة العالمية للطيور (IOC) أن الهداهد تمتلك تقنية دفاعية خاصة بها، إذ يقوم الواحد منها بإلقاء نفسه على الأرض على ظهره جاعلاً منقاره المعقوف باتجاه الأعلى، كما يستطيع تغيير شكله فيفرد جناحيه وذيله عند تعرُّضه لأي هجوم ليوهم الأعداء أنه أكبر حجماً.

في الحياة الزراعية العربية
يرتبط ظهور الهدهد في شبه الجزيرة العربية والمناطق المجاورة، بموسم الصيف الدافئ وموسم التِلام بكسر التاء (البذار).. ما يجعل هذا الطائر رمزاً للخير عند المزارعين بشكل خاص، ولذا أطلقوا عليه في الجزيرة العربية واليمن “صديق المزارع”، خاصة أنه من الطيور التي تعتاش على الحشرات وليس الحبوب.

وتبعاً لذلك، لم يغب الهدهد عن ذاكرة الثقافة الزراعية اليمنية، حيث يُطلق على الهدهد اسم “اليُبيُبي”. فقد أورد مطهر بن علي الأرياني وصفاً مستفيضاً للهدهد في “المعجم اليمني في اللغة والتراث حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية”، وضمّنه بعض الحكايات الشعبية التي تُروى حول هذا الطائر، نقلاً عن الحكيم علي بن زايد الذي يُعد أحد أهم أعلام الثقافة الزراعية في اليمن ومواسمها ومواقيتها ونجومها.

ومن أغاني النساء العفوية المجسدة لاعتقاد المزارعين بأن الهدهد من ذوات الدم البارد، أي يموت طوال الشتاء ثم يعود للحياة في موسم بذار الحبوب أو الصيف:

يا ليت من مات موت اليبيبي
مِن عامْ إلى عامْ ويرجع بالتِّلامْ

يرتبط ظهور الهدهد في شبه الجزيرة العربية والمناطق المجاورة، بموسم الصيف الدافئ وموسم التِلام بكسر التاء (البذار).. ما يجعل هذا الطائر رمزاً للخير عند المزارعين بشكل خاص

أجمل رموز الحياة الفطرية
ولكن هذه الألفة ما بين عالم الزراعة والهدهد لا تعني أبداً أنه من الطيورة المستأنسة مثل الصقر أو الببغاء. فهو طائر بري يعيش حياة فطرية. ولكن جاذبية هيئته، جعلت منه واحداً من أجمل ما يعبّر عما في الحياة الفطرية. فاختارته أكثر من أربعين دولة من الدول التي تعيش فيها الهداهد، من المجر في أوروبا إلى كمبوديا في جنوب آسيا، مروراً بالبلدان العربية، ليكون على طوابعها البريدية تعبيراً عن الحياة الفطرية فيها، وجمالها أيضاً.

ألدّ أعداء الهدهد
نجا الهدهد من الصيد، إذ إن معظم الشرائع الدينية والقوانين الوضعية في معظم دول العالم حرّمت صيده ومنعته. ولكن الهدهد يبقى يواجه عداوات متعبة، مثل الجوارح الكبيرة والحيوانات البرية المفترسة. إضافة إلى المبيدات الحشرية المستخدمة في الزراعة التي تفتك بالحشرات والديدان التي يقتات عليها الهدهد، فتنتقل السموم إليه.

أما ألدّ أعداء الهدهد، فهو جهل الإنسان المتمثل في الشعوذة وبعض الأشكال غير العلمية في الطب الشعبي. فالمشعوذون والسحرة استغلوا عبر التاريخ ميّزات هذا الطير لإيهام البسطاء أن استخدام بعض أعضائه في أشكال معينة كفيل بحل مشكلاتهم. كما أن بعض “الأطباء” الشعبيين، يقتنون الهداهد المأسورة، لاستخدام بعض أعضائها في علاجات مزعومة. وهذه الممارسة لا تزال قائمة بشكل شبه علني حتى اليوم في بعض أنحاء الشرق الأقصى، وبعيداً عن أعين الرقابات الحكومية في شمال إفريقيا.


