لكلِّ جماعة بشرية شغفٌ بإنتاج هوية خاصة مصطفاة، على وفق ما ترسمه احتياجاتها وأحلامها وآفاق انتظارها، وما تتعرَّض له من إخفاقات وإكراهات. وكلّ ذلك يسهم في كيفية بناء معتقدها، ويحدِّد ألوانَ رسمها لصوره المتنوِّعة وتعبيراته في الزمان والمكان، ثم تُدمَج صور المعتقد لتدخل عنصرًا في مكونات هذه الهوية، بجوار العناصر الإثنية والثقافية واللغوية والرمزية وغيرها، بالشكل الذي يجعل المعتقدَ عنصرًا فاعلًا ومنفعلًا داخل الهوية. كذلك تدخل الهوية في مكونات المعتقد؛ إذ تتغذى منه الهوية ويتغذى منها، فإن كان المعتقد مغلقًا انغلقت الهوية، وإن كانت الهوية مغلقةً انغلق المعتقد، ويتشكّل مفهوم الحقيقة على وفقهما. المعتقد والهوية ينشدان إنتاجَ الحقيقة على وفق رهاناتهما ومطامحهما ومعاييرهما، سواء أكانت تلك الحقيقة دينيةً أم غيرَ دينية.
كما يتلاعب المعتقد والهوية المغلقان بالمعرفة يتلاعبان بالذاكرة أيضًا؛ إذ تعمل الهوية المغلقة على إعادة خلقِ ذاكرة موازية لها، تنتقي فيها من كلِّ شيء، في تاريخها وتراثها، ما هو الأجمل والأكمل. ولا تكتفي بذلك، بل تسلب ما يمكنها من الأجمل والأكمل في تاريخ وتراث ما حولها، فتستولي على ما هو مضيءٌ فيه. يجري كلّ ذلك في ضوء اصطفاء الهوية لذاتها؛ لذلك تعمد إلى حذف كلِّ خسارات الماضي وإخفاقاته من ذاكرة الجماعة، ولا تتوقف عند ذلك، بل تسعى لتشويهِ ماضي جماعات مجاورة لها، والتكتمِ على مكاسبها ومنجزاتها عبر التاريخ.
في الهوية المغلقة يعيد متخيَّل الجماعة كتابةَ تاريخها، في أفق يتحوَّل فيه الماضي إلى سردية رومانسية فاتنة، ويصبح العجز عن بناء الحاضر استعادةً مهووسةً بالأمجاد العتيقة، ويجري ضخّ الذاكرة الجمعية بتاريخ متخيَّل يضمحلّ فيه حضور التاريخ كما هو، وتُخلع على الحوادث والشخصيات والرموز والأفكار والمعتقدات والآداب والفنون هالةٌ أسطورية، تتحدَّث عنها وكأنها خارجَ الزمان والمكان والواقع الذي ظهرت وتكوَّنت وعاشت فيه.
تشتدّ حالة اصطفاء الهوية ووضعها فوق التاريخ في مراحل الإخفاق الحضاري، وعجز المجتمعات عن الإسهام في صناعة العالَم الذي تعيش فيه. لذلك تسعى للاستيلاء على المكاسب الكبيرة للآخر، وإيداعها في مكاسبها الموروثة، من خلال القيام بعمليات تلفيق متنوعة، تتّسع لكلِّ ما هو خلَّاق مما ابتكره وصنعه غيرها. وذلك أبرز مأزق اختنقت فيه هويتنا في العصر الحديث.
إن خلطَ كلِّ شيء بكلِّ شيء هو من مشكلات التفكير الديني الحديث؛ إذ تتحوَّل عملية الخلط أحيانًا إلى ضرب من تلفيق عناصر متضادَّة ينفي بعضها البعضَ الآخر، مضافًا إلى أنها على الضدِّ من منطق التفكير العقلاني النقدي، وترفضها مناهج البحث العلمي. منطق التفكير العقلاني ومناهج البحث العلمي يعتمدان البحث المتواصل، بغيةَ رسم جغرافيا للأديان والمعتقدات والمذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية، وتحديد المقولات والمفاهيم والأشياء، وتمييز كلٍّ منها عن الأخرى، وتصنيفها من خلال الكشف عما يتَمَيَّز به كلٌّ منها، وعما يشترك به كلٌّ منها مع غيره. إن المقياس في تطوّر المعارف وتقدّم العلوم يتمثَّل في مدى قدرتها على معرفة الماهيات وبيان الكيفيات واكتشاف الحدود، ولولا ذلك للبِثَت المعرفة محدودةً وبدائية. تقدُّم المعارف والعلوم يكفله تشعّبها واتساعها وتعدّد موضوعاتها؛ إذ لا علومَ ومعارفَ بشرية من دون اختلاف وتنوّع.
تنشأ ذهنية التلفيق من شعور مرير يتملَّكنا، ينتجه الخوف على هويتنا، والقلق من افتقاد خزَّان الذاكرة الذي صنعناه، فأودَعتْ فيه سلالات الآباء عبر التاريخ كلَّ أحلامها الجميلة الفاتنة، ولوَّناه نحن بما هو أشدّ فتنة وجمالًا. فأوقعَنا ذلك الشعور المرير في مفارقة ضاع فيها عقلنا فضيَّعنا العلوم والمعارف الحديثة، حتى أمسينا لا نحن بالقادرين على استحضار ما كان كما كان، ولا نحن بالقادرين على الإقلاع عمَّا كان.
