ارتبط الهودج بالإبل دون غيرها من الحيوانات ارتباطًا وثيقًا، ولا غرابة في ذلك، فالإبل هي الوسيلة الأكثر تحمُّلًا لمشاق السفر والأكثر قدرة على الأحمال وقطع المسافات في جزيرة العرب في الماضي.
الهودج غرفةٌ صغيرةٌ متنقِّلة للمرأة تُوضع على ظهر الجمل وتقوم على سترها أثناء السفر. وهنا يرتبط الهودج بالمرأة أيضًا، فيكتمل من خلال ذلك الارتباط معنى المفردة.
جاء في كتاب العين للخليل بن أحمد: “الهَودَج: مركبٌ لنساءِ الأَعراب.. ويجمع: الهَوادِج”. (ج 3، ص: 386).
يبدو أن الهودج اكتسب مسمَّاه من الفعل (هدج)، وهذا ما تؤكّده المعاجم العربية، فابن فارس يقول: “الهاء والدال والجيم: أصل صحيح يدل على ضرب من المشي والحركة. وتهدَّجت الناقة: مشت نحو ولدها عاطفة عليه. والهودج عندنا من هذا القياس؛ لأنه يضطرب على ظهر البعير، ثم يشبَّه به فيُقال: هودَجت الناقة، إذا ارتفع سنامها كأنه الهودج”. (معجم مقاييس اللغة، ج 6، ص: 44).
لغة المعاجم تتعامل مع المفردات معاملة التأصيل للمعنى والشرح والتوضيح، وتقف عند هذه الوظيفة بحسب ما تستقرئه من كلام العرب. وتظل المفردات، بحكم قانون التطور الاجتماعي خاصة، لا تتوقف عند معنى واحد في مختلف الاستعمالات المجازية. وإذا أدخل الشعر المفردات في ميدانه كان الأمر مختلفًا؛ ذلك أن لغة الشاعر على مرّ العصور تختلف عن لغة المعجمي. فحين يتعامل الشاعر مع المفردة في القصيدة، فهو يتحدث بلغة الإيحاء، وبالتالي فالمفردة في القصيدة تحمل ظلالًا ليس بالضرورة أن تدل على المعنى المعجمي، بل تأخذ بُعدًا جديدًا بفضل السياقات التي وردت فيها.
وظّف الشاعر القديم الهودج في أن يكون علامة للرحيل، وبقي الهودج في معناه المعجمي، ولم يتجاوز هذا الحد كقول أحدهم:
رَفعُوا الهَوادجَ للرَّحيلِ، وأَعتمُوا
وغدت لبَينِهُمُ المدامعُ تَسجِمُ
وكذلك عند عمر بن أبي ربيعة رغم إغرائية المشهد في إيماءة المعشوقة، كان الهودج إطارًا للصورة، حينما قال:
أَومَت بعَينَيها مِن الهَودَجِ
أمَّا في التشبيه، فلم يخرج الهودج عن معناه إلا قليلًا، كقول الشاعر:
يُخَلْنَ عليهنَّ الهوادجُ في الضُّحى
سفائنَ في بحرٍ منَ الآلِ يزخَرُ
لاحظنا ممَّا سبق، أن الهودج حاضر بمعناه الحسّي، ولا يكاد ينفك عن ارتباطه بالمرأة والإبل، فلم يقفز إلى أبعاد أخرى.
في الشعر الحديث، ولا سيَّما لدى شعراء الحداثة، ثمَّة اتكاء على اللغة الخاصة، وهذا يعكس انتباههم إلى أهمية اللغة في خلق الشعر من خلال إدخال المفردة في نسيج جديد للاستفادة من طاقتها مع مفردات أخرى، وبالتالي العمل على معجم إيحائي للغة، وهذا ما جعل بعض الشعراء يفك علاقة الهودج بالإبل والمرأة ويدخلها في علاقات جديدة.
يقول الشاعر علي الدميني من قصيدة “الهوادج”:
مـا تبـــقَّى من العُــمرِ إلَّا التي راودتني صَغيرا
أتعبتني كَبيرا البـلادُ التي سأُغنِّي لهودَجِها البَدَويِّ
وَأرقصُ بينَ يدَيها، ومِن خَلفِها مُبصِرًا، وضَريرا!
قصيدة “الهوادج”، هي قصيدة تواجه الزَّمن وكأنها تعزّي العمر بما تبقَّى من ذكريات وأحلام لا تموت كلّما حاصرت الخيبة الأمل.
والشاعر المسكون بالأمل لا يكفُّ عن الغناء، والوطن المتمثّل في مفردة (البلاد) أمل راود الشاعر في صباه وأتعبه في كهولته. فحضور مفردة (الهودج) هو حضور لهويّة الصحراء، وفي وصفه بـ(البدوي) نلمس هذا العمق الانتمائي لذلك الامتداد القادم من الأجداد، والحنين إلى الأشياء في صورتها الطبيعية؛ جماليّات البداوة الخالصة، وبحسب رأي المتنبي “حسنٌ غير مجلوبِ”.
فالبلاد التي في الهودج هي صورة محدّثة عن الصورة القديمة للمرأة في الهودج. لكن الإبل في نظر الدميني هو الزمن، والهودج قد يكون حدود الوطن أو القلب الذي يحمله.
نقرأ أيضًا في القصيدة تأكيد الشاعر صفة البداوة حين قال في موضع آخر:
وأنا مستعيذٌ من الشَّدوِ بالصمتِ
مستمطرٌ ديمةً أربعتْ،
ورياحًا تسوقُ هَوادجَها البدويَّةَ في الماءِ،
طالعةً من عُروق السَّحابِ،
ونازلةً في متونِ اليبابِ..
يأخذ الهودج بُعدًا أقرب إلى الأسطورة عند الشاعر محمد العلي في قصيدة “دارين”، وذلك حين ابتكر هودجًا مصنوعًا من القصص، فيقول مخاطبًا دارين:
هل تقبلينَ اللآلئَ جاريةً؛ إذ يراودُكِ النَّومُ
تَنسجُ من قَصصِ البحرِ، والرِّيح
فيما مضى هَودَجًا لرُقادِك؟!
دارينُ، بُوحي لي الآنَ..
الهودج هنا يخرج من معناه المحسوس إلى معنى لا يُمكن رؤيته، ولكن من الممكن تخيّله كما نتخيّل الأسطورة في الحكاية الشعبيّة، فهو هودج منسوج من قصص البحر والريح بحيث تكون اللآلئ (جارية) تحكي حكاية النوم لـ(دارين) المثقلة بالجراح والسنين الطويلات، فهي بحاجة للنوم الذي هو هدنة التعب؛ لذلك فالشاعر يقترح لها هودجًا أسطوريًّا يمتصّ تعب السنين.
في معجم الشاعر تنطلق المفردة من صورتها الأولى إلى أبعاد أخرى خارج الحس والتوقّع.
وحين نقارب التشكيل الثلاثي القديم، فدارين هي المرأة، والهودج قصص المكان والزمان المأخوذة من البحر والريح، والإبل هي تلك السنين الطوال.
في مرآة الشعر لا تشبه الكلمة نفسها، وإنما تختلط بملامحها أمشاج عديدة، وتختلجها انفعالات كثيرة، وهذا ما حدث لمفردة الهودج.
اترك تعليقاً