الهدهد في الأدب العربي
حيث الغلبة للشعر والشاعرية

بسبب جماله، وثنائية الغموض والألفة التي سبقت الإشارة إليها، كان من الطبيعي أن يفرض الهدهد نفسه مادة للشعر بالدرجة الأولى، وإن لم يغب عن النثر والرواية، حيث لم يخسر هذا الطائر طابعه وشخصيته الغنائية التي تُطلق المخيلة في كل اتجاه. ففي كتاب “الحيوان” للجاحظ مثلاً، نجده يقول عن الهدهد: “إن العرب والأعراب كانوا يزعمون – كما ذكرنا في المقدمة – أن القنزعة (التاج الريشي) التي على رأسه ثواب من الله تعالى على ما كان من بِرِّه لأمه عندما ماتت، حيث جعل قبرها على رأسه، فهذه القنزعة عوضاً عن تلك الوهدة”.

وفي الشعر العربي القديم، نجد الشاعر “أمية ابن أبي الصلت” (550-624م) يعبّر في قصيدته التي عُرفت بـ “قنزعة الهدهد” عن إعجابه بجمال صنع الخالق المتمثل في هذا العُرف الذي يتوج رأس الهدهد، معتبراً أن هذا التاج مكافأة على ما يعتقد العرب أنه بِرٌّ بوالديه، حيث يقول الشاعر:
تعلم بأن الله ليس كصنعه
صنيعٌ ولا يخفى على الله مُلحَدُ
غيم وظلماء وغيث سحابةٍ
أيــام كفَّنَ واسـترادَ الهدهد
يبغي القرار لأمه ليجنَّها
فبنى عليها في قفاه يمهدُ
مهداً وطيئاً فاستقل بحمله
في الطير يحملها ولا يتأوَّدُ
من أمه فجزي بصالح حملها
ولداً وكلف ظهره ما تفقِدُ
فيزال يدلح ما مضى بجنازة
منها وما اختلف الجديد المسندُ

ومن منظور مغاير للهدهد السليماني، يرى الشاعر عمارة اليمني (1121-1174م) الذي عاش في العصر الأندلسي أن الهدهد كان مؤشر بداية لنهاية حكم بلقيس ودولتها، وأنه هدم عرشها، فيقول في قصيدته التي جرت أبياتها مجرى الحكمة:
فقد هدَّ قدماً عرش بلقيس هدهد
وخرَّب فأر قبل ذا سد مأرب

وتلوّنت الوظائف والصفات التي حمّلها الشعراء للهدهد عبر التاريخ وصولاً إلى الشعر المعاصر، حيث نجد هذا الطائر رمزاً للمقاومة والحرية والأمل عند محمود درويش. فقد حمَّل الشاعر الهدهد كل آماله وأحلامه وتطلعاته إلى الحرية والعودة إلى أرضه الأم، ورأى فيه رسولاً أميناً في صدارة الطيور المحلقة على الدوام. ففي قصيدته “الهدهد” التي شبّعها بالرمزية التاريخية، وضمّنها حواراً بين الهدهد المرموز به للشاعر المحلّق في سماء وطنه بروحه فقط، والطيور التي تعبت من أسفارها ومنافيها والمرموز بها لشعب فلسطين، يقول درويش:
“لم نقترب من أرض نجمتنا البعيدة بعد.
تأخذنا القصيدة
من خُرم إبرتنا لنغزل للفضاء عباءة الأفق الجديدة.
أسرى، ولو قفزت سنابلُنا عن الأسوار وانبثق السنونو
من قيدنا المكسور، أسرى ما نحبُّ وما نريد وما نكون
لكن فينا هدهداً يملي على زيتونة المنفى بريده

وفي مقام آخر من القصيدة، يخرج الشاعر بالهدهد إلى فضاء الحوار الرحب بينه وبين باقي الطيور حول قضية الحرية والوطن:
وإلى متى سنطير ؟ قال الهدهدُ السكرانُ : غايتُنَا المدى
قلنا : وماذا خلْفَه ؟ قال المدى خلفَ المدى خلف المدى
قلنا : تعبنَا. قال: لن تجدوا صنوبرةً لترتاحُوا.
سدى، ما تطلبون من الهبوط، فحلّقوا لتُحَلِّقوا.