لقد غذَّتْ فوبيا ضياع الهوية من جهة، والحاجة الملحَّة للحضور في العالَم من جهة أخرى، نزعةَ التلفيق لدينا في العصر الحديث؛ بين الماضي والحاضر، التراث والحداثة، الأصالة والمعاصرة، المعروف والغريب، المألوف والمخترَع، المقلَّد والمحدث، الارتداد والامتداد، الائتلاف والاختلاف، المقدَّس والمدنَّس، الديني والدنيوي، الدين والفلسفة، الدين وعلوم الإنسان والمجتمع، الدين والعلوم الطبيعية، الدين والآداب، الدين والفنون… فأنهك ذلك التلفيق النصوصَ الدينيةَ بعمليات تأويل متعسِّفة، لا يقبلها منطق التأويل القديم، ويرفضها منطق التأويل الجديد. كلّ ذلك يتم من خلال إسقاط مكاسبِ الحداثة المتنوعة في الفلسفة والمعارف والعلوم والآداب والفنون المختلفة على النصوص الدينية.
كان التنكّر للأبعاد الكونيَّة في الفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع أعقدَ مأزق تورَّط فيه العقل الدينيّ والقوميّ بهذا العصر في مجتمعاتنا. وظهر ذلك بوضوح في العمل الذي استنزف مالًا وفيرًا وضاعت فيه عقول فذَّة، وظلَّ وهمه يطارد عدةَ أجيال إلى اليوم، والذي يسعى منذ سنوات من دون جدوى لاكتشافِ هوية دينية للعلوم والمعارف، ويفتِّش عن هوية قوميّة ضائعة للعلم والمعرفة.
تسارعَ تحوّل الهوية في عصر تكنولوجيا المعلومات والهندسة الجينية والمنعطفات الواسعة في العلوم المختلفة، فقد تعدَّدت وجوهها وتنوَّعت أبعادها. الواقع شديد التحوّل يفرض عليها أن تصير سيَّالةً متغيِّرة، تتعدَّد عناصرها وتتنوَّع مكوِّناتها تبعًا لتعدّد وتنوع إيقاع حركة الواقع شديد التركيب والتحوّل؛ لذلك يفرض الواقع الراهن على الهوية التي تتشبَّث بالبقاء طريقةً للعيش تواكب إيقاعه، كي تبقى مسجّلةً على قيد الحياة، وإن كانت هذه المواكبة قلقة مضطربة مشوَّهة هشّة في مجتمعاتنا. لا خيارَ للهوية إلا أن تخرج من قوقعتها، كي لا يمحو وجودَها واقعٌ يتغيَّر فيه كلّ شيء، ولتحتفظ بشيء من عناصر البقاء، حتى لو كانت مضطربة مشوشة.
بنية الهوية في عالمنا اليوم لم تعدْ بسيطة، بل صارت عميقة، تتألف من سلسلة طبقات متنوِّعة المكونات، وتتزاحم عليها صور متعدِّدة. لا تلبث مكوناتها على الدوام في سلَّم ترتيبها، ولا تمكث في مواقعها، ولا تقف الصور المتعاقبة عليها عند صورة واحدة، لذلك تتطلَّب معرفتها تفكيرًا صبورًا، يتوغَّل في طبقاتها، ويحلِّل عناصرها، ويضيء صورها المتلاحقة.
الهوية في حالة تشكّل مستمرة؛ إذ لا تستطيع أيَّة هوية أن تعزل نفسَها عمَّا يجري حولها من تحولات مختلفة في العالم، وإيقاع متسارع حادِّ التغيير في كلِّ شيء، ولا يمكن أن يتغيَّر كلّ شيء فيما تظل الهوية ساكنةً. ممانعة الهوية ومكوثها في أنفاق الماضي تفضي إلى انسدادها وتحجّرها، ومن ثَمَّ، خروجها من العصر؛ ذلك أن كلَّ هوية تفشل في إعادة إنتاج ذاتها في سياق يواكب إيقاع التحوّلات المتسارعة في الواقع، وتعجز عن الإسهام في بناء الواقع، يفرض عليها التاريخ أن تنسحب؛ إذ إن كلَّ من يعجز عن صناعة التاريخ لا محلَّ له في ذاكرة التاريخ.
الهوية في حالة صيرورة، وكلّ صيرورة هي تحوّل متواصل. الهوية علائقية بطبيعتها، تتحقَّق تبعًا لأنماط صلاتها بالواقع، ويُعاد تشكّلها في فضاء ما يجري على الهويات الموازية لها، وهذا ما يفرض عليها أن تعيدَ تكوينها في سياق تفاعلها، انفعالِها، تضادِّها، صراعِها، تسوياتِها، تساكنِها وتضامنِها، مع كلِّ ما يجري على الهويات الأخرى.
الحنين حدّ الشغف بالماضي يُضيِّع التفكير النقدي، الحنين يفضي إلى المزيد من الضياع في أنفاق التراث والغرق في متاهاته، وتقليد القدماء في كلِّ شيء. ومع التقليد يكفّ العقل عن أن يكون عقلًا، ويكفّ التفكير عن أن يكون تفكيرًا.
اترك تعليقاً