في عام 2007م، وبالتزامن مع إطلاق أول جهاز “أمازون كيندل” للقراءة، أتاح تطبيق أمازون للمؤلفين نشر كتبهم بأنفسهم، وفق ما عُرِف بأسلوب النشر الذاتي. وبعد نحو ثلاثة أعوام أتاحت منصة “كتب غوغل” الإمكانية نفسها، بعد أن كانت قد بدأت في عام 2004م مشروعها لنسخ الكتب لإتاحتها مجانًا، في حال عدم اعتراض الناشرين. فهل شقّ النشر الذاتي طريقه بنجاح في العالم العربي؟
الوسيلة الإلكترونية حديثة، لكن النشر الذاتي قديم قِدم دُور النشر نفسها. فمن بين كبار كتَّاب العالم مَن اضطر إلى اللجوء لهذه الوسيلة، ومن أبرز الأسماء، على سبيل المثال، مارسيل بروست الذي نشر بنفسه المجلدات الأولى من روايته “البحث عن الزمن المفقود” بعدما رفضه الناشرون. وفي القائمة جاين أوستن، وإيميلي ديكينسون، وديريك والكوت، وغيرهم.
وفي مصر هناك نماذج معروفة، فشاعِر قصيدة النثر عماد أبو صالح، طبعَ جميع أعماله على نفقته الخاصة وبتصميمه ورسومه، وحرص على أن يكتب على غلافها الخلفي يُوزَّع مجانًا، أو عبارة أخرى تنأى بعمله عن البيع والشراء والمكسب والخسارة. وعلى الرغم من ذلك، فقد انتشرت قصائد عماد في العالَم العربي كله، ووجدَت بين مُحبيها مَن يؤسّس لها صفحات إلكترونية أو يجمعها ويطبعها في كتب من تنسيقه ليبيعها لمَن يريد بسعر الطبع. لكن يبدو أن عمادًا قد تخلَّى، أخيرًا، عن موقفه المبدئي؛ إذ نشرَ أحدث أعماله “يا أعمى” مع دار “أثر” السعودية ودخل سوق النشر التقليدية طواعيةً.
نموذج آخر، هو الروائي المصري الذي رحل شابًا، محمد ربيع، وكان يُنفّذ كلَّ شيء في رواياته بنفسه حتى الطباعة، ويوزّع النسخ المحدودة على أصحابه ومَن يُـكنُّ لهم تقديرًا خاصًا من الكتَّاب الكبار والنقاد والصحافيين. وكانت مشكلة ربيع مختلفة؛ إذ لن تخاطر أي دار بنشر رواياته الحافلة باختراق التابوهات والسخرية اللاذعة من كل القيم والمؤسسات التقليدية. فقد كان ربيع (وهو غير محمد ربيع صاحب رواية “عُطارد” التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر في إحدى دوراتها) تجريبيًا مُتمردًا مغامرًا، وكان نشره لمؤلفاته بنفسه ردّ فِعل طبيعيًا جدًّا على قوانين وأعراف غير مكتوبة في عالم النشر العادي.
من بين العوامل التي تزيد من ضبابية مشهد النشر الإلكتروني في الدول العربية غياب أرقام الإيداع للكتب الرقمية والصوتية.
لماذا اللجوء إلى النشر الذاتي؟
تتنوع الأسباب التي تدفع كاتبًا ما إلى أن يدفع من جيبه الخاص تكاليف الطَبع، منها أن يكون كتابه طليعيًا لا تقدّره دُور النشر التجارية، أو لرغبته في تفادي الرقابة، أو لأن دُور النشر لا تُقبل على نوع إبداعي معين، مثل الشعر الآن. ومن بين الأسباب كذلك أن بعض هواة الكتابة يُصرّون على نشر نصوص لا ترقى إلى المستوى المطلوب.
في كل الأحوال جاء النشر الإلكتروني ليجعل المهمة أسهل. وقد نشرت القافلة، في عدد (مايو – يونيو 2015م)، مقالًا بعنوان “النشر الذاتي: أهو بداية الاستغناء عن الناشرين؟” تضمن إحصاءات وأرقامًا مُدهشة من حيث دلالتها على تطوُّر آليات النشر الذاتي ودخولها إلى صُلب عملية النشر التقليدي في محاولة لاستيعابها داخل السوق وشروط العرض والطلب.
واقع الحال اليوم
تتيح “كيندل” للمؤلفين بنحو 40 لغة من بينها العربية نشر كتبهم. وتبلغ عائداتها السنوية 300 مليون دولار. ولكن من غير المعروف حجم عائدات الكتب العربية منها؛ إذ لم تزل الأرقام والإحصاءات الدقيقة شِبه غائبة عن المشهد.