و”الهدهد” هو أيضاً عنوان قصيدة للشاعر الأردني عبدالله أبو شميس، في مدح الرسول – صلى الله عليه وسلم -، من خلال مخاطبة هذا الطائر، فيقول:
يا هدهد الأسرار إنا معشرٌ
داخت ركائبنا على وديانه
يا هدهد الأسرار، نهرك آسر
فدع الجمال يطيل في جريانه
أمطر علينا من شمائل أحمدٍ
مطراً يبل القلب في حرمانه
قدر الطيور بأن تظل شريدة
يا ليتني حجر بنفس مكانه

كان من الطبيعي أن يقدِّم الهدهد نفسه مادة للشعر بالدرجة الأولى، وإن لم يغب عن النثر والرواية، حيث لم يخسر هذا الطائر طابعه وشخصيته الغنائية التي تُطلق المخيلة في كل اتجاه.

وجملة مجموعات شعرية
ولو توقفنا عند بعض الإصدارات الحديثة، على سبيل المثال، لأن الحصر مستحيل، لوجدنا أن الهدهد خرج من متون القصائد وأبياتها، ليحتل الأغلفة، كعنوان حمّله المبدعون الحداثيون مغازي مجموعاتهم الشعرية، وجعلوا منه مدخلاً أخّاذاً إلى مضامينها. ومن أبرز هذه العناوين التي صدرت في السنوات القليلة الماضية، نذكر:

حديث الهدهد
مجموعة شعرية للأديب السعودي محمد الحربي، صدرت عن “أعراف الرياض” 2010م، وتضمَّنت خمس عشرة قصيدة في مجموعة شعرية تنفذ على أجنحة الهدهد من عتبتها النصية إلى عوالم شعرية تعكس الارتباط الوثيق بالأمكنة والأزمنة معاً.

هُدْهُدٌ وألف نبأ
عنوان مجموعة شعرية للشاعر اليمني أسامة المحوري، تُعد باكورة أعماله. صدرت عن مؤسسة روائع للثقافة والفنون والنشر في القاهرة عام 2019م. وتضم المجموعة 33 قصيدة من الشعر العمودي، جعل الشاعر من الهدهد فيها عتبة نصية ومدخلاً لألف نبأ. لكن هذه الأنباء لم تكن مقرونة باليقين، بل محمولة على أجنحة الشعر والخيال.

هُدهُدٌ خارج نُبوءة المطر
مجموعة أخرى للشاعر الفلسطيني رشدي الماضي، صدرت في عام 2013م عن منشورات “مؤسسة الأفق للثقافة والفنون” في حيفا، وتضمَّنت 26 قصيدة.. ولعل أهم ما في عنوان هذا الإصدار هو الخروج عن سياق الظهور الموسمي للهدهد، الذي جاء في غير صيف وغير نبأ عن موعد المطر، لينجح الشاعر في أن يعيش حلماً ربيعياً، من خلال جعل الهدهد الذي جاء في غير نبوءة المطر مدخلاً يحتمل تعدد الأوجه الدلالية.

ما لم يأتِ به الهدهد
مجموعة شعرية تضم خمس عشرة قصيدة تفعيلية للشاعر المغربي الدكتور مولاي رشيد العلوي، صدرت عن مطبعة “وراقة بلال” بفاس، ضمن منشورات “منتدى الضاد للإبداع والتنمية” بالمغرب.

الإدريس والهدهد
مجموعة شعرية حديثة للشاعر العراقي عبدالمنعم حمندي، صدرت عن “دار ينابيع للنشر” في دمشق. تضم هذه المجموعة قصائد كتبت ما بين عامي 2013 و2016م. والإدريس معناه (المُكرِّس) وهو اسم نبي الله إدريس – عليه السلام -، وأوَّل من خطَّ بالقلم وسُمي بإدريس لغزارة علمه وكثرة دراسته. وقد جمع الشاعر بين الإدريس والهدهد لمكانة هذا الطائر الذي هدى قوم سبأ إلى عبادة الله تعالى مع سليمان – عليه السلام -، وجعل الشاعر من الإدريس رمزاً للعلم، والهدهد رمزاً للخلاص والنجاة من الشدائد والعذاب.

