يُشكِّل الاستهتار بالتعامل مع النفايات البلاستيكية ضررًا كبيرًا على الأنظمة البيئية البرية والمـائية. فهذه النفـايات تُعدُّ من أسباب التغيرات المناخية وفقدان التنوُّع البيولوجي. وفي وقت فشلت فيه معظم محاولات معالجتها، لم يبقَ لنا سوى الاستعانة بالخيال لإيجاد الحلول، مثل تجميع النفايات على اليابسة وإعادة استخدامها حيثما يمكن ذلك. ومن آخر ما تفتَّق عنه الخيال تصميم أبنية منها قابلة للنفخ، وتجميعها في مكان واحد في البحار، نعدُّه قارة ثامنة، ونوفر كل أسباب الحياة لمن يعيش فيها.
تُخلِّف الكوارث الطبيعية المتزايدة أوضاعًا صعبة على ملايين البشر، ولا سيَّما في مجال الإسكان. إذ جاء في تقرير المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين لعام 2023م، أن عدد الذين يُهجَّرون كل عام بسبب هذه الكوارث بلغ نحو 20 مليون شخص. وهذا ما يؤدي إلى زيادة التنافس على الموارد المحدودة حيثما يحلون، وهو ما يسبب الحروب ومزيدًا من التهجير. وبات توفير المساعدات الفورية ضروريًا، وبخاصة فيما يتعلق بالسكن ومستلزماته.
هياكل قابلة للنفخ
المبدأ الأساس للهياكل القابلة للنفخ بسيط جدًّا، وهو ضخُّ الهواء في هيكل محصور ومغلق، بحيث تسمح القدرة على الانكماش والتمدد المستمر بنقل هذه الهياكل بسهولة عند الحاجة. وإضافة إلى قابليتها للطي وسهولة التجميع والتفكيك، فإنها تتميز بالخصائص الشفافة؛ إذ من الممكن أن يصبح الضوء عنصرًا محوريًا في التصميم، وهو ما يولِّد تأثيرات بصرية متنوعة، وهذا يعزِّز الهندسة المعمارية القابلة للنفخ، التي لا تنحصر فقط من خلال شكلها، ولكن أيضًا في كيفية اندماجها في البيئة الحضرية. وهذا هو السبب الرئيس في أن بعض تطبيقاتها الحالية المحدودة، موجودة في المشاريع الفنية والمعارض والأجنحة التي تُقام فترةً زمنية محددة.
تجربة أولى
على صعيد تطبيق الفكرة على الأبنية، قام طلاب الهندسة المعمارية في جامعة برات الأمريكية عام 2021م، ببناء منشآت قابلة للنفخ استنادًا إلى أبحاثهم حول كيفية تقليل البلاستيك الزائد وإعادة استخدامه في التصميم. إذ استخدموا النفايات البلاستيكية، مثل: أكياس القمامة وأغطية التنظيف واللفائف البلاستيكية والتغليف المرن، وثـبّتوا هذه الهياكل في الحرم الجامعي، كما جاء في نشرة “أخبار برات” (Pratt News) في 15 ديسمبر 2021م.
وفي الواقع، تُقدِّم الهياكل القابلة للنفخ مجموعة واسعة من الأفكار القابلة للتطبيق في مجال الصناعة وإدارة الفعاليات والهندسة المعمارية والهندسة المدنية والطيران (المنطاد) والحالات الطارئة والفضاء. وكذلك تُقدِّم الهياكل القابلة للنفخ إمكانات جديدة لمستقبل الملاجئ الطارئة، سواء أكان الأمر يتعلق بالاستجابة للكوارث الطبيعية مثل الأعاصير والزلازل، أم تقديم مساعدات في مخيمات اللاجئين؛ إذ إن وجود مثل هذه الأبنية يؤدي إلى إحداث قفزة كبيرة في الاستجابة للكوارث.
ناطحة سحاب قابلة للنفخ
ومن الأفكار الواعدة حول البناء القابل للنفخ، فاز فريق من ثلاثة مصممين بولنديين، في عام 2018م، بالجائزة الذهبية في مسابقة ناطحات السحاب، كما جاء في موقع “إعادة التفكير في المستقبل” (Rethinking the Future) في يونيو 2022م. وكانت الفكرة تصميم ناطحة سحاب قابلة للنفخ، يمكن إنزالها بواسطة طائرات الهليكوبتر إلى مناطق الكوارث، ثم نفخها إلى ارتفاعها بالكامل، البالغ نحو 100 متر، لتتسع لنحو 1000 شخص في طوابق متعددة. ويمكن لهذا المبنى أن يكون أيضًا مستوصفًا للإسعافات الأولية أو مزرعةً عمودية لإنتاج الغذاء الذي تشتد الحاجة إليه في مناطق الكوارث. وعلى الرغم من أن فكرة ناطحة السحاب القابلة للنفخ خيالية وبقيت مجرد تصميم، فإن تنفيذها يبدو مسألة وقت؛ لأن التقنيات موجودة وهي قيد التطوير، كما جاء في مجلة “بيغ ثينك” (Big Think) في 18 مايو 2018م.