ولعلَّ من بين العوامل التي تزيد من ضبابية مشهد النشر الإلكتروني، غياب أرقام الإيداع في الدول العربية للكتب الرقمية والصوتية. وبحسب دراسة وافية أجراها الدكتور خالد عَزَب، حول النشر في العالَم العربي خلال الفترة من 2015م إلى 2019م، ونشرها اتحاد الناشرين العَرب في 2021م، بلغ عدد كتب النشر الذاتي على شبكة الإنترنت في العراق 674 عنوانًا، وفي مصر 1832 عنوانًا، وفي السودان 2274 عنوانًا، وهذا حصر مبدئي في حده الأدنى وقابل للزيادة. ويتضمن الكتاب دراسة دقيقة لأحوال النشر في كثير من الدول العربية، بما في ذلك النشر التقليدي أو الرقمي أو الذاتي.
وثمَّة دراسات أكاديمية عديدة تتناول فُرَص النشر الذاتي وإمكاناته إلكترونيًا في العالَم العربي، من أحدثها كتاب الباحثة فايزة آية الله عبدالملك، بعنوان “النشر الذاتي للكتب الإلكترونية.. الواقع والمستقبل”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2024م، وفي جزء منه تحرص الباحثة على توفير معلومات ثمينة حول دُور النشر الذاتي وخطوات نشر الكتاب الإلكتروني بالتفصيل، بما في ذلك البرامج والتطبيقات وكيفية استخدامها. ولا تفوتها الإشارة إلى أنَّ الكاتب العربي لم يزل بعيدًا عن الانخراط في هذه الممارسة، على الرغم من الوسائل المتاحة والمنصات.
في غياب الإحصاءات العامة، استقصت “القافلة” تجارب بعض الكتَّاب. فقال أحدهم، وفضَّل إغفال اسمه، إن عائدات كتابين من كتبه بلغت ستين دولارًا في عدة سنوات، ولم يستطع صرفها؛ لأسباب بيروقراطية منها عدم تعامل “كيندل” مع البنوك في بلاده.
لكن تجربة الكاتب العربي المقيم بالخارج مع النشر الذاتي تختلف، سواء من حيث سهولة التعامل مع المنصة، أو احتساب ودفع العائدات. فالكاتب المصري جمال عُمر، المقيم في نيويورك، نشر كتابه “الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن” على موقع أمازون، ويقول إنه لا يجد مثل هذه المشكلات؛ لأنَّ لديه حسابًا على أمازون مرتبطًا برقم الهوية الشخصية الخاصة به، وهو مرتبط بحساب له في البنك، فلو كان هناك أي عائد من أمازون فإنه ينتقل تلقائيًا إلى حسابه. لكن، لمَّا كانت الكتب عربية، فلا يوجد حتَّى الآن ما يستحق الحديث عن عوائد حقيقية، “كلها أمور محدودة”، بحسب قوله. “وما زلت أنا المسؤول عن دفع ضرائب الدخل للحكومة الأمريكية في حالة وصول دخل يستحق دفع ضرائب عنه، لكن التجربة متواضعة عمـومًا”. وفي هذا السياق، يحصل الناشرون، وهم هنا الكُتَّاب أنفسهم، على نسبة تُراوح بين %35 و%70 بحسب سِعر الكتاب، كما تُلزم المنصة المؤلفين بألَّا يقل سِعر الكتاب عن دولار تقريبًا، أو بالتحديد 0.99 سِنتًا.
عمومًا، يتفق هذا التصوُّر مع شهادة الكاتب المصري سراج منير، الذي نشر روايته “نياندرتال” في عام2021م على “أمازون كيندل”، باللغتين العربية والإنجليزية؛ إذ يقول إن تجربة نشر روايته نفسها بعد ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية على “كيندل” كانت أفضل؛ لأن إمكانات التسويق كبيرة، وهناك وكالات تساعدك ومجلات تعرض روايتك، وإن كانت مدفوعة. ثمَّ إنه باعَ نسخًا أكثر؛ لأنَّ القرَّاء الأجانب على “كيندل” أكثر عددًا من العرب بمراحل، وعلى الرغم من ذلك يبقى العائد محدودًا بحسب قوله؛ إذ لا يتجاوز مائة دولار كل شهرين أو ثلاثة، وهو مبلغ لا يكفي لتغطية نفقات تسويق الكتاب.
تجربة الكاتب العربي المقيم بالخارج مع النشر الذاتي تختلف من حيث سهولة التعامل مع المنصة، وتحصيل العوائد التي تبقى محدودة.
الجوائز تـكبح النشر الإلكتروني
إلى جانب قلة العائد، هناك أسبـاب أخرى لدى الكاتب العربي تجعل إقباله على النشر الذاتي الإلكتروني ضعيفًا. فدُور النشر المعتمدة هي مَعبره إلى المعارض الدولية، فضلًا عن الجوائز الأدبية، المحلية أو الإقليمية، التي قد تكون عقبة أساسية أمامَ تجارب النشر الذاتي. فما مِن جائزة حتى الآن، لا تشترط طبع الكتاب طبعة ورقية تقليدية، وحصوله على رقم إيداع دولي ومحلي، وهو ما يعني ضمنًا مروره على جميع آليات الفحص والمراقبة والتصنيف والتسجيل الحكومي.