وفي الرواية
أن تكون الغلبة للشعر على الرواية في احتضان الهدهد وتحميله ما شاء الشعراء، فهذا لا يعني أنه غاب عن الرواية العربية الحديثة. ومن أقرب الأعمال إلينا في هذا المجال نذكر:

“تقرير الهدهد”
رواية للأديب البروفيسور حبيب عبدالرب سروري، صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 2012م. تقع هذه الرواية في 400 صفحة من القطع المتوسط، وتدور أحداثها في أجواء وأزمنة وأمكنة افتراضية تجسر ما بين الماضي والحاضر زمناً، وبين الواقع والخيال مكاناً، وبين تعدُّد التراث الإنساني تناصاً. فقد جعل المؤلف من تقرير الهدهد عتبة نصية للرواية، في إشارة إلى خلاصة نبأ الهدهد اليقين الذي حمله من سبأ إلى سليمان – عليه السلام – بغية هداية القوم. ويجمع سروري في روايته هذه بين رموز العلم والمعرفة والفن من مختلف مناطق التاريخ الإنساني. ففي مكان افتراضي لا يخطر لأحد على بال، حيث السماء السابعة والسبعين، وفي مقهى صغير يُدعى “مقهى الكوكبة” يجمع المؤلف عظماء الأرض من آينشتاين وداروين إلى بيكاسو وابن رشد وأبو العلاء المعرّي.. جاعلاً من الأخير بطلاً لروايته التي تحوَّلت بفعل ثرائها إلى قاموس ناضح بالعلم والشّعر والحكمة والخيال الخصب البديع.

“تاج الهدهد”
عنوان رواية حديثة للروائي والصحافي المصري ناصر عراق، صدرت في عام 2012م، وتدور أحداثها في القاهرة حول قصة عاطفية تجمع المخرج الصحافي معتز مختار، المهووس بحب الطيور والحيوانات بزميلته. كما ترصد الرواية أجواء القاهرة قبل أحداث 25 يناير 2011م وعند بداياتها، حين وجد البطل وسط ميدان التحرير، يحار بين البكاء على هدهده الجريح، أو التحسر على حبيبته، أو الاستسلام لأوامر زميلته حنان التي أحبته بقوة وأنقذته من الموت.


الهدهد للمدح والقدح
من مفارقات مكانة الهدهد في الوجدان الشعبي، أنه استُخدم على ألسنة العامة للمدح تارة وللذم تارة أخرى. ففي مقام المدح، يُشبَّه الشخص حاد الذكاء وقوي البصر بالهدهد، فيقال: “أذكى من هدهد” أو “أبصر من هدهد”. أما في مقام القدح، فقد ربطت بعض الصور الشعبية بين حُسن مظهر الهدهد والرائحة الكريهة التي تفوح منه أحياناً، لإسقاط هذا التناقض على الشخص الذي يكون حسن المظهر أو جميل الحديث ويكون باطنه سيئاً سلوكاً ونوايا فيقال له: “مثل الهدهد، ظاهره نظيف، وباطنه جيف”.. أو يقال له: “أنتن من هُدْهُد”.. وقال شاعر أجرى المثل الشعبي في أبياته المبطنة بالبوح بخيبة الأمل تجاه مَن يُؤمل فيه أمراً حسناً فبدر منه ما يعكر الود:
تشاغلت عنا أبا الطيب
بغير شهيٍّ ولا طيّبِ
كأنتن من هدهد ميت
أُصيب فكُّفِن في جوربِ


الهدهد والكتابة للطفل

تزخر مكتبة الأطفال بالقصص والروايات التي كتبت للصغار، وكان للهدهد حظ وافر من عناوينها وصفحاتها. إذ رأى فيه الكتّاب موضوعاً و”بطلاً” يمكن لخيال الأطفال أن يحلق معه بعيداً. وهناك عشرات، إن لم نقل مئات، الكتب القصصية للطفل المصوّرة كلياً أو جزئياً. وعلى سبيل المثال، نجد في سلسلة قصص الحيوان في القرآن قصة “الهدهد والخبر اليقين” لمؤلفها وارث الكندي، وهي من تصميم وتنفيذ شركة نور لرسوم الأطفال، ومنشورات دار البراق للطباعة والنشر. وقصة “هدهد سليمان” لعبدالحميد عبدالمقصود، وأيضاً رواية “أنا والهدهد” للكاتب المسرحي والشاعر والروائي السعودي عمر الصاوي، الصادرة عن دار العبيكان للنشر في الرياض في عام 2008م.