في الفضاء
لا يتوقف استخدام الهياكل القابلة للنفخ على كوكب الأرض فحسب، بل يُمكن لتطبيقاتها أن تُستخدم خارجه في الفضاء وعلى القمر وكواكب المجموعة الشمسية. وهناك دراسات حديثة، أجرتها وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) ووكالة الفضاء الأوروبية (إيسا)، حول إنشاء قاعدة على سطح القمر قابلة للنفخ. فهذه الهياكل تتميز بخصائص عديدة مقارنة بالوحدات الصلبة، مثل: كفاءة التعبئة والتغليف، وسهولة التوسع، والمرونة. وقد صرَّح رئيس قسم الابتكار والتصميم في شركة الهندسة المعمارية “هاسل”، زافييه دي كستيلييه، أن فكرة إنشاء مساكن قابلة للنفخ على سطح القمر تبدو وكأنها خيال علمي، لكن هذه الأنواع من الأغشية يجري اختبارها بالفعل على متن محطة الفضاء الدولية، كما أشار موقع الشركة.
القارة الثامنة العائمة
بالانتقال إلى الأنظمة البيئية المائية، صممت المهندسة المعمارية السلوفاكية، لينكا بيتراكوفا، مشروعًا واعدًا سُمِّي “القارة الثامنة”. وحصد هذا التصميم “الجائزة الكبرى”، في عام 2020م، من المؤسسة الفرنسية “جاك روجري”، وهي أعلى جائزة فرنسية للهندسة المعمارية البحرية. ويتطلع مشروع “القارة الثامنة” إلى إحداث تأثير إيجابي على المحيطات، من خلال التخلص من النفايات من على سطح الماء، وإعادة تدوير البلاستيك أثناء وجوده في المحيطات. إضافة إلى أن المشروع يدعم مشاريع أبحاث المحيطات، ومجموعة من الاستخدامات الثانوية التي سوف تساعد في التخلص من النفايات البلاستيكية ودفع عجلة البحث البيئي. وتحصل المحطة العائمة المتخيلة على طاقتها من الطاقة المتجددة باستخدام طاقة الأمواج والألواح الشمسية التي تغطي البيوت البلاستيكية.
تقع القارة الثامنة في بقعة القمامة الكبرى في المحيط الهادئ. وبحسب الموسوعة البريطانية، فإن هذه البقعة هي منطقة في المحيط الهادئ بين هاواي وكاليفورنيا، تتميز بتركيز عالٍ من النفايات البلاستيكية. وقد قُورنت مساحتها بمساحة ولاية تكساس أو ألاسكا في الولايات المتحدة الأمريكية، أو دولة أفغانستان.
إن القمامة التي تصل إلى المحيط من الساحل الغربي للولايات المتحدة الأمريكية ومن الساحل الشرقي لليابان، تحملها التيارات المائية مثل: تيار كاليفورنيا والتيار الاستوائي الشمالي وتيار شمال المحيط الهادئ وتيار كوروشيو من اليابان، إلى الدوامة شبه الاستوائية في شمال المحيط الهادئ، التي يعمل دورانها في اتجاه عقارب الساعة على جمع المواد الصلبة مثل البلاستيك واحتجازها.
تصميمها
تتكون هذه القارة الخيالية من خمسة أجزاء رئيسة: الحاجز الذي يعمل على جمع النفايات البلاستيكية من المحيط، ويستفيد من طاقة المد والجزر؛ والمجمّع الذي يقوم بفرز النفايات وتحليلها وتخزينها؛ ومركز البحث والتعليم، وهو مكان لدراسة وعرض الجوانب المقلقة بشكل متزايد في البيئات المائية؛ والبيوت البلاستيكية التي تُستخدم لزراعة النباتات بالطريقة المائية المعروفة باسم الزراعة المائية إضافة إلى تحلية المياه؛ والجزء الخامس يتكون من أماكن المعيشة مع مرافق الدعم. وعلى الرغم من أن كل جزء في المحطة العائمة له وظيفته الخاصة والمحددة جيدًا، فإن ترابط جميع الأجزاء يجعلها تحقق الاكتفاء الذاتي.
فالحاجز الذي يطفو على سطح الماء يُسخِّر طاقة المد والجزر لتشغيل التوربينات لجمع النفايات البلاستيكية ونقلها إلى المجمع الذي يقع في المنتصف لمعالجتها. في حين تتولَّى الألواح الشمسية التي تغطي البيوت البلاستيكية، توفير طاقة كافية لتسخين خزانات المياه لتبخيرها وتحليتها. وبعد استخراج المياه العادمة، تُضخ المياه النظيفة المفلترة في خزانات المياه من أجل تحليتها أو استخدامها في زراعة النباتات.
وتشير لينكا بيتراكوفا في مشروعها إلى أن المحيط يعاني، ونحن بحاجة إلى المساعدة في استعادة توازنه من أجل بقاء كوكبنا على قيد الحياة. ولا يمكننا تحقيق ذلك من خلال التكنولوجيا فقط، بل نحتاج إلى منصة متعددة التخصصات لتثقيف الناس وتغيير علاقتهم بالبيئة البحرية. ولعلَّ اليوم هو الوقت المناسب لتخيّل مستقبل أنظف ومستدام بيئيًا.
وعلى الرغم من أن مشروع “القارة الثامنة” مشروع خيالي، وتواجهه صعوبات عديدة، منها التحديات المناخية العنيفة التي تتمثل في الأعاصير القوية، وما يتطلبه من دعم مالي كبير؛ فإنه يقدِّم أفكارًا إبداعية في حل مشكلة بيئية تهدد كوكب الأرض.
اترك تعليقاً