وقد أصبحت الجوائز أمرًا له أهميته بالنسبة إلى الكاتب والناشر، نظرًا لضعف العائد المنتَظر من بيع الكتاب نفسه وعدم حصول الكاتب منه على شيء يُذكَر. لهذا يعوِّل عدد كبير من الكتَّاب في الأنواع الأدبية المختلفة، على فُرص الفوز بإحدى الجوائز، ما يعوِّض جزءًا من تضحياتهم بالجهد والوقت والمال لمصلحة ولعهم بالكتابة.
الجوائز الأدبية في العالَم العربي معضلاتها كثيرة، لكن من بينها ما قد يُشاعُ أحيانًا أن اسم دار النشر يؤدي دورًا حاسمًا في حصول الكتاب على جائزة ما، وربَّما يُطلِق بعض الناشرين أنفسهم هذه الإشاعات لتأكيد نفوذهم وترسيخ سيطرتهم على عملية النشر وتحكُّمهم في الكاتب من الألف إلى الياء.
الطرف الآخر في العملية الأدبية هو القارئ، ومع تأثير وسائط التواصل الاجتماعي أصبح القارئ طرفًا أساسًا في الصناعة، وفي هذا ما فيه من محاسنه ومساوئه، فقد أوشك أن يستولي على دور الناقد الأدبي التقليدي بتقييم الكتب على تطبيقات مثل “غودريدز” (goodreads) أو “أبجد”، كأنَّ أي كتاب، مهما قلَّ شأنه، يمكن الحُكم عليه ببساطة عبر عدد من واحد إلى خمسة نجوم، فضلًا عن ثقة القرّاء بآراء بعضهم ببعض أو بعض المؤثرين أو “البوكتيوبرز”.
هذا القارئ، في كتلته الأساسية، لا يزال مرتبطًا بالكيانات الكبرى لصناعة الثقافة في العالم العربي، فهو ينتظر بلهفة معارض الكتب الكبرى في العواصم العربية المختلفة؛ ليطّلع على جديد دُور النشر ويتزوَّد للعام التالي ببعض الزاد الثقافي والأدبي ما يكفيه لبقية السنة، وخصوصًا إن لم يكن من أبناء العاصمة وليس متاحًا له السفر أو شراء الكتب بسهولة. كما أنَّ القارئ أصبح حريصًا على متابعة الجوائز الأدبية في بلده أو في المنطقة العربية، بقوائمها الطويلة والقصيرة، واقتناء العناوين التي تصل إلى تلك القوائم وما يصاحب هذا كله من حالة جدل موسمية لا تكاد تختلف عن حالة مسلسلات وفوازير رمضان زمنَ الثمانينيات والتسعينيات.
اقرأ القافلة: النشر الذاتي.. أهو بداية الاستغناء عن الناشرين؟ من العدد مايو-يونيو 2015م
التجارب تبقى مقيّدة
قد يعني هذا كله أن الفرص أمام تجارب النشر الذاتي الإلكتروني محدودة ومقيَّدة؛ لأنها لم تصبح بَعدُ جزءًا من السوق الثقافي والأدبي الكبير للعالم العربي، لكنَّ هذا نفسه قد يكون لمصلحة تلك التجارب الفردية والصغيرة. فاتخاذ مسافة من السوق يعني ضمنًا عدم الخضوع لقوانينها واشتراطاتها وذوقها، التي تتحكم فيها روابط قرَّاء بلا بوصلة وبلا تأسيس معرفي، ويسهل التلاعب بهم أو تجنيدهم لصالح كيانات أو ضد أخرى، وأخيرًا، لجان تحكيم الجوائز، وقوائم الأفضل مبيعًا، وإلحاح بعض الكتَّاب في ظهورهم الإعلامي وفي الفضاء الإلكتروني بحيث يصعب التهرُّب من قراءة أعمالهم.
الابتعاد عن هذا كله، إذا اقترن بمحاولات النشر الذاتي، قد يمنح الكاتب قسطًا أوفر من الحرية الإبداعية وسقفًا أعلى من حرية التعبير؛ نظرًا لأنَّه لن يمر عبرَ آليات التصفية والمراقبة والفحص والتهذيب والتقليم. فيدرك أنَّ بوسعه كتابة ما يشاء، غير مقيد بشيء من حيث الموضوع أو اللغة أو الأسلوب، متجاوزًا الحدود التي عاشها أسلافه من الكتَّاب، حتَّى مَن نشروا كتبهم الورقية بأنفسهم؛ لأنَّه لن يُضطر إلى المرور عليهم لتوزيع نسخه، بل يكفيه أن يضغط بعض الأزرار ليصل كتابه إلى مَن يريد، آملًا ألَّا يغوص كتابه في محيط افتراضي من عناوين لا أوَّل له ولا آخِر.
اترك تعليقاً