وتُعد رواية “الهدهد يمتلك تاجاً” أنموذجاً مثالياً لماهية الأدب المصوّر للأطفال. ألَّف هذه الرواية الكاتب المصري عبدالتواب يوسف، زيَّنها بالرسوم الفنان ماهر عبدالقادر، صدرت عن دار المعارف المصرية. يرتكز نص هذا العمل على حبكة قصصية عاطفية، تخلقت مع مرور الوقت على مساحات العشب الأخضر بين الهدهد (هادي)، وبين أنثى الهدهد (هيفاء) التي رفضت الارتباط بهادي، واشترطت عليه أن يكون على رأسه تاج كتاج الملوك، فيظل هادي حزيناً شريداً في الغابات. لكن الحظ يبتسم له عندما يخرج الفرعون رمسيس الثاني للصيد ويضل الطريق، وتغرب الشمس وهو تائه مع جنوده، فيعرض الهدهد عليه بأن يدله إلى قصره، ويكافئه الملك بعد ذلك، حسب طلب هادي، بتاج من ريش يمكنه من العودة إلى هيفاء.

وما يميز الرواية أو القصة المطولة هو أنها قشيبة بالألوان والرسوم المدهشة والجميلة، من الغلاف للغلاف، لكنها نحت منحى أسطورياً بحتاً، نابعاً من المعتقدات الشعبية المصرية التي نسبت قصة حصول الهدهد على التاج من الفرعون رمسيس الثاني.. فحتى يومنا هذا، يبقى تاج الهدهد مادة محرّكة للخيال في كل الاتجاهات وجذّابة لأقلام الأدباء.

في الآداب الغربية حضور شاحب

مقارنة بما حظي به الهدهد في الثقافات الشرقية، يفاجأ الباحث بشحوبة هذا الحضور في الآداب الغربية. وتفسير ذلك ليس صعباً. فباستثناء جنوب شبه الجزيرة الإيبيرية، لا يستوطن الهدهد أية بقعة في أوروبا، بل يعبرها عبوراً في هجراته السنوية. وخطوط هجرته لا تتجاوز في فرنسا على سبيل المثال المناطق الجنوبية من البلاد. أما في إنجلترا فتشير دراسات البيئيين إلى أن نحو 200 هدهد فقط يمرون بجنوب البلاد موسمياً. أما القارة الأمريكية فلا تعرف الهدهد بتاتاً.

إضافة إلى ذلك، من الملاحظ أن للثقافات وللشعوب ميولاً إلى اعتماد رموز محدَّدة وإبقائها خارج المنافسة. وتاريخياً، مال الأوروبيون إلى اعتماد الباز شعاراً وطنياً، من روسيا إلى فرنسا مروراً بالمجر والنمسا وألمانيا وغيرها… تماماً كما اعتمدت الهند الطاووس ملكاً على عالَم الطير ومادة ثقافية صدّرتها إلى الثقافات الآسيوية المجاورة. ومن المرجّح أنه لولا ورود الهدهد في القرآن الكريم كما أسلفنا سابقاً، لما تمكَّن هذا الطائر من استيقاف الثقافة والآداب العربية أمامه، ولخلا المجال لغيره من الطيور، كالصقر على الأرجح. ومع ذلك، يمكننا أن نجد بعض الشذرات الأدبية الغربية الحديثة، التي يحضر فيها الهدهد نتيجة اطلاع بعض الأدباء على الأساطير الإغريقية أو الآداب الشرقية.

فحتى في أمريكا، اقترن الروائي الأمريكي جون أبدايك بالهدهد في مؤلفه الذي يحمل عنوان “أمنية للهدهد”، وهو عبارة عن مجموعة شعرية نشرها عام 1959م، ويشير فيها إلى طائر الهدهد في إحدى قصائده لرمزيته في الثقافة الإغريقية. وقد عَدَّ أبدايك هذا الطائر رمزاً للحظ السعيد، لا سيما وأنه كتب لاحقاً عدة كتب لقيت كلها نجاحاً ورواجاً كبيرين.

كما يرد ذكر الهدهد في قصة “طائر المر والهدهد” للأخوين غريم التي يستخدمان فيها شخصية هذا الطائر للتأكيد على مفهوم الوسطية، والتحذير من مخاطر المبالغة في فعل الخير أو الشر على صاحبه. إذ يقوم الهدهد بخيار يحتم عليه أن يدفع ثمنه لاحقاً كما يتضح في نهاية الحكاية.

وحتى جَمَال الهدهد لم يغب عن بعض الأغلفة، فنراه يزيِّن غلاف رواية الكاتبة ليا كامينسكي “العظام المجوفة” وهي قصة تتحدث عن عالِم حيوان طموح يبحث عن الطيور الفريدة ويتصيدها في مناطقها الأم، فإلى جانب كون الهدهد رمزاً للتفرد والندرة، اختارته الكاتبة ليحتل غلاف روايتها فيشد اهتمام قرّاء لم يعرفوا الهداهد في بلادهم.


رمزيته في فن الرسم

استخدم المصريون القدماء الهدهد رمزاً في بنية الكتابة الهيروغليفية، بمعنى “عكازة”. ويتضح ذلك عبر جداريات المعابد والبرديات الجنائزية والتوابيت. كما أنهم رسموه بألوانه الزاهية وهو واقف على جذع شجرة الطلح التي كانت الطيور في تلك البيئة تفضلها. ومن أشهر تصاوير الهدهد البارزة في الفن الفرعوني ما نجده في جدارية قبر الفرعون “خنوم حتب الثالث” في الموضع المسمى مقابر “بني حسن”.

وفي الشرق الأقصى، يحتفظ متحف شانغهاي بالصين بمخطوطة حبرية على خلفية من الحرير القديم تعود إلى القرن الثالث عشر الميلادي للرسام الصيني تشاو منغ فو (1254 – 1322م) بعنوان “طائر الهدهد على ساق البامبو”، وتصور الهدهد مستنداً بثقله على ساق البامبو الهش، في إشارة إلى السذاجة الإنسانية وطبيعة الغافل الذي لا يهتم بالنظر إلى الوراء معرّضاً نفسه للمخاطر.

“طائر الهدهد على ساق البامبو” للرسام الصيني تشاو منغ فو (1254 – 1322م)

استخدم المصريون القدماء الهدهد رمزاً في بنية الكتابة الهيروغليفية، بمعنى “عكازة”. ويتضح ذلك عبر جداريات المعابد والبرديات الجنائزية والتوابيت. كما أنهم رسموه بألوانه الزاهية وهو واقف على جذع شجرة الطلح التي كانت الطيور في تلك البيئة تفضلها. ومن أشهر تصاوير الهدهد البارزة في الفن الفرعوني ما نجده في جدارية قبر الفرعون “خنوم حتب الثالث” في الموضع المسمى مقابر “بني حسن”.

أما في فن الرسم الأوروبي، فمن أشهر الأعمال التي تناولت طائر الهدهد لوحة تعود إلى بدايات عصر النهضة، وهي للفنان الإيطالي دومينيكو دي بارتولو (1362 – 1422م) بعنوان “خطبة فرانسيس للطيور” حيث تظهر مجموعة من الطيور وهي تصغي باهتمام بالغ لموعظة عن عظمة الخالق، فنجد طائر الحجل والبط مع مجموعة طيور موزعة حول الشجرة، وطائر الهدهد في مقدِّمة هذه الطيور جاثماً على الأرض، وهو ما يرمز في الغالب إلى حريته وتميّزه وسموه الروحي عن غيره من الطيور.

وفي لوحة شديدة السوداوية، نرى الرسام الهولندي أبراهام ميغنون (1640 – 1679م)، الذي اشتهر برسم مشاهد الطبيعة الصامتة يصور  “الهدهد مقلوباً على رأسه” وطير القرقف مع غطاء رأس الصقر (الذي اصطاد الهدهد) وصفارة صيد في داخل حجرة شبه معتمة. ويرمز الهدهد في هذه اللوحة إلى النهاية المأساوية للكائنات الحية وانجرافها إلى التهلكة.

“الهدهد مقلوباً على رأسه” الرسام الهولندي أبراهام ميغنون (1640 – 1679م)

عند التشكيليين العرب

ويظهر الهدهد كطائر خرافي الحُسن والبهاء لا فكاك من التأثر بمنظره الجميل في لوحات كثير من التشكيليين العرب. قد يكون أبرزهم الفنان المصري حلمي التوني، الذي تتألف مفرداته الفنية من بعض رموز الثقافة الشعبية المصرية، القديمة منها والإسلامية، مثل السمكة والحصان وأهرام الجيزة، وطبعاً الهدهد الذي نراه في عشرات اللوحات، ودائماً إلى جانب امرأة ذات خطاب اجتماعي وثقافي.

الهدهد حاضر في لوحات الفنان المصري حلمي التوني

الأمر نفسه ينطبق على حضور الهدهد في أعمال الفنان اليمني مظهر نزار، حيث يلازم المرأة في لوحات مختلفة، في استيحاء واضح من قصة الملكة بلقيس والهدهد.

كما حضر الهدهد في أعمال الفنانة العراقية هناء مال الله، ككتلة بصرية تشكَّلت من تأثر الفنانة بالموروث الإنساني والعربي بالذات المتصل بعالم الطير.

أما الفنان الفلسطيني معتز نعيم، فقد عكس بعمله البصري “لوحة الهدهد” رؤية مغايرة لحضور هذا الطائر في الواحات الخضراء. فرسم الهدهد مشفوعاً بفضاء لوني وحركي مدهشين ولافتين من حيث وقفة هذا الطائر على جذع شجرة ميتة وجافة ينصت لصوت ما من كائن غير مرئي، في تعبير عن التمسك بالحياة وسط مساحات من الدمار والألوان القاتمة.

الفنان الفلسطيني معتز نعيم، “لوحة الهدهد”

وخرج الفنان السوري نهاد عبدالقادر، بالهدهد عن الواقعية الشكلية إلى فضاء الفانتازيا، فرسمه بملامح بشرية.

وفي شهر ديسمبر من العام الماضي، أقام الفنان التشكيلي المصري حمدي عطية معرضاً في القاهرة تحت عنوان “هكذا تكلم الهدهد”. وجسّد فيه قوة هذا الطائر وقدرته على مقاومة الأنواء وتحمل مشاق السفر منفرداً، والنجاة من الكوارث، منطلقاً في ذلك من الإعصار المسمى “إعصار هُدهُد”، الذي ضرب سواحل الهند الشرقية ومرتفعات نيبال، في شهر أكتوبر من عام 2014م. وعكس المعرض ما يراه الفنان من معاني حضور الهدهد في الأساطير والثقافات الإنسانية. فسمعناه يقول إن معرضه “مشروع فني يطمح إلى استكشاف سحر تلك العين الأسطورية الثاقبة اللاذعة لطائر يبدو كمتجول استقصائي محترف”.

وفي فن الخط العربي رسم الخطاطون هيئة الهدهد في تكوينات مشكَّلة من البسملة وآيات كريمة أخرى. ومنها على سبيل المثال، لوحة الفنان التشكيلي والخطاط العراقي يسري المملوك، الذي استطاع توظيف مضمون النص في تشكيل هيئة الهدهد البصرية، فخط الآية العشرين من سورة النمل: “وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ” في عمله الفني على شكل هيئة الهدهد، راسماً الرأس والرقبة بالخط الديواني، والباقي بالخط الثلث.


مقالات ذات صلة

ولماذا اللون الأخضر؟
ألأنه جميل؟
نعم، إنه جميل، ولكنه أكثر من ذلك بكثير.

في هذا الملف، نذهب إلى جولة في رحاب الكون، لاستطلاع بعض ما نعرفه عن هذه الأجرام السماوية الجميلة، وعن حضورها الآسر في الثقافة والعلوم، ودورها في تطوير الحضارة الإنسانية.

إنه الجواب عن أي سؤال يبدأ بـ “كم؟”. هو كالهواء الحاضر دائمًا من حولنا حتى الالتصاق بنا، ننساه أو نتناساه، أو نتجاهله، رغم أنه وراء تشكيل كل ما أنتجه وسينتجه الإنسان، من الملابس التي على أجسامنا، إلى أبعد الأقمار الاصطناعية عن كوكبنا. إنه القياس، هذا الفعل الذي لا بدَّ منه، ليس فقط لضمان سلامة إنتاج […]


2 تعليقات على “الهُدهُد”

  • موضوع محكم عن ذلك الطائر الجميل الموشى بالغموض، استطاع الكاتب أن يحيط بأكبر قدر من المعلومة عن الهدهد من مختلف النواحي ..تتحفنا القافلة بموضوعاتها الرصينة، آملين لها سعة الانتشار لدى المتلقي العربي الكريم المتعطش للثقافة رغم انتشار منصات التواصل الاجتماعي ..

  • طائر الهدهد موجود في الجزائر ويعرف باسم « التبيب»، وربما اشق اسمه من الصوت الذي يصدره إذ يتخيلونه يصيح (تبيب… تيبيب….)، وهو طائر (مبجل) وليس مقدسا، لأنه رمز لقدوم الخير، ويقترن اسمه عاده بوصف الحبيب فيقولون (يا التبيب الحبيب).


